منذ حوالي ساعة
إذن فلا تحزن يا من قفدت عزيزا، أو رحل عنك حميما، ولو كان أبًا أو أمًّا، فلا زالت الفرصة سانحة، والحاجة ماسة، فما الذي يمكن أن نُكرِم به موتانا وننفع به من رحلوا عنا.
من أبرز سمات الحياة الدنيا التقلُّب، فدوامها على حال من المحال، وما منا من أحد إلا وقد قرصته الدنيا أو أفجعته، بِموت قريب، أو جار، أو صديق حميم، أو زميل دراسة أو عمل، أو معلم، وأعظم ذلك فقد أحد الوالدين أو الأبناء.
والوالدان في الإسلام لهما منزلة عظيمة، وما أكثر النصوص من الكتاب والسنة حول الوالدين وبرهما والتحذير الشديد من عقوقهما، وما فتئ الخطباء وغير الخطباء يذكِّرون الناس بين الفينة والأخرى بهذا الحق، لكن كثيرا منا يتحسَّر، ويقول في نفسه لو أنَّ لي كَرَّة فأقبِّل رِجْل أمي، أو أخدم أبي، ويزيد هذا التحسُّر إذا كان الابن صغيرا يوم وفاة أحد والديه، أو أنه فرط في حقهما فيما مضى ثم ندم وتاب بعد رحيلهما، ولا يدري هذا المتحسِّر، أن البِرَّ لم ينقطع بموت أحد الوالدين، كما أن حاجتهما لك بعد الموت أشدّ منها قبل الوفاة.
إذن فلا تحزن يا من قفدت عزيزا، أو رحل عنك حميما، ولو كان أبًا أو أمًّا، فلا زالت الفرصة سانحة، والحاجة ماسة، فما الذي يمكن أن نُكرِم به موتانا وننفع به من رحلوا عنا.
هل تعلم ماذا نعني بـ(ملازمة طريق المواساة، ومحافظة عهود الخلطاء) هذا هو خُلق الوفاء، وهو من الأخلاق العالية، والشيم الرفيعة، وهذا الخُلُق العظيم لا يقتصر على الأحياء، بل للأموات فيه نصيب، وهُم إليه أحوج، فما أحوج أخيك المسلم لشيء ينفعه بعد موته بعد أن انقطع عمله، وأنت لم ينقطع عملك، وباستطاعتك الوفاء له بالكثير والكثير.
من فضل الله علينا أن فتح لنا قنوات نصل به أحبابًا حِيل بيننا وبينهم، وحيل بينهم وبين ما يشتهون، فمن هذه القنوات:
- الاستغفار: من منا لم يذنب، لكن الحيَّ أمامه فرصة ليتوب ويسْتعْتِب، فأكثِر من الاستغفار لك ولوالديك ولمن فقدت من إخوانك، فـ «(إِنَّ الرَّجُلَ لَتُرْفَعُ دَرَجَتُهُ فِي الْجَنَّةِ فَيَقُولُ أَنَّى هَذَا فَيُقَالُ بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَك)» [1].
- الصدقة: فهذا أحد الصحابة فارق أمَّه، ويريد أن يبرها بعد وفاتها فسأل النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول: «(فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا قَالَ : نَعَمْ)» ، وآخر سأل: «(أَيَنْفَعُهَا شَيْءٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا قَالَ نَعَمْ)» [2]، أجاب النبي صلى الله عليه وسلم: (نَعَمْ)، ما أبرد هذه الكلمة على الابن الذي تتوق نفسه لنفع والديه وقد فَارَقَا الدنيا، وحيل بينما وبين الصدقة، والصدقة من جليل قدرها، أن الميت يتمنى العودة إلى الدنيا ليتصدق قال تعالى:( {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ)} ، فحقِّق هذه الأمنية لوالديك، ولمن غادر الدنيا من إخوانك، فـ(الصَّدَقَة عَنْ الْمَيِّت تَنْفَع الْمَيِّت وَيُصَلِّهِ ثَوَابهَا , وَهُوَ كَذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاء) كما قال الإمام النووي.[3]
- الحج والعمرة: (ومما يصل إلى الميت كذلك الحجّ والعمرة عنه بعد أن يكون الحيّ قد حجّ واعتمر عن نفسه)[4] فهذه صحابية تقول عن أمها(إِنَّهَا لَمْ تَحُجَّ قَطُّ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا)[5] فأجابها الرحمة المهداة بقوله «(حُجِّي عَنْهَا)» ولا يخفى منزلة الحج والعمرة «(فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ، وَالذَّهَبِ، وَالفِضَّةِ)» [6]
- الدعاء: وهذا أعظمها وأيسرها فـ(أفضل شيء للأحياء والأموات الدعاء، ودليل ذلك … «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»)[7]
وفي العموم (فالصدقات عن الموتى، والحج عنهم، والعمرة عنهم، كل هذا ينفعهم، ويصل إليهم، وهكذا الاستغفار لهم، والدعاء، وقضاء ديونهم، وقضاء ما عليهم من الصيام الذي ماتوا، وعليهم صيام نذر، أو صيام كفارة، أو صوم رمضان، تساهلوا ولم يصوموه بعدما عافاهم الله من المرض إن كانوا مرضى هذا يصام عنهم وينفعهم)[8] كما قال العلامة ابن باز رحمه الله تعالى.
سمعنا أن هناك من يبحث عن المديونين المعسرين فيسدِّد عنهم، و «(مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ أَوْ يَضَعْ عَنْهُ)» [9] هذا في الأنظار أو التخفيف فكيف بمن قضى دَيْن أخيه كاملا، لكن هناك أموات عليهم ديون، من يقضيها عنهم، فياحبذا لو بحثنا عن ديون موتانا وأعتقناهم منها ومن تبعتها فـ «(لَوْ أَنَّ رَجُلا قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيِيَ ، ثُمَّ قُتِلَ ، ثُمَّ أُحْيِيَ ، ثُمَّ قُتِلَ ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مَا دَخَلَ الْجَنَّةَ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ )» [10] فالله الله في التفتيش عن ديون أحبابنا وسدادها، وأما الذين لهم حق لمسلم قضى نحبه، فما أعظم أن تعفو عنه، فإن «( نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ )» [11]
فيامن فقدت صديقًا حميمًا، أو جارًا، أو أخًا أو أختًا، أو أبا أو أمًا، أبْشر فإن باب الصلة والوفاء مفتوح، وحبْل المودَّة ممدود، فلا تبخل عليهم ولو بدعوة؛ فإنها عليك يسيرة، ولكنها عندهم أمنية مستحيلة، وهدية عزيزة.
{(رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ)}
Source link