ما لا تعرفه عن صلاة الفجر!

صلاة الفجر أقسَم الله بزمَنها، وسُميَت سورة باسمها تُتلى إلى يوم القيامة، ثم أشار لها سبحانه إشارة صريحة؛ كما في قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}

الصلاة صلةٌ بين العبد وربِّه وركنُ الإسلام الثاني، وهي أول ما يُحاسَب به العبد يوم القيامة، مأمورون بأدائها في أوقات معلومة؛ {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]، تأمَّل ما فيها من هدوءٍ وسَكينة تسكُن معها جميع الجوارح والأعصاب! في زحمة الحياةِ وتراكُمِ الأعمال تسمع: “حيَّ على الصلاة” فيتوقَّف كلُّ عمل تأهبًا للصلاة، يا لله! ويا لعظمةِ الصلاة! ما إن ننتهي من أدائها حتَّى نشعر بطاقة في أنفسنا تتوهَّج، وكأننا لم نواجه عملاً أو جهدًا قبلها!

 

قد لا يقتصر الأمر على ما نشعر به بدَنيًّا فحَسب، بل حتى على مستوى العقل والتَّفكير؛ فكَم من مُشكِلات حُلَّت بالصلاة! وكم من إبداعات تجلَّت بعد الصلاة! وكم من مُصاب جللٍ تجلَّد أصحابه بالصلاة؛ {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45]!

 

مَن منَّا لم يُشاهد هذا الموقفَ المتكرِّر كثيرًا أمامَنا؛ حيث ينشَغِل أحدهم بسيَّارته؟ يؤذِّن المؤذن للصلاة، ثم تُقام الصلاة وصاحبنا لا يزال مستغرقًا بسيارته، يظن – وبعض الظن إثم – بأنه يستَثمر تلك الدقائق لإنهاء ما في يده! ولكن هيهات! تنتهي الصلاة، يَخرج المصلُّون مِن صلاتهم وهو لم يتوقَّف؛ لا هو أصلحَها، ولا هو صلَّى ليصلح من حاله وحالها! وفي الأثر: إنِّي لأُذنب الذنب فأجِد ذلك في أهلي ودابَّتي!

 

تِلكم الصلاة، وذاك شأنها، لكن ماذا عن صلاة الفجر؟

صلاة الفجر أقسَم الله بزمَنها، وسُميَت سورة باسمها تُتلى إلى يوم القيامة، ثم أشار لها سبحانه إشارة صريحة؛ كما في قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]، وأهلُها مبشَّرون بالنور التامِّ يوم القيامة نظيرَ مشيِهم بالظُّلَم، وبصلاة الفجر والعشاء فكأنَّما قام الليل كلَّه، وفوقَ هذا كلِّه فإنَّ أهل الفجر في ذمَّة الله!

 

رَوى مسلم (657) عن جُندَب بنِ عبدالله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن صلَّى الصُّبحَ فهُو في ذِمَّة الله، فلا يَطلُبَنَّكم الله مِن ذِمَّتِه بشيءٍ فيُدرِكَه، فيَكُبَّه في نار جهَنَّم».

 

قال النوويُّ في “شرح مسلم” (5/ 158): “الذِّمَّة هنا: الضَّمان، وقيل: الأمان”[1].

 

قد يكون ما سبق كافيًا لبيان فضل صلاة الفجر، ودافعًا للحرص على شهودها مع المسلمين بالنسبة للرِّجال، وأن تصلِّيَها المرأة بوقتها وهي في مصلاَّها، ولكن ماذا ستكون حالُ من لم يصلِّها أو نام عنها حتى تطلع الشمس؟

روى البخاريُّ (1144) ومسلمٌ (774) والنَّسائي (1608) وابن حبان (2562) عن عبداللّه بن مسعود رضي اللّه عنه، قال: ذُكر عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ، فقيل: ما زال نائمًا حتَّى أصبح، ما قام إلى الصَّلاة، فقال: «ذاك رجلٌ بال الشَّيطان في أذنه»[2].

 

وفي روايةٍ إسنادها حسَن عند أحمد في المسند أنَّ الحسن البصريَّ قال عقب هذا الحديث: “إن بولَه – واللهِ – ثقيل”[3].

 

هذا الحديث وتعليق الحسن البصريِّ المذكور آنفًا فتَح عليَّ جملة من التساؤلات على النحو التالي:

أوَّلاً: تعامُلنا وردَّة فعلنا مع بول الرَّضيع – أجلَّكم الله – يَختلف في الحدَّة والشدة مع بول البالغ، ونفسيَّاتنا لا تقبل التعامل مع نجاسةِ حيوان يُؤكَل لحمه، فضلاً عن حيوان لا يؤكل لحمه.

 

ثانيًا: خلَق الله جلَّ في علاه الأذنَ بإحكام وإعجاز؛ بحيث لا تقبل بسهولةٍ أن يَدخل فيها الماء، ولو حاول أحدنا أن يحني رأسَه لتدخل قطرة ماء تراه سرعان ما يحاول إخراجها؛ حيث سينزعج ويشعر أنَّ خللاً ما أصاب كيانه!

 

فضلاً عن مشاعر الصَّمم التي تلحق به جرَّاء ما عَلِق بأذُنه، وقد ذكر بعض أهل العلم أنَّ مِن صور إعجاز الخالق سبحانه في أذن الإنسان أنَّ الشمع الذي تحتويه الأذنُ على درجة عالية من الملوحة؛ بحيث لا يمكن للكائنات الصغيرة أن تَعيش فيه؛ الله {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة: 7].

