الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
اعتنى الإسلام عناية كبيرة ببر الوالدين خاصة حال كبرهما، ولا يبلغ المسلم ذلك إلا بأن يؤثر رضاهما على رضا نفسه، ويطيعهما ما لم يأمراه بمعصية، ويقوم بما يشعر أنه يرغبان فيه وإن لم يطلباه، وهو بعد ذلك يخشى أن يكون مقصراً في حقهما، وقد جاء الأمر القرآني بالإحسان الدائم المتصل -طوال الحياة- بالوالدين، حيث قال -تعالى-: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناًً} في أربعة مواضع من القرآن الكريم، في سورة: [البقرة: الآية 83، في سورة النساء: الآية 36، وفي سورة الأنعام: الآية 151، وفي سورة الإسراء: الآية 23] .
ووصى بذلك بقوله -تعالى-: {وَوَصَّيْنَا الأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [العنكبوت:8]، وجعل بر الأم مقدماً على بر الأب، وإن لم يفرق بينهما في وجوب برهما، قال -تعالى-: {وَوَصَّيْنَا الأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِير} [لقمان: 14].
ولا شك أن الأم أحوج للبر لضعفها، وعدم سعيها للكسب غالباً، خاصة في الكبر، فأولى من يصحبها ويرعاها هو ابنها أو بنتها، ومهما قدم لها أولادها فهم في حقها من المقصرين، يقول الشاعر:
لأمك حق لو علمتَ كبير ** كَثيرُكَ يا هذا لديه يسير
لذا قال -تعالى-: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:24]، وللأسف قد بعدنا عن الإسلام وتربية النشء عليه، فضعف فيهم بر الوالدين، وصار عند البعض من المنسيات أو الثانويات، وسمعنا ورأينا صوراً من عقوق الوالدين يندى لها الجبين.
ثم جاءنا من ينادي في الناس بعيد الأم، يريد تصحيح ما فقدناه من بر الوالدين بسبب ترك الدين؛ بالابتداع في الدين!! فإنما استقى هذا المنادي بعيد الأم دعوته مما رآه عند الغربيين فاستحسنه بهواه وزينه للناس، فظنوه قربة يتقربون بها -لله تعالى- وأنهم بهذا محسنون.
ولو كان في ذلك من الخير ما يقرب إلى الله -تعالى-، لفعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولفعله سلفنا الصالح، وحثوا عليه.
وبر الوالدين عبادة مأمور بها العبد في كل يوم بقدر استطاعته، وأكمل المسلمين من أتمها في كل يوم وأداها كما ينبغي، وتحديد يوم معين وكيفية معينة لبر الوالدين هو تخصيص لهذه العبادة بما لم يأت به الشرع، وأقصى ما يقدمه المرء في هذا اليوم لأمه هو مطالب به طوال أيام العام بقدر استطاعته لإدخال السعادة والرضا على نفسها وأيضاً يفعل ذلك مع أبيه.
وإضافة عيد في حياة الأمة لا يكون إلا بدليل من الشرع.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-:
“العيد: اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد، عائداً إما بعود السنة، أو بعود الأسبوع، أو الشهر، ونحو ذلك”.
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
“العيد: ما يعتاد مجيئه وقصده من مكان وزمان، مأخوذ من المعاودة والاعتياد”، “وكان للمشركين أعياد زمانية ومكانية فلما جاء الله بالإسلام أبطلها، وعوض الحنفاء عنها عيد الفطر وعيد النحر وأيام منى، كما عوضهم من أعياد المشركين المكانية بالكعبة ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر”.أ.هـ. كلامه بتصرف.
قال الشيخ العثيمين -رحمه الله-:
“عيد: اسم لما يعتاد فعله أو التردد إليه، فإذا اعتاد الإنسان أن يعمل عملاً كما لو كان كلما حال عليه الحول صنع طعاماً ودعا الناس فهذا يسمى عيداً، ولأنه جعله يعود ويتكرر، وكذلك من العيد أن تعتاد شيئاً فتتردد إليه”.
احتفال ابتدعوه… فما رعوه حق رعايته:
يزعم مروجو الاحتفال بعيد الأم أنه يقوي الروابط الأسرية ويدخل السعادة عليها، ويشوب ذلك بالإضافة إلى مخالفته للشرع؛ ما يحمله هذا العيد المزعوم من أعباء على دخل الأسرة في هذا الشهر تكلفاً، بل ربما اقترض البعض احتفالاً بهذا اليوم، فالأطفال في سن المدارس يشترون بمصروفهم هدايا لأمهاتهم، ثم عليهم بعد ذلك تكريم معلماتهم في الفصل والناظرة أو المديرة في المدرسة، ولا يكفي مصروفهم لذلك فيضطر الآباء والأمهات إلى تغطية نفقات هذه الهدايا الواجب تقديمها في زعمهم لعدم إحراج أولادهم بين زملائهم وأمام معلماتهم، ثم تواجه السيدات العاملات ضرورة تكريم رئيساتهن في العمل وكبار زميلاتهن بهدايا مناسبة، مجاملة شئن أم أبين.
ويتمادى الأمر فيحتاج الزوج إلى تكريم أم زوجته -حماته- كما يكرم أمه، وتكرم الزوجة أم زوجها -حماتها- كما تكرم أمها، والتكريم بهدايا قيمة ترضي من تقدم إليه إرضاءً تاماً وإلا….
ووسائل الإعلام المختلفة تتولى كبر ذلك كله، ومن ورائهم تنتعش أسواق البيع والشراء، فتكثر “الاوكازيونات” -مواسم التخفيضات-، ويتم ترويج ما بقي من البضائع الشتوية من ملابس وهدايا عند التجار والباعة الذين يسارعون إلى إبراز ما عندهم بصورة جذابة ومبكراً ليحدد كل محتفل بتلك المناسبة ما سيقدمه من هدايا ومشتروات.
أما الأرامل والمسنات ممن لا أولاد لهن فيعشن هذا اليوم في حزن وأسى وربما البكاء؛ وقد هيج احتفال المجتمع بهذه المناسبة مشاعرهن، وهن المحرومات ممن يحتفي بهن من الأولاد، ولهذا نجد من بعض الجمعيات الخيرية الحرص على التخفيف عليهن من هذه الآثار السيئة بزيارة بعضهن والإهداء إليهن.
أما الأيتام فيتملكهم أيضاً الحزن في هذا اليوم، وقد تجدد في نفوسهم الشعور بالحرمان من الأم بينما ينعم من حولهم بأمهاتهم والقرب منهن، ويأتي هذا العيد المزعوم على بعض الآباء فيشعرون بنوع من الأسى لما رأوه من تجاهل المجتمع لدورهم ومكانتهم في أسرهم بقصر التكريم على الأمهات دونهم، لذا سمعنا من ينادي بتخصيص يوم يكون عيداً للأب، أو تسمية عيد الأم بعيد الأسرة، ليكون للأم والأب معاً دفعاً لما ينتاب نفوس الأباء من جراء تجاهلهم.
وبعد:
فإنما الواجب علينا أن نُحي في الأمة -خاصة النشء- بر الوالدين من جديد كما يحبه الله -عز وجل- وعلمه لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقام به سلف الأمة -رضي الله عنهم-، وأن ننبذ ما يخالف ديننا وليس منه من الأعياد والاحتفالات والعادات، فلن يصلح أخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
Source link