هل يقتص المتضررون من حوادت السير من المتهورين الذين سببو لهم موت غير عمدي أو عاهات مستديمة غير عمدية وآلام نفسية ومعنوية ؟ أم لن يكون هناك قصاص بينهم بالحسنات والسيئات يوم القيامة أمام الله لأن ماينتج عن حوادت السير من موت وعاهات مستديمة بسبب التهور يعتبر غير عمدي ؟؟؟ والقصاص يوم القيامة يكون في العمد فقط ؟
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فقد ذهب أكثر أهل العلم المعاصرين إلى أن أغلب حوادث السير تأخذ حكم القتل الخطأ، وأن الكفارة تدفعها العصبة، فإن لم يدفعوها لزمت القاتل، فمن تجاوز تعليمات السير بقطع إشارة ضوئية حمراء، أو قيادة مركبة بسرعة أو بطريقة متهورة، فتسبب بقتل إنسان، فقد استحق الإثم الكبير؛ لأنه كان سبباً في إزهاق أرواح المسلمين، وفعله من قبيل القتل شبه العمد؛ لأنه لا يخلو من الاستهتار والاستهانة بأرواح الناس
وقد دلت الشريعة المطهرة على أن الواجب على من قتل مؤمنا الدية على العاقلة وهي العصبة من عائلة الأب، والكفارة هي عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمً} [النساء: 92].
ولكن قائد السيارة إن أخذ بكافة الأسباب للسلامة، وكانت السيارة بحالة جيدة من العجلات والمكابح (الفرامل)، والمقود، وغيرها، وكان يجيد القيادة، ويلتزم بقواعد السير وقوانين المرور، ولم يتجاوز السرعة المقررة، وكان صحيح الإدراك والوعي:- فهو غير مؤاخذ بالحادث؛ لأنه خارج عن إرادته، فأشبه الكوارث التي تبتلى بها الناس، ولا يجب عليه حينئذ كفارة ولا دية؛ لأنه غير متسبب، وإن اختل شيء من هذه الشروط كان ضامنا لما يترتب على ذلك، وبالتالي تكون عليه الكفارة وعلى عاقلته الدية.
قال الشيخ ابن باز مفتي السعودية ليس للسائق أن يتعدى الحد المحدود، بل يجب عليه أن يتقيد بذلك، أو يخفض منه احتياطًا، أما الزيادة فلا تجوز له، وإذا فعل ذلك؛ فهو ضامن، ومتعدٍ، ويستحق التأديب والتعزير؛ لأنه بفعله ذلك عرّض نفسه ومن معه للخطر، فلا يجوز له ذلك، حتى ولو كان ليس معه أحد؛ لأنه إذا فعل ذلك فقد عرّض نفسه للخطر.
فالواجب عليه ترك التهور، وترك الزيادة على الشيء المحدود له في السير، والواجب عليه أيضًا عدم تجاوز الإشارة، يقف عند الإشارة، ولو ظن أن ما هناك أحد، يجب أن يقف عند الإشارة، قد يظن، ويخطئ ظنه، يقف عند الإشارة لا يتجاوز الإشارة، ولا يتجاوز الحد المحدود في السير، ومن فعل ذلك استحق التأديب.
هذا؛ ولا شك أن قيادة السيارة بصورة متهورة فعل منكر يستوجب العقاب، وكذلك مخالفته قوانين المرور، وغير ذلك من الأمور التي تعرض حياة الناس وممتلكاتهم للخطر، فكل ذلك يستحق بموجبه العقوبة الصارمة، فقد أوجب أهل العلم الالتزام بالقوانين والنظم التي تنظم شؤون الحياة ما لم تخالف الشرع.
ولا شك أن الاستهتار بحياة الناس ظلم شديد؛ وقد قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8]، وقال تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 132]، وروى أحمد عن عبد الله بن أنيس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “يحشر الناس يوم القيامة أو قال: العباد عراة غرلا بهما، قال: قلنا: وما بهما؟ قال: ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بُعْدٍ كما يسمعه من بُعْدٍ: أنا الملك، أنا الديان، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق، حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق، حتى أقصه منه،حتى اللطمة، قال: قلنا: كيف وإنا إنما نأتي الله عز وجل عراة غرلا بهما؟ قال: بالحسنات والسيئات”
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه “الصارم المسلول على شاتم الرسول” (ص: 493):
“أن صِحة التوبة فيما بينه وبين الله لا تسقط حقوق العباد من العقوبة المشروعة في الدنيا، فإن من تاب من قتل أو قذف أو قطع طريق أو غير ذلك فيما بينه وبين الله، فإن ذلك لا يسقط حقوق العباد من القَوَد، وحد القذف، وضمان المال، فإن كانت التوبة يغفر له بها ذنبه المتعلق بحق الله وحق عباده، فإن ذلك لا يوجب سقوط حقوق العباد من العقوبة”. اهـ. مختصرًا.
والله أعلم.
Source link