[*]
كان شهـر رمضان من أعظم مواسم الإسلام وأجلها، ومن أكثر الفرص السانحة أمام العبد لكي يتقرب من الله تعالى وينال رضاه، كانت هذه المحاولة للتعرف على هديه صلى الله عليه وسلم في رمضان، علّها تكون دليلاً للعاملين ونبراساً للسائرين، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
أمر الله تعالى عباده باتباع نبيه صلى الله عليه وسلم، وأوجب عليهم طاعته. وسبيل العبد للوصول إلى تحقيق ذلك هو التعرف على هديه صلى الله عليه وسلم، والحال التي كان عليها صلى الله عليه وسلم في شأنه كافة. وليس بخافٍ على مسلم أن الهدي النبوي هو أكمل ما عُرف من هدي وأعظمه، وأنه بمقدار قرب العبد منه صلى الله عليه وسلم وعمله بمثل عمله صلى الله عليه وسلم يتدرج في سلم الوصول إلى العلا، ويصعد في مراقي الكمال البشري.
ولما كان شهـر رمضان من أعظم مواسم الإسلام وأجلها، ومن أكثر الفرص السانحة أمام العبد لكي يتقرب من الله تعالى وينال رضاه، كانت هذه المحاولة للتعرف على هديه صلى الله عليه وسلم في رمضان، علّها تكون دليلاً للعاملين ونبراساً للسائرين، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب. وخشية من طول الموضوع [*]، ولأن المراد الإشارة مع نوع تركيز على الجوانب التي تهم المسلم عملاً ودعوة فسأجعل الموضوع مقتصراً على محاور أربعة:
أولاً: حاله صلى الله عليه وسلم مع رمضان قبل قدومه: كان صلى الله عليه وسلم شديد الزهد في الدنيا عظيم الرغبة فيما عند الله تعالى والدار الآخرة، وخير دليل على ذلك: قيامه صلى الله عليه وسلم عملياً بالاستعداد للأمر وتهيئته النفس لاستقبال رمضان مقبلة على الخير، نشيطة في الطاعات؛ لتغتنم الفرصة كاملة، وتهتبل الموسم كله. هكذا كان هدي سيد الورى صلى الله عليه وسلم مع رمضان؛ إذ قام صلى الله عليه وسلم بالعديد من الأمور قبله، لعل من أبرزها:
* إكثاره صلى الله عليه وسلم من الصيام في شعبان [1]. قالت عائشة: «لم أره صائماً من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان، كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلاً» [2].
* تبشيره صلى الله عليه وسلم أصحابه بقدومه وتهيئتهم للاجتهاد فيه بذكر بعض خصائصه وتضاعف الأجور فيه؛ ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل! ويا باغي الشر أقصر! ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة» [3].
* بيانه صلى الله عليه وسلم لأصحابه بعض الأحكام الشرعية المتعلقة بالصيام: وفي هذه المقالة جملة من ذلك.
* عدم دخوله صلى الله عليه وسلم في صيام رمضان إلا برؤية شاهد أو إتمام عدة شعبان ثلاثين، عن ابن عمر قال: «تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصامه، وأمر الناس بصيامه» [4]. فأين أنت من التهيؤ لرمضان قبل نزوله، فهو ضيف غنيمة لهذه الأمة، ينزل عليهم، فيذكر غافلهم، ويعين ذاكرهم، وينشِّط عالمهم، ويشحذ همهم للطاعات، فتمتلئ مساجدهم، وتجود نفوسهم، وينتصر مجاهدهم… فما أحقه بأن تعدّ العدة لاستقباله!
ثانياً: أحواله صلى الله عليه وسلم مع ربه في رمضان: كان نبي الهدى عليه الصلاة والسلام أعرف الخلق بربه سبحانه، وأعظمهم قياماً بحقه… تدرج في سلم الكمال البشري فبلغ مبلغاً يعجز عن فهمه أكثر العالمين، فقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر! ثم هو يقوم من الليل حتى تنتفخ وتتفطر قدماه. كان له صلى الله عليه وسلم بكاء المذنبين وأنين العاصين ودعاء المكروبين. وأحواله مع ربه في رمضان أنموذج حي يصوِّر عبادته صلى الله عليه وسلم وأشكال خضوعه لبارئه فينطق محدِّداً جوانب عدة، أبرزها:
* صيامه صلى الله عليه وسلم لشهر رمضان: وهذا بيِّن، والمراد من إيراده مع بداهته التذكير بشيء من صفة صيامه صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك:
1- سحوره صلى الله عليه وسلم، وتأخيره للسحور، حيث كان صلى الله عليه وسلم يتناوله قبل أذان الفجر الثاني بقليل، وكذا إفطاره، وتعجيله للإفطار، حيث كان صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي المغرب، وكان يفطر على رطب أو تمر أو ماء. وأيضاً: تواضع إفطاره وسحوره صلى الله عليه وسلم.
ندرك هنا أن التكلف الذي نشهده اليوم في إفطار الناس وسحورهم هو أبعد شيء عن هديه صلى الله عليه وسلم؛ ذلك أنه يوسّع حظ النفس بما يلهي ويثقل عن الطاعة. فحري بالكيس الحازم أن يضبط الأمر ويحدَّ منه، دون التذرع بالواهي من الحجج، من تناول الطيب وإكرام الضيف… بما يفوت خيراً كثيراً. وليتأس بنبيه صلى الله عليه وسلم فيما عرف من أحواله.
2- دعاؤه صلى الله عليه وسلم عند الإفطار، بقوله: «ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله» [5].
3- سواكه صلى الله عليه وسلم في حال الصيام، لما رُوِيَ عن عامر بن ربيعة قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي يتسوك وهو صائم» [6].
4- صبه صلى الله عليه وسلم الماء على رأسه وهو صائم، لحديث أبي بكر ابن عبد الرحمن قال: عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرْج يصب على رأسه الماء وهو صائم من العطش أو من الحر” [7].
5- وصاله صلى الله عليه وسلم الصيام أحياناً ليوفر ساعات ليله ونهاره على العبادة[8]. عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تواصلوا. قالوا: إنك تواصل، قال: لست كأحد منكم، إني أُطعم وأُسقى أو إني أبيت أُطعم وأُسقى» [9].
6- سفره صلى الله عليه وسلم في رمضان، وصومه صلى الله عليه وسلم في حين وفطره في آخر. عن طاوس عن ابن عباس قال: “سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فصام حتى بلغ عسفان، ثم دعا بإناء من ماء فشرب نهاراً ليريه الناس فأفطر حتى قدم مكة، قال: وكان ابن عباس يقول: صام رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر وأفطر، فمن شاء صام ومن شاء أفطر” [10]. قال ابن القيم: “ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم تقدير المسافة التي يفطر فيها الصائم بحدِّ، ولا صح عنه في ذلك شيء… وكان الصحابة حين ينشئون السفر يفطرون من غير اعتبار مجاوزة البيوت، ويخبرون أن ذلك سنته وهديه صلى الله عليه وسلم، قال محمد بن كعب: أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفراً، وقد رُحِّلت له راحلته، ولبس ثياب السفر، فدعا بطعام فأكل، فقلت له: سنة؟ قال: سنة، ثم ركب” [11]. ومهما نقل عن أئمة الفقه، وأهل العلم في الأفضل من الفطر، أو الصوم في السفر فيبقى أن الصوم والفطر في السفر، كل ذلك من هديه صلى الله عليه وسلم، وهذا ما ينبغي أن يراعيه المتعجلون بالإنكار على المفطرين أو الصائمين في السفر… فلكل مأخذه وحجته.
7- خروجه صلى الله عليه وسلم من الصيام برؤية محققة أو بإتمام الشهر ثلاثين، يدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، وانسكوا لها، فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين، فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا» [12].
هذه بعض الجوانب التي تجلي للمسلم شيئاً من صفة صومه صلى الله عليه وسلم، والتي يظهر صلى الله عليه وسلم من خلالها حريصاً على الإتيان بمستحبات الصوم وآدابه. وهذا ما يدفع المسلم إلى أن يتأمل في صيامه، ويعمل على تحسين حاله، ليكون أشد تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأكثر قرباً منه.
* قيامه صلى الله عليه وسلم الليل في رمضان. ولعل أبرز ما تميز به قيامه صلى الله عليه وسلم ما يلي:
1- أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يزيد في قيامه على إحدى عشرة ركعة، أو ثلاث عشرة ركعة، كما يدل لذلك حديث عائشة قالت: “ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة”، وحديثها الآخر قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة، ثم يصلي إذا سمع النداء بالصبح ركعتين خفيفتين” [14].
2- أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يقوم الليل كله، بل كان يخلطه بقراءة قرآن وغيره، يدل لذلك حديث عائشة قالت: “ولا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة، ولا قام ليلة حتى أصبح، ولا صام شهراً كاملاً غير رمضان”[15]، وحديث ابن عباس، وفيه: “وكان جبريل يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه صلى الله عليه وسلم القرآن” [16].
3- أن غالب قيامه صلى الله عليه وسلم كان منفرداً؛ خشية أن يُفرض القيام على أمته. لقد كان شديد الخوف أن يفرض عليها القيام فيقصِّر فيه أناس فيأثموا.. هذا مع شدة حرص صحابته الكرام على أن يقوم بهم غالب الليل أو كله، لكنه ينظر لمن بعدهم، وكأنه يرى ضعفنا وشدة عجزنا. وفي هذا درس بليغ للدعاة أن يجمعوا مع الاجتهاد وبذل غاية الوسع في هداية الأمة ودعوتها.. خوفاً شديداً من وقوعها في الإثم رحمة بها.
4- إطالته صلى الله عليه وسلم لصلاة القيام؛ فقد سئلت عائشة: كيف كانت صلاة رسول الله في رمضان؟ فقالت: «ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة: يصلي أربعاً فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً، فقلت: يا رسول الله، أتنام قبل أن توتر؟ قال: يا عائشة! إن عينيَّ تنامان ولا ينام قلبي» [17].
وبذا يتجلى لنا خطأ كثير من الحريصين على الاقتداء به صلى الله عليه وسلم، والذين يحرصون على التأسي به في العدد دون الكيفية: من إطالة وخشوع وطمأنينة، نسأل الله تعالى التوفيق للصواب.
* مدارسته صلى الله عليه وسلم القرآن مع جبريل عليه السلام فعن ابن عباس: “كان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه صلى الله عليه وسلم القرآن”[18]. وفي رواية: “فيدارسه” [19] وهذه صيغة فاعلة تفيد وقوع الشيء من الجانبين[20].
فإذا كان هذا الحرص وتلك العناية بمدارسة القرآن ممن جمع الله له القرآن في صدره، وتولى تفهيمه إياه، فما أحوجنا إلى مثل هذه المدارسة لننعم بهداية القرآن الكريم؟
* تواضعه وزهده صلى الله عليه وسلم: وشواهده كثيرة، منها: سيلان ماء المطر من سقف المسجد على مصلاه صلى الله عليه وسلم وسجوده في ماء وطين[21]، وصلاته صلى الله عليه وسلم قيام الليل على حصير [22]، واعتكافه صلى الله عليه وسلم في قبة تركية على سدتها حصير [23]، واعتكافه صلى الله عليه وسلم في بيت من سعف [24]، وتواضع فطوره وسحوره صلى الله عليه وسلم، كما تقدم، ومنها: قلة طعامه صلى الله عليه وسلم. قال عبد الله بن أنيس: “فأُتي -أي: النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان- بعشائه فرآني أكفُّ عنه من قلِّته” [25].
ومن هذا يتبين أن الأقرب إلى هديه صلى الله عليه وسلم هو التواضع والزهد وهو: ترك ما لا ينفع في الآخرة، والتقلل من نعيم الدنيا، والحرص على الاخشيشان والبذاذة والتبسط وترك التكلف الذي يكون دافعه تواضع القلب لله تعالى وإخباته له، وإقباله عليه، وطمأنينته ورضاه به، وتعلقه بنعيم الآخرة الباقي، وهذه حقيقة الزهد، لا أن نترك ذلك ظاهراً والقلوب شغوفة متطلعة إليه مشغولة به، فتلك عبودية الدنيا كعبودية الدرهم والدينار.
* إكثاره صلى الله عليه وسلم من الإحسان والبر والصدقة. قال ابن عباس: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة” [26]. وعلة زيادة جوده صلى الله عليه وسلم في رمضان: “أن مدارسة القرآن تجدد له العهد بمزيد غنى النفس، والغنى سبب الجود” [27]. إنه أثر القرآن… وثمرة الزهد، وكفى!!
* جهاده صلى الله عليه وسلم في رمضان، وجعله منه شهر بلاء وبذل وفداء، ويتجلى ذلك بأمرين:
الأول: غزوُه صلى الله عليه وسلم للمشركين في رمضان، وكون أعظم انتصاراته صلى الله عليه وسلم وأجلّها والمعارك الفاصلة التي تمت في حياته كانت فيه. قال أبو سعيد الخدري: “كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان” [28]، وقال عمر بن الخطاب قال: “غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان غزوتين يوم بدر والفتح، فأفطرنا فيهما” [29].
الثاني: السرايا والبعوث العديدة التي كانت في رمضان، وهي كثيرة [30].
وجهاده صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع اجتهادهم في العبادات الأخرى دلالة على أثر الصيام الإيجابي فيما يورثه لصاحبه من قوة في النفس تورث قوة في الجسد.
على أن ما يحتاجه الجسم من الغذاء أقل مما نتصوره اليوم، وإنما تخور قوى الصائمين المترفين الذين ألفوا الملذات فجهدت نفوسهم بغياب ملذاتها وشهواتها وتأخرها عنهم؛ إذ لنفوسهم على قلوبهم غلبة وسلطان، والله المستعان.
* اعتكافه صلى الله عليه وسلم وخلوته بربه سبحانه: والمتأمل في حاله في الاعتكاف يلحظ ما يلي:
1- اعتكافه صلى الله عليه وسلم في المدينة في رمضان من كل سنة، وتقلبه صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف في كل عشر من الشهر، ثم استقراره في آخر الأمر على الاعتكاف في العشر الأواخر منه، لإدراك ليلة القدر.
2- أمره صلى الله عليه وسلم بأن يُضرب له خباء في المسجد يلزمه يخلو وحده فيه بربه [31]. قال ابن القيم: “كل هذا تحصيلاً لمقصود الاعتكاف وروحه، عكس ما يفعله الجهال من اتخاذ المعتكف موضع عشرة ومجلبة للزائرين، وأخذهم بأطراف الأحاديث بينهم، فهذا لون، والاعتكاف النبوي لون، والله الموفق” [32].
3- دخوله صلى الله عليه وسلم معتكفه إذا صلى فجر اليوم الأول من العشر التي يريد اعتكافها، يدل لذلك قول عائشة: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر، ثم دخل معتكفه” [33].
4- حرصه صلى الله عليه وسلم وهو معتكف على حسن مظهره ونظافة جسده، كما في ترجيل عائشة شعره.
5- زيارة أزواجه صلى الله عليه وسلم في حال اعتكافه وحديثه معهن، يدل لذلك حديث صفية قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفاً فأتيته أزوره ليلاً فحدثته ثم قمت..” [34].
6- عدم خروجه صلى الله عليه وسلم من معتكفه إلا لحاجة، يدل لذلك قول عائشة: أنه صلى الله عليه وسلم “كان لا يدخل البيت إلا لحاجة، إذا كان معتكفاً”[35] وربما أخرج بعض جسده من المعتكف لحاجة، كترجيل رأسه [36].
7- خروجه صلى الله عليه وسلم من معتكفه مصبحاً لا ممسياً من الليلة التي تلي اعتكافه، كما في حديث أبي سعيد الخدري |أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأوسط من رمضان، فاعتكف عاماً حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين، وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه” [37].
وفي اعتكافه صلى الله عليه وسلم وانقطاعه من نفسه ليجتهد في ذكر ربه وعبادة مولاه مع كونه المنتصب لدعوة الناس القائم بشؤون الأمة: دليل على مسيس حاجة الدعاة إلى أوقات خلوة ومراجعة ومحاسبة، وإن التقصير في ذلك يرسخ عيوب النفس ويزيد أمراضها، حتى تكون مزمنة، كما أن حرمان القلب من زادِهِ مورث لقسوته وغفلته وقلة بصيرته وفُرقَانه، وأيضاً فإن ترك استمداد عون المعين طريق الخذلان. ومن أفضل السبل لتدارك ذلك: الخلوة بالنفس لتجديدها، ولا أفضل من الاعتكاف لتحقيق ذلك. وقد كثر في الناس ترك هذه السنة المباركة، قال الإمام الزهري: “عجباً للمسلمين! تركوا الاعتكاف، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم، ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل” [38].
* حرصه صلى الله عليه وسلم على تحري ليلة القدر.
* اجتهاده صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر وتركه النوم في لياليها.
قالت عائشة: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجد وشد المئزر” [39].
* حرصه صلى الله عليه وسلم على مخالفة أهل الكتاب في أعمال رمضان، وهذا بيِّن من قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الناس بخير ما عَجَّلُوا الفطْر. عَجِّلُوا الفطر فإن اليهود يؤخرون» [40].
* إكثاره صلى الله عليه وسلم من العمل في رمضان في آخر حياته. عن أبي هريرة قال: “كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام مرة، فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه، وكان يعتكف كل عام عشراً، فاعتكف عشرين في العام الذي قبض فيه” [41].
تلك معالم بارزة وصور مضيئة في صون الحبيب صلى الله عليه وسلم لأشرف علاقة في حياة الإنسان، وتحقيقه لغاية المحبة لمولاه عز وجل بقيامه بأمره ورعايته لدينه وتكميله لطاعته. إنها النبراس لسالك الصراط المستقيم، من حاد عنها اضطرب أمره وتفرق شأنه، ولم يزل في عوج ولُجَج حتى يبغي طريقاً إلى سنته صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: أحواله صلى الله عليه وسلم مع زوجاته في رمضان: من تتبع حاله صلى الله عليه وسلم مع زوجاته في رمضان علم مدى التوازن الضخم الذي كان محققاً له صلى الله عليه وسلم في حياته؛ إذ كان صلى الله عليه وسلم كما وصف نفسه: «إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا» [42]، «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي» [43]. وتبرز أحواله مع أهله مما يلي:
* تعليمهن: ومن ذلك: أن عائشة قالت: يا رسول الله، أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: «قولي: اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني» [44]، وحديثها أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال، وكان بلال يؤذن حين يرى الفجر»[45]، بل إن إخبارهن بجانب من عشرتهن وما علمنه من حاله صلى الله عليه وسلم كان طريق الأمة لمعرفة كثير من هديه صلى الله عليه وسلم في رمضان وذلك لا يخفى.
* حثه صلى الله عليه وسلم لهن على فعل الخير وإتيان العمل الصالح؛ حيث أرسل إليهن للصلاة مع الناس خلفه [46].
من هذه الآثار ندرك حكمة من حِكَم تعدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وكثرتهن مع انشغاله بأمر الأمة؛ فقد كان ذلك جزءاً أساساً من عملية إرشاد الأمة وتعليمها الإسلام كافة بكل جوانبه الشمولية، ولم يكن شيء من ذلك يتحقق لولا عنايته عليه الصلاة والسلام بتعليمهن: إرشاداً وتوجيهاً وإجابة وبياناً وترغيباً وترهيباً. وهذا فوق أنه منطلق دعوي مهم، فهو رعاية للمسؤولية الأولى، وحفظ لكيان البيت والأسرة من الجهل والكسل، فَحَيَّ على أسركم يا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم و{قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6].
* حسن عشرته صلى الله عليه وسلم لهن. ومن الأمور الدالة على ذلك:
1- مواقعته صلى الله عليه وسلم لهن في غير العشر الأواخر، يشهد لذلك حديث عائشة قالت: “كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله”[47]، قال ابن حجر: “قوله: شد مئزره: أي: اعتزل النساء” [48].
2- تقبيله صلى الله عليه وسلم لزوجاته ومباشرته لهن وهو صائم، قالت عائشة: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّل في شهر الصوم” [49]، وسألها الأسود و مسروق: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر وهو صائم؟ قالت: “نعم، ولكنه كان أملككم لإربه” [50].
3- مراعاته صلى الله عليه وسلم لهن وحرصه على الاستقرار الأسري؛ إذ ترك الاعتكاف في سنة كما تقدم، خشية على نسائه من أن يقع بينهن أو في نفوسهن شيء [51].
4- زيارة نسائه صلى الله عليه وسلم له في معتكفه وتبادله الحديث معهن ساعة، وخوفه صلى الله عليه وسلم عليهن وحمايته لهنَّ، قالت صفية: “كان صلى الله عليه وسلم في المسجد وعنده أزواجه فَرُحْن، فقال لصفية بنت حيي: لا تعجلي حتى أنصرف معك، وكان بيتها في دار أسامة، فخرج صلى الله عليه وسلم معها” [52].
5- اعتناؤه صلى الله عليه وسلم بمظهره وتنظيفه لجسده.
فأين هذا ممن حظ أهله من أخلاقه أسوؤها، ومن أوقاته آخرها، ومن تفكيره فضلته، ومن اهتمامه ثمالته… حتى ما عادوا يطمعون في بره، ولا يأملون في خيره؟! ثم هو يرجو منهم براً وإحساناً! إنك لا تجني من الشوك العنب!.
* خدمة نسائه صلى الله عليه وسلم له، ومن ذلك: تغسيل زوجه صلى الله عليه وسلم رأسه وترجيلها لشعره وهو صلى الله عليه وسلم معتكف كما عرف، وضرب زوجه الخباء له صلى الله عليه وسلم في المسجد ليعتكف فيه[53]، وضرب زوجه الحصير له صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه وطيها له [54]، ومنه: إيقاظ أهله صلى الله عليه وسلم له، كما في حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أُريت ليلة القدر، ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها، فالتمسوها في العشر الغوابر» [55].
* إذنه صلى الله عليه وسلم لزوجاته بالاعتكاف معه.
* قيامهن ببعض العبادات معه صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك:
1- الاعتكاف؛ والظاهر أن غالب زوجاته لم يكن يعتكفن معه صلى الله عليه وسلم في حياته، أما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فالظاهر اعتكافهن بعده، يدل لذلك حديث عائشة: “أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده” [56].
2- قيام الليل في بعض ليالي رمضان جماعة في المسجد، يدل لذلك حديث أبي ذر، وفيه: “ثم لم يصلِّ بنا حتى بقي ثلاث من الشهر وصلى بنا في الثالثة، ودعا أهله ونساءه فقام بنا حتى تخوفنا الفلاح، قلت له: وما الفلاح؟ قال: السحور” [57].
* زواجه صلى الله عليه وسلم ببعض نسائه في رمضان. كزينب بنت خزيمة أم المساكين [58]، و حفصة، و زينب بنت جحش، [59].
وبعد: فإن من أوكد الواجبات بداية الرجل عموماً والداعية خصوصاً بتعليم أهله وقرابته، قال تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، وإذا كان إنفاق الرجل على أهله أفضل من الصدقة وأعظم منها أجراً [60]، فإن تعليمه وحسن معاملته لهم أفضل وأعظم أجراً من تقديم ذلك لغيرهم مع الأهمية في كلٍ، فنحن بحاجة إلى إحياء شعار: “ابدأ بمن تعول” [61]، مع بَعْثِ منهج التوازن والوسطية النبوية التي لا تهمل جانباً على حساب آخر.
رابعاً: أحواله صلى الله عليه وسلم مع أمته في رمضان: حاله صلى الله عليه وسلم مع أمته في رمضان هو جزء لا يخرج عن الصورة العامة لهديه في سائر العام، مع مزيد توجيه وتعليم فيما يخص رمضان، وقد تقلب صلى الله عليه وسلم مع صحابته في هذا الشهر بين أحوال عدة، جملتها فيما يأتي:
* تعليمه صلى الله عليه وسلم لأصحابه. ومن ذلك: حديث شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على رجل بالبقيع، وهو يحتجم، وهو آخذ بيدي، لثماني عشرة خلت من رمضان، فقال: «أفطر الحاجم والمحجوم» [62].
والتعليم مهمة الأنبياء وأتباعهم، قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً» [63]، وقال الأسود بن يزيد: “أتانا معاذ بن جبل اليمن معلماً وأميراً” [64]، وهي مهمة شريفة عليَّة الرتبة، بها يرتفع شأن صاحبها، ويعظم أجره، ويزيد برُّه، ويعم خيره، ويبقى ذكره… وللدعاة في رمضان فرصة دعوية سانحة حريّة بالاغتنام مع بذل غاية الجهد في تعليم الناس وتفقيههم وتعريفهم حقيقة الإسلام والإيمان، واستغلال إقبالهم على المساجد في استصلاح قلوبهم وأعمالهم.