 

ثالثًا: “ورَد ذكر كلمة “سمع” ومشتقَّاتها مائةً وخَمسًا وثمانين مرَّة في القرآن الكريم، وقد تكرَّر تقديم السمع على البصر في جميع الآيات التي تتحدث عن خلق الإنسان”[4]، ولم يكن ذلك إلا لحكمة يعلمها الله ويقدرها جل شأنه، ولك أن تتأمل قُرب السمع من عقل الإنسان وموطنِ تفكيره!

 

رابعًا: بما أن أهمَّ ما في الإنسان عافيتُه، وأهم ما في العافية صحة عقله وسلامة حواسِّه، وبما أن حاسوب الإنسان الشخصيِّ وهو جماد يتأثَّر ويصيبه العطب جرَّاء سكبِك الماءَ عليه وهو نقي؛ فكيف بعقل الإنسان – وهو الحاسوب الفعليُّ للإنسان – الذي به كل خبرات الإنسان وتجارِبه على مدار حياته، وهو موطن اتخاذ القرارات الصائبة، وبه – بعد استعانته بمولاه وخالقه – يحلُّ مشكلاته، ويحقق ما يصبو إليه من إنجازات؟! لا أقول: يصب فيه يوميًّا قطرات من ماء نقي، بل سائل من أشد السوائل تعقيدًا وتركيبًا؛ حيث أشارت دراسةٌ حديثة إلى أن البول يَحتوي على ما لا يقلُّ عن 3079 مركبًا كيميائيًّا[5]!

 

بل لك أن تتصوَّر ممن يصِلُك هذا السائل؟ من أشدِّ وألد أعدائك، وهو الشيطان؛ {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6].

 

خامسًا: لاحِظ بعد كلِّ ما ذكرنا أن الله سبحانه ذكَر في كتابه الكريم ما يوضح الغاية الإيجابيَّة من السماع؛ كما في قوله: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 18]؛ أي: إن كل قول نسمعه فنتَّبع أحسن ما فيه من قولٍ أو فعل، نكون بذلك ممن نال هداية الله وتوفيقَه ورضاه، وصرنا بنصِّ القرآن من أهل العقول والفِطَر السليمة.

 

وخلاصة القول أنَّ الاستمرار بالتهاون في أداء الفجر حتى طلوع الشمس على ما فيه من وِزر لعدم إقامة الصلاة في وقتها – يحجب عنك مواطنَ الفهم الصحيح والقرار الصائب لكلِّ ما تواجهه في حياتك، وعملية الفهم السليم هي خلاصة ما مر بك من تجارب وخبرات، وما تعلمته أو لا زلت تتعلَّمه في محطات الحياة.

 

وقد يقول قائل: ما بال العلماء من غير المسلمين من المتقدِّمين أو المتأخرين كانوا ولا زالوا الأصلُ فيهم هو العبادة لغير الله، فكيف بموضوع الصلاة؟!

وللإجابة أقول: الذي أراه والله تعالى أعلم أنَّ هذا من جملة ما سخَّر الله لعباده من النِّعم التي امتن الله بها على عباده؛ لقد سخَّر الله الليلَ والنهار وتعاقُبَهما، والفُلكَ التي تجري في البحر بأمره، والأنعام ونحو ذلك مما أوجده الله وسخَّره، ومن ذلك المنجزاتُ العلمية أو الطبِّية؛ فهي مما ألهم الله بها العلماء لغايةٍ وحكمة قد يكون منها عبادتُه وشكره على تلك النعم، واستعمالها فيما يَأمر به أو يرضى عنه، فكما أن الكهرباء قد أعانت على القيام والذِّكر وقراءة القرآن؛ فإن هناك من يسهَر بها على اللهو والمنكَرات، وكما أن البواخر والطائرات من النعم العظيمة التي سهلت ومكَّنَت من إغاثة المنكوبين وإعانة المساكين، استغلَّها البعض في جلب المنكرات، وألوان الموبقات، ثم – من زاوية خاصة – لا أحفل بطبيب ماهر وحاذق في مجاله يُفترض به أن يقدر العقل والدماغ، ثم يعمد في نهاية الأسبوع لشُرب المسكِرات، على ما فيها من تغييبٍ واضح للعقل، وتأثير بالغ في الصحة البدنية، وقِس على ذلك العالِمَ أو البروفيسور في مجال ما، ثم تجده فردًا من أسرة مفكَّكة، أو مجتمع رخيص نخَر فيه سوس الشذوذ، وتفشَّت فيه العلاقات المحرمة!

 

إن أقصى ما يمكن أن يصيب ذلك المتهاوِنَ في أداء الفجر هو غياب التوفيق، وهو معنًى من معاني النجاح، ويفقد بركة يومه، وفي الحديث: «اللهم بارِك لأمَّتي في بكورها»، والبركة ببساطة تعني الإنجازَ بأقل جهد وأيسر تكلفة.

 

ولا أظن الأسرار ستقف عند ما ذكرنا بل لعل واحدًا من أهل العلم المبارَكين يرى في هذا الطرح شرارة تقدح في ذهنه للبحث في زاوية محددة تتعلَّق بصلاة الفجر وما يمكن أن تكتَنِفه من خيرات، أو تحتويه من آثار؛ قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53].

 


[1] موقع الإسلام سؤال وجواب.

[2] نفس المصدر السابق.

[3] موقع طريق الإسلام.

[4] حاسة السمع بين القرآن والعلم الحديث – الدكتور حسني حمدان – موقع الألوكة.

[5] موقع أنا أصدق العلم.

_________________________________________________________

الكاتب: أ. صالح أحمد الشمري


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

الشدة والفرح – علي بن عبد العزيز الشبل

«إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ» جاءت هٰذِه الكلمة دلالةً عَلَىٰ ما في قلوب المؤمنين، من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *