أَثبتَ في الأفكار، ولا أشد تأثيرًا في النفوس، ولا أقوى زاجرًا عن المنكرات، ولا أقرب للتقوى؛ من غرس القواعد الدينية في قلوب الأطفال في مبادئهم على مقتضى القوانين الشرعية..
لا أَثبتَ في الأفكار، ولا أشد تأثيرًا في النفوس، ولا أقوى زاجرًا عن المنكرات، ولا أقرب للتقوى؛ من غرس القواعد الدينية في قلوب الأطفال في مبادئهم على مقتضى القوانين الشرعية، وليس ذلك سوى حفظ القرآن وتفسيره؛ لأنه هو قوام الدنيا والدين، كما لا يخفى على ذوي الأبصار والبصائر.
وحيث إنه يهمني البحث في هذا الموضوع كما يهم كافة أفراد الأمة الإسلامية، فلا محل إذنْ للغربة إذا تطفلت في هذا المقام على نصراء العالم والعلماء وأرباب الشريعة الغراء باقتراح يهمنا الحصول على نتيجته والوصول إلى فائدته، لِمَا فيه من المنافع العمومية؛ فأقول بعد الاستسماح من حضرات علمائنا الأفاضل: إنه من المعلوم عند أولي الألباب مدى ما نحتاجه من الوصول إلى تأثر الأخلاق، ورسوخ الفضيلة في مَلَكات أفراد الأمة، وغرس الأخلاق في قلوب أبنائها وبناتها منذ نعومة أظفارهم.
وحيث إنه يصعب على الطالب البحث في تلك التفاسير الجليلة؛ لعظمها واتساع شروحاتها وكثرة تعدادها، فماذا على أئمتنا الأفاضل لو اهتموا في جمع مختصر من تلك التفاسير المتعددة، يكون صغير الحجم عظيم الفائدة واضح العبارة سهل المسالك قريبًا لأفهام العامة، يصير نشره في عموم المدارس لترشف من عذب منهله أفراد الأمة الإسلامية، ويعم نفعه في الأقطار الإسلامية؛ إذ لا يخفى على القارئ ما بيننا وبين لغتنا العربية الأصلية واللغة المستعملة الآن من الفرق الشاسع! وكيف أنه لا يُستحصل عليها إلا بالكد والاجتهاد بخلاف ما كان عليه أسلافنا في سالف الزمن؛ فإن القرآن نزل بلسانهم، وعلى أساليب بلاغتهم، فكانوا كلهم يفهمونه، ويعلمون معانيَه في مفرداته وتراكيبه، وكان ينزل جملًا وآياتٍ لبيان التوحيد والفروض الدينية بحسب الوقائع، منها ما هو في العقائد الإيمانية، ومنها ما هو في أحكام الجوارح، ومنها ما يتقدَّم، ومنها ما يتأخَّر ويكون ناسخًا له.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبيِّن المجمل، ويميِّز الناسخ والمنسوخ ويعرِّف أصحابه، فعرفوه وعرفوا سبب نزول الآيات ومقتضى الحال منها منقولًا عنه، ثم نُقل ذلك عن الصحابة ثم تناوله التابعون من بعدهم، ثم نُقل عنهم ولم يزل يُنقل بين الصدر الأول والسلف حتى اتَّسع نطاق المعارف والعلوم ودُوِّنت الكتب، فكُتب الكثير منها، ونُقلت الآثار الواردة فيها عن الصحابة والتابعين إلى أن انتهى ذلك إلى الطبري، والواقدي، والثعالبي، وغيرهم من المفسرين، فكتبوا فيه ما شاء الله أن يكتبوه من الآثار.
ثم صارت علوم اللسان صناعية من الكلام في موضوعات اللغة وأحكام الإعراب والبلاغة في التراكيب، فوُضعت الدواوين في ذلك بعد أن كانت مَلَكات للعرب لا يُرجع فيها إلى نقل ولا كتاب، فتُنوسيَ ذلك وصارت تُتَلقَّى من أهل اللسان فاحتيج إلى ذلك في تفسير القرآن، وصار التفسير على صنفين؛ تفسير نقلي مسند إلى الآثار المنقولة عن السلف، وهي معرفة الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول ومقاصد الآي، وكل ذلك لا يُعرف إلا بالنقل عن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين.
قال ابن خلدون: “وقد أجمع المتقدمون في ذلك، وأوعَوْا، إلا أن كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغث والسمين، والمقبول والمردود؛ والسبب في ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم، وإنما غلبت عليهم البداوة، وإذا تشوَّقوا إلى معرفة شيءٍ مما تتشوق إليه النفوس البشرية من أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب من قبلهم، ويستفيدون منهم، وهم أهل التوراة ومن تبع دينهم والنصارى؛ وأهل التوراة الذين كانوا بين العرب يومئذٍ بادية مثلهم، ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب، وهؤلاء مثل كعب الأحبار، ووهب بن منبه، وأمثالهما، وهُم لا تعلُّق لهم بالأحكام الشرعية سوى ما يتعلق بأخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان والملاحم وأمثال ذلك، فامتلأت التفاسير عندهم من المنقولات في أمثال هذه الأغراض أخبارًا موقوفة عليهم، وليست مما يرجع إلى الأحكام فتتحرى فيه الصحة التي يجب بها العمل، ويتساهل المفسرون في مثل ذلك، ومَلَئُوا كتب التفسير بهذه المنقولات وأصلها عن التوراتيين.
فلما رجع الناس إلى التحقيق والتمحيص، وجاء أبو محمد بن عطية من المتأخرين بالمغرب، لخَّص من تلك التفاسير كلها، وتحرَّى ما هو أقرب إلى الصحة منها، ووضع ذلك في كتاب تداوله أهل المغرب والأندلس، وتبعه القرطبي في تلك الطريقة على منهاج واحد في كتاب آخر مشهور بالشرق.
وأما الصنف الآخر من التفسير، فهو ما يرجع إلى اللسان من معرفة اللغة والإعراب والبلاغة في تأدية المعنى بحسب المقاصد والأساليب، وهذا الصنف من التفاسير قلَّ أن ينفرد عن الأول؛ إذ الأول هو المقصود بالذات، وإنما جاءنا بعد أن صار اللسان وعلومه صناعة، ومن أحسن ما اشتمل عليه هذا الفن من التفاسير كتاب الكشاف للزمخشري، إلا أن مؤلفه من أهل الاعتزال في العوائد؛ فيأتي بحجج على مقتضى مذاهبهم حيث تعرض في آي القرآن من طرق البلاغة بما أوجب انحراف المحققين من أهل السنة عنه، وتحذيرهم الجمهور من مكامنه مع إقرارهم برسوخ قدمه فيما يتعلق باللسان…”.
ولو اختُصر من تلك التفاسير كتاب لكان هو الطريقة المُثلى لحث طالبِي العلم على السير في طريق النجاح، والوصول إلى درجة الفلاح.
__________________
ملخص من كتاب: الرسائل الزينبية لـ “زينب فواز”
Source link