* إرشاده صلى الله عليه وسلم لأصحابه وتوجيهه ووعظه لهم. ومن ذلك: حديث ابن عمر قال: «اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان، فاتُّخِذَ له فيه بيت من سعف، قال: فأخرج رأسه ذات يوم، فقال: إن المصلي يناجي ربه عز وجل فلينظر أحدكم بما يناجي ربه، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة» [65].
* تحفيزه صلى الله عليه وسلم لأصحابه على المبادرة في العمل الصالح وبيان ثواب ذلك لهم. ومنه: حديث أبي هريرة في الحث على الصيام، وفيه: «والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها» [66].
وتحفيزه صلى الله عليه وسلم دليل على حرصه على نفع صحبه الكرام، وعلى أن النفوس مهما بلغت من الكمال والمسابقة في الخيرات لا تستغني عن النصح والتوجيه ترغيباً وترهيباً. وقد أفرط قوم في ذلك فصار حديثهم يكاد لا يخرج عن ذلك في رمضان وغيره! حتى ألفته النفوس وملَّته، وفرّط آخرون فصار حديثهم جافاً غليظاً لما أهملوا خطاب القلوب وتحريك العاطفة، في الوقت الذي أهمل فيه الأولون خطاب العقل وتحريك الفكر. ومنهج القرآن بين هذين، فليكن لأتباعه منهجاً.
* إفتاؤه صلى الله عليه وسلم لمن سأله من أصحابه، وعدم معاتبته لمن أذنب وجاء تائبا مستفتياً. فعن عائشة قالت: «أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد في رمضان، فقال: يا رسول الله! احترقت احترقت! فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شأنه؟ فقال: أصبت أهلي، قال: تصدَّق، فقال: والله يا نبي الله! ما لي شيء وما أقدر عليه، قال: اجلس فجلس، فبينا هو على ذلك أقبل رجل يسوق حماراً عليه طعام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أين المحترق آنفاً؟ فقام الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تصدق بهذا، فقال: يا رسول الله! أغيرنا؟ فوالله! إنا لجياع ما لنا شيء! قال: فكلوه» [67]، ومثله حديث سلمة بن صخر الأنصاري [68].
وهذا الموقف وأشباهه في حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم داع لحَمَلةِ رسالته أن تمتلئ قلوبهم رحمة بالمدعوين تورث رقة في التعامل معهم، ورفقاً بسائلهم، وشفقة على مذنبهم. تلك الميزة التي تضعف لدى بعض المنتسبين للعلم والدعوة والإصلاح حيث يظنون أن المقصر لا يستحق إلا التوبيخ والتقريع والذم والإسقاط جزاء تقصيره، ويغيب عن أذهانهم هديه صلى الله عليه وسلم وصنيعه مع من واقع زوجته في رمضان، وغير ذلك كالذي بال في المسجد، والذي تكلم في الصلاة؛ بل حتى مع من طلب الإذن له بالزنا! والدافع إلى ذلك كله الرغبة في هداية الخلق ورحمتهم والعطف عليهم. ويتأكد الأمر في رمضان حين يقبل عامة الناس على المساجد، وتكثر أسئلتهم عن أحكام الصيام، وعما اقترفوا من الذنوب.. إن هؤلاء يفتقرون إلى قلوب حانية رقيقة تمسح موضع الداء بلطف، وتعالجه برفق وتخفف المصاب حتى يظهر للمخطئ الصواب، فيعود إليه.
* إمامته صلى الله عليه وسلم بالناس. وقد أَمَّ أصحابه في قيام الليل في بعض ليالي رمضان، وما منعه من الاستمرار إلا خشيته صلى الله عليه وسلم من أن تفرض عليهم فيعجزوا عنها.
* خطبته صلى الله عليه وسلم فيهم وحديثه إليهم عقب بعض الصلوات [69].
* جعله صلى الله عليه وسلم من نفسه قدوة لأصحابه، ومن الدلائل على ذلك:
1- خروجه صلى الله عليه وسلم إلى المسجد ليصلي فيه من الليل، كما في حديث عائشة “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد وصلى رجال بصلاته…” [70].
2- اعتكافه صلى الله عليه وسلم لتحري ليلة القدر، وحثه لأصحابه على ذلك.
* إفطاره صلى الله عليه وسلم في السفر بعد العصر ليراه أصحابه، وذلك بعد أن بلغ بهم الجهد مبلغه.
إن بإمكان الداعية أن يدبج خطباً رنانة ومواعظ بليغة لكنها لن تجد طريقها إلى القلوب كما لو رأت العيون ذلك برؤيتها تطبيق ما سمعت الأذن.
* رحمته صلى الله عليه وسلم بأصحابه. ومن الأمور الدالة على ذلك:
1- أمره صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالإفطار في السفر قبل ملاقاة العدو، فعن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس في سفره عام الفتح بالفطر، وقال: تقووا لعدوكم. وصام رسول الله صلى الله عليه وسلم» [71].
ومن رحمته: نهيه صلى الله عليه وسلم لأصحابه عن الوصال رحمة بهم، وحثه صلى الله عليه وسلم لأصحابه على تعجيل الفطر وتناول السحور، وتركه صلى الله عليه وسلم الصلاة بأصحابه جماعة في قيام الليل خشية من أن تفرض عليهم، وتخفيفه صلى الله عليه وسلم الصلاة حين كان إماماً بهم.
