المال من زينة الحياة الدنيا، به تقوم مصالح الناس، وتسير حياتهم، وتُقْضى حاجاتهم؛ ولذا كانت النفوس مفطورةً على حبِّه، مجبولةً على الحرص عليه، مستكثرةً منه، مقبلةً على طلبه…
أما بعد، فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [المرسلات: 41 – 44].
أيها المسلمون، المال من زينة الحياة الدنيا، به تقوم مصالح الناس، وتسير حياتهم، وتُقْضى حاجاتهم؛ ولذا كانت النفوس مفطورةً على حبِّه، مجبولةً على الحرص عليه، مستكثرةً منه، مقبلةً على طلبه، غير أن الله بحكمته قد قسم حظَّ الناس منه؛ فجعل منهم الغني والفقير، والبالغ حَدَّ الكفاف والمحتاج حاجةً شديدةً، ليتخذ بعضُهم بعضًا سخريًّا، وليبلى بعضهم ببعض، فيعود من له فضل مال على مَنْ لا مال له، وليُعين القادر على الكسب مَنْ عجز عن التحصيل؛ ومِنْ ثَمَّ كانت الصدقة من أفضل القُرُبات، وجعل حَظَّ الإنسان من ماله بقدر ما تصدَّقَ منه في حياته، قال سبحانه: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل: 20]، وقال صلى الله عليه وسلم: «يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك يا بن آدم من مالِكَ إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدَّقْتَ فأمضيت» ؟!؛ (رواه مسلم).
والصدقة عدا كونها أجْرًا في الآخرة، فإنها سبب لزيادة المال ونمائه في الدنيا، وكيف لا تكون كذلك والله هو الذي قد وعد المُنفِق بأن يخلف عليه، ووكل ملائكةً تدعو في صباح كل يوم للمنفقين بالخلف وللمُمْسِكين بالتَّلَف، قال سبحانه: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39]، وفي الحديث القدسي: قال الله تبارك وتعالى: «يا بن آدم، أنفِقْ أُنْفِق عليك»؛ (رواه البخاري ومسلم)، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما مِنْ يومٍ يصبح العباد فيه إلَّا ملكانِ ينزلان فيقول أحدهما: اللهُمَّ أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، ويقول الآخر: اللهُمَّ أعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا»؛ (رواه البخاري ومسلم).
وإذا كان الناس في هذه الأزمنة مع توفُّر المال وكثرته قد أصبحوا يشتكون من ضيق الصدور وقلة السعادة، فإن من أعظم أسباب ذلك زهدهم في بذل المال لوجه الله، وصدودهم عن ضعفائهم، وعدم التفاتهم لمساكينهم، وغفلتهم عن محتاجيهم، وإلَّا فإن الصَّدَقة من أعظم أسباب شرح الصدور وتيسير الأمور، وتحصيل السعادة والسرور، وبها تُحفَظ البلاد والعباد، وتنزل البركات والرحمات، وهي فلاح وصلاح، وسبب لتفريج الكروب والتطهُّر من الذنوب، وإطفاء غضب الربِّ ودفع البلاء، والوقاية من ميتة السوء والمرض والأدواء، قال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]، وفي مسند الإمام أحمد وحسَّنَه الألباني أن رجلًا شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إنْ أردت أن يلينَ قلبُكَ، فأطعم المسكين، وامسح رأس اليتيم»، وقال عليه الصلاة والسلام: «ابغُوني ضعفاءكم؛ فإنما تُرْزَقون وتُنْصَرون بضعفائكم»؛ (رواه الترمذي)، وأبو داود، والنسائي، وصحَّحَه الألباني.
وقال صلى الله عليه وسلم: «مَثَل البخيل والمُتصدِّق كمَثَل رجلينِ عليهما جنتان من حديد، قد اضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما، فجعل المُتصدِّق كُلَّما تصدَّق بصدقة انبسطت عنه، وجعل البخيل كُلَّما هَمَّ بصدقةٍ قلصت وأخذت كل حلقة بمكانها»؛ (رواه البخاري ومسلم).