* حثه صلى الله عليه وسلم لأصحابه على طهارة النفس وتوقي الذنوب. ولذا قال: «رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر»[72].
لقد توجهت عناية كثير إلى إصلاح الظاهر والشدة فيه وإنكار المعاصي والذنوب الجليَّة، مع ضعفٍ في تناول ذنوب القلب وأمراضه التي تورث ذنوب الجوارح، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» [73]، وهذا يعني أن من الصعب النجاح في إصلاح الظاهر ما لم يُعتن بالباطن العناية التي يستحقها مع تجنب إهمال الظاهر، حتى يتهيأ لنظرة الرضى من الرب تعالى؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» [74].
* مخالطته صلى الله عليه وسلم لأصحابه واستماعه إليهم وعدم ترفعه عنهم. ومضى من هذا كثير.
ومخالطة الداعية للناس شرط لا يتحقق التأثير والإصلاح بدونه. والمخالطة ليست مرادة لذاتها، وإنما لما تثمره من تعليم للخير، وتوجيه نحو الصواب والأفضل، وتصحيح للمفاهيم، ووقوف على الخطأ، وتهذيب للسلوك، ومعاونة على الخير وتقوية لأهله، فالمهم هو المخالطة الواعية الموظَّفة توظيفاً حسناً. كما أن من المهم أن لا يستغرق الداعية في المخالطة حتى تذهب الهيبة، وتفقد المخالطة روحها، وحتى ينسى نفسه وأهله، ولذا اعتنى الداعية الأول صلى الله عليه وسلم بالاعتكاف؛ لما يحقق من عزلة وخلوة لا غنى للداعية الرصين عنها. فليتوازن الداعية، والله المعين.
* تأديبه صلى الله عليه وسلم لمن خشي عليه التعمق، كما واصل بمن أبوا إلا الوصال [75]. إن شريعة الإسلام شريعة اليسر والسهولة «ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه» [76]، ولطالما تواردت النصوص على هذا الأصل: أصل التيسير ورفع الحرج… وهذه خاصية الدين الواقعي الملائم للفطرة، والذي أراد الله لهالبقاء حتى تقوم الساعة.
وتنكيله صلى الله عليه وسلم بمن أرادوا الوصال ينسجم مع ذلك الأصل؛ إذ خشي صلى الله عليه وسلم عليهم العنت والمشقة، لكن لما كانت بعض النفوس لا يكفيها الكلام احتاج صلى الله عليه وسلم إلى العقوبة، ولم تكن تلك العقوبة على أمر محرم، فلو كان محرماً ما فعلوه، ولما أقرّهم عليه، بل إنه زادهم من جنس ما رغبوا فيه، حتى يدركوا الفرق بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم.
* استقباله صلى الله عليه وسلم لمن وفد عليه. قال ابن إسحاق: “وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من تبوك، وقدم عليه في ذلك الشهر وفد ثقيف” [77].
إن مخالطته صلى الله عليه وسلم للناس في رمضان صفحة من جهده الدعوي فيه، وهو ما يحتاجه الدعاة للتأسي به.
* أمره صلى الله عليه وسلم لأصحابه بإخراج زكاة الفطر من رمضان.
* إيكاله صلى الله عليه وسلم بعض الأعمال إلى أصحابه، كما وكّل أبا هريرة بحفظ زكاة رمضان [78].
وفي هذا تخفيف من الجهد عليه؛ لأن الشخص بمفرده لا يطيق القيام بجميع المهام، فلا مفرّ من توكيل الآخرين وتفويضهم في القيام بالأعمال وإنجاز المهام، وهذا يعكس في الوقت نفسه ثقة الداعية في أصحابه، وهكذا كان صلى الله عليه وسلم يعامل صحبه الكرام، حتى كانوا رجال أمة ودولة.
وأخيراً: فأحسب تلك الصفحات قد أطلعتنا على جزء يسير من سيرته العطرة صلى الله عليه وسلم. فما أمسَّ حاجتنا إلى التنعم في ظل سيرته صلى الله عليه وسلم والعيش مع أخباره، والتعرف على أحواله، وترسم هديه وطريقته… كيف لا؛ وذلك الطريق هو السبيل الأوحد لنيل محبة الخالق تعالى والقرب منه، كما قال عز وجل: {قُلْإِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 31].
___________________________________________________________________
(*) أصل هذا المقال دراسة مطولة أعدها الكاتب مؤخراً، والعدد ماثل للطباعة، فآثرنا لمناسبة الشهر الاكتفاء بما تسمح به المساحة المتاحة، متجاوزين كثيراً من التفاصيل، مكتفين بالإشارة عن العبارة.
(1) راجع في حكمة ذلك: الفتح، 4/ 253.
(2) مسلم (1156).
(3) الترمذي (682)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (549).
(4) أبو داود (2342)، وقال محقق الزاد: 2/38 (وسنده قوي).
(5) أبو داود (2375)، وحسنه الألباني في صحيح السنن: (2066).
(6) الترمذي (725)، والحديث مختلف فيه والاختلاف في الحديث لا تعلق له بمشروعية السواك للصائم؛ لعموم الأمر انظر: صحيح ابن خزيمة، 3/ 247.
(7) أبو داود (2365)، وصححه الألباني في صحيح السنن (2072).
(8) انظر: زاد المعاد، لابن القيم: 2/ 32.
(9) البخاري (1961).
(10) البخاري (4279).
(11) زاد المعاد 2/ 55 56، وأثر ابن كعب أخرجه الترمذي (799)، وقال: (حديث حسن)، وصححه الألباني في صحيح السنن 641.
(12) النسائي (2116)، وصححه الألباني في صحيح السنن (1997).
(13) البخاري (1147).
(14) البخاري (1164)، والناظر في عصرنا يجد اختلافا شديدا حول عدد صلاة التراويح، وحين نتأمل في هديه صلى الله عليه وسلم نجد أنه لم يوقت لأمته في قيام رمضان حداً محدوداً وإنما حثهم على القيام فقط، فدل على التوسعة في هذا الأمر، وأن بإمكان المسلم أن يفعل ما يستطيع من ذلك بخشوع وخضوع وطمأنينة، وإن كان الأفضل هو التأسي بفعله صلى الله عليه وسلم من حيث الكم والكيف، والله أعلم، انظر: مع الرسول في رمضان لعطية محمد سالم.
(15) المسند لأحمد (24268)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الصحيحين.
(16) البخاري (1902).
(17) البخاري (2013).
(18) البخاري (1902).
(19) البخاري (6).
(20) انظر: فتح الباري لابن حجر: 8/ 659.
(21) البخاري (2018).
(22) أبو داود (1374)، وقال الألباني في صحيح السنن (1226): حسن صحيح.
(23) ابن ماجة (1775)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة (1437).
(24) المسند لأحمد (5349) و قال محققوه: حديث صحيح.
(25) أبو داود (1379)، وقال الألباني في صحيح السنن (1230): حسن صحيح.
(26) البخاري (3220).
(27) فتح الباري: 1/41، وانظر 4/ 139.
(28) مسلم (1116).
(29) الترمذي (714)، قال الأرنؤوط في تحقيقه للمسند (140): حديث قوي.
(30) انظر مثلاً: المغازي للواقدي: 1/ 9، 174، 39، الطبقات لابن سعد: 2/ 6، 27، 91.
(31) ابن ماجة (1775)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة (1437).
(32) زاد المعاد لابن القيم: 2/ 90.
(33) مسلم (1173).
(34) البخاري (3039).
(35) البخاري (2029).
(36) البخاري (1890).
(37) البخاري (2027)، وانظر: صحيح ابن خزيمة: 3/ 352.
(38) فتح الباري 4/ 334.
(39) مسلم (1174) وقد ورد في المسند: 6/146 بسند ضعيف عن عائشة رضي الله عنها قالت: (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلط العشرين بصلاة ونوم، فإذا كان العشر شمر وشد المئزر وشمر).
(40) ابن ماجة (1697)، وقال الألباني في صحيح السنن (1378): حسن صحيح.
(41) البخاري (4998).
(42) البخاري (20).
(43) الترمذي (3895)، وصححه الألباني في صحيح السنن (3056).
(44) مسلم (1147).
(45) ابن حبان (3473)، وقال الأرنؤوط: وإسناده قوي، وانظر: 8 / 252 253.
(46) النسائي (1364)، وصححه الألباني في صحيح السنن: (1292).
(47) البخاري (2024).
(48) فتح الباري لابن حجر: 4/ 316 سنن البيهقي: 4/314، قال محققو المسند 40/ 439: وإسناده حسن.
(49) مسلم (1106).
(50) مسلم (1106).
(51) انظر: فتح الباري لابن حجر: 4/324، المنتقى للباجي: 2/ 83.
(52) البخاري (2038).
(53) انظر: البخاري (2033).
(54) انظر: المسند لأحمد (26307)، وقال محققوه: حديث صحيح لغيره.
(55) مسلم (1166).
(56) البخاري (2026).
(57) الترمذي (806)، وقال: (حسن صحيح)، وصححه الألباني في صحيح السنن (646).
(58) تاريخ الطبري: 8/545.
(59) شذرات الذهب، لابن العماد: 1/ 119.
(60) البخاري (1466).
(61) البخاري (1426).
(62) أبو داود (2369)، وصححه الألباني في صحيح السنن (2076).
(63) مسلم (1478).
(64) البخاري (6734).
(65) المسند لأحمد (5349)، قال محققوه: حديث صحيح.
(66) البخاري (1894).
(67) البخاري (1935)، مسلم (1112)، واللفظ له.
(68) الترمذي (3299)، وقال: حديث حسن، وصححه الألباني في صحيح السنن (2628).
(69) البخاري (1129)، مسلم (761)، واللفظ له.
(70) البخاري (2012).
(71) أبو داود (2365)، وصححه الألباني (2072).
(72) المسند لأحمد (8856)، وقال محققوه: إسناده جيد.
(73) البخاري (52).
(74) مسلم (2564).
(75) مسلم (1104).
(76) البخاري (39).
(77) سيرة ابن هشام: 4/ 135.
(78) البخاري (5010).