وقال صلى الله عليه وسلم: «صَنائعُ المعروفِ تقي مصارعَ السوء، وصدقة السِّرِّ تُطْفئ غضبَ الرَّبِّ، وصلة الرَّحِم تزيد في العمر»؛ (رواه الطبراني، وقال الألباني: حسن لغيره).
وإذا كان كل مؤمن يدعو ربَّه قائمًا وقاعدًا أن يُنجيه من النار، فإن الصَّدَقة من أعظم أسباب الوقاية من النار، ودخول صاحبها في ظِلِّ الله يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّه، قال صلى الله عليه وسلم: «ما منكم أحد إلا سيُكلِّمُه ربُّه ليس بينه وبينه ترجمان ولا حجاب يحجبه، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدَّم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النَّار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشِقِّ تَمْرة»؛ (متفق عليه).
وقال عليه الصلاة والسلام: «سبعةٌ يُظِلُّهم اللهُ في ظِلِّه يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلَّه ومنهم: ورجل تصدَّق بصَدَقةٍ فأخْفاها، حتى لا تعلم شِمالُه ما تُنفِق يمينُه»؛ (رواه البخاري ومسلم).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 9 – 11].
واعلموا- رحمكم الله- أننا مُقبِلون على موسمٍ كريمٍ وشهرٍ عظيمٍ، شهر الجود والإحسان، وموسم النفوس السخيَّة والأكُفِّ النديَّة، إنه المضمار الذي يتنافس الصالحون قبله وفي أثنائه، ويتسابق المحسنون قبل دخوله وقبل انتهائه، وقد كان القدوة عليه الصلاة والسلام أجودَ الناسِ في كل وقت وحين، وكان أجودَ ما يكون في رمضان، فهو فيه أجود بالخير من الريح المرسلة، فاقتدوا بنبيِّكم، واستنزلوا رحمةَ ربِّكم، أدُّوا الزكاة وتصدَّقُوا، وأطعموا الطعام، وأحسنوا إلى الأيتام، وفطِّروا الصائمين، وساهموا في مشروعات التفطير في مؤسسات الخير، وتحرّوا المستحقِّين من الضعفاء والمكروبين والمساكين والمساجين، وتفقَّدوا مَنْ حولكم من أقاربكم وذوي أرحامكم، وأسْعِدُوا المحتاجين من إخوانكم وجيرانكم، وتواصلوا مع الجهات الموثوق فيها والمصرح لها، وساهموا بما تستطيعون ولو قَلَّ، ولا تحتقروا شيئًا ولو صغر، ففي الصحيحين: «من تصدَّق بعدل تمرة من كسب طيب-ولا يقبل الله إلا الطيب– فإن الله يتقبَّلُها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حتى تكون مثل الجبل» .
وبعد أيها المسلمون، فإن رمضان موسم من مواسم التجارة الرابحة، وباب من أوسع أبواب المجاهدة الصادقة، الصيام فيه ليس عن الطعام والشراب فحسب؛ بل هو تدرُّب على صيام الجوارح كلها عن المُحرَّمات، بغض البصر وكفِّ اليد، وحفظ اللسان، وإغلاق الأُذُن وتقصير الخُطا عمَّا حرَّمَ الله، ما أجمل السهر في رمضان إذا كان في المساجد مع المصلين! وما أحسن رفع الصوت بالقرآن مع التالِينَ! ومن غلبه نوم عن الصلاة وتكاسَلَ عن الجماعة، فليتذكَّر أن وراءه نومًا في قبر مظلم وحيدًا فريدًا، ومن استثقل القيام مع الإمام في صلاة التراويح، فليعلم أن وراءه يومًا ثقيلًا مقداره خمسون ألف سنة، ومَنْ حَدَّثَتْه نفسُه بالتهاون والتكاسل أو الإمساك والشُّحِّ، فليتذكَّر قول الله جل وعلا: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7]، وقوله سبحانه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8]، فاللهَ اللهَ، والصبرَ الصبرَ؛ فإن رمضان شهر الصبر، وجاهدوا أنفسكم تهدوا وتوفقوا؛ فقد قال ربُّكم سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
______________________________________________________
الكاتب: الشيخ عبدالله بن محمد البصري
Source link