إنَّ من أكثر العوامل هدمًا لأي مجتمعٍ تفشيَ الغِلِّ والحقد والحسدِ وما شابَههما من الصفات السوداء للنفس البشرية بين أفراد المجتمع الإنساني، وهي من أكثر مصادر الشر في الحياة، بل هي عوامل هدم وقضاء على الفرد والمجتمع معًا.
إنَّ من أكثر العوامل هدمًا لأي مجتمعٍ تفشيَ الغِلِّ والحقد والحسدِ وما شابَههما من الصفات السوداء للنفس البشرية بين أفراد المجتمع الإنساني، وهي من أكثر مصادر الشر في الحياة، بل هي عوامل هدم وقضاء على الفرد والمجتمع معًا.
فالفرد الحَقُود لا يعرف البناء بل طابَعه السلبيَّة ومحاولة تحطيم مَن هم أحسن منه وضعًا أو حالًا بعد أن يحطِّم نفسَه هو. والمجتمع الذي يَشيع فيه خُلق الحِقد لا يعرف الوحدة ولا يصل يومًا إلى التماسُك، وكل ما له من عمل هو تبادُل التمزُّق حتى الفناء.
ولقد انتشر هذا المرض في بني إسرائيل بشكلٍ فاحشٍ، {بأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ} [الحشر: 14].
وقد تَعدَّى حقدُهم وغلهم وحسدهم إلى كل البشرية وخاصةً المسلمين، وليس أدل على ذلك من قول الله تعالى:
{وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ۖ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ۗ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 109 – 112].
أيها المسلم: انظر إلى هذه الآيات جيدًا – فهي قول ربنا سبحانه – قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارَى، فحكموا لأنفسهم بالجنة وحدهم، فاليهود أمنيتُهم أنه لا يدخل الجنة غيرُهم، والنصارى كذلك أمنيتهم أنهم هم وحدهم أصحاب الجنة، وكلا الفريقين يعتقد أن المسلمين ليسوا أهلًا لها، ولهذا جاء خبر اسم الإشارة جمعًا في قوله تعالى: {تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ}؛ إن تلك الأمنيات قد تمكنت من نفوسهم، وأشربتها قلوبهم حقدًا وغلًا وحسدًا؛ لذلك {وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ لَيْسَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ عَلَىٰ شَىْءٍۢ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ لَيْسَتِ ٱلْيَهُودُ عَلَىٰ شَىْءٍۢ وَهُمْ يَتْلُونَ ٱلْكِتَٰبَ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ۚ فَٱللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة: 113].
لقد بلغ بأهل الكتاب الهوى والحسد أنَّ بعضهم ضلل بعضًا، وكفر بعضهم بعضًا، وكل فرقة تضلل الفرقةَ الأخرى، فتشابهت قلوب هؤلاء وقلوب أولئك في الزيغ والضلال.
أيها المسلم؛ إن هذا الوضع بشكله الذي حكاه القرآن الكريم نجده قد انتقل بنفس الصورة بين فرق وجماعات المسلمين، كل منها تتهم الأخرى بالضلال واتباع هوى النفس والخروج عن منهج الله القويم، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «لتتبعنَّ سَنَن من كان قبلكم، حذو القُذَّة بالقُذَّةِ، حتى لو دخلوا جُحرَ ضَبٍّ لدخلتموه». قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: «فمن» ؟
بل إن هذه الفرق بعضها يدعي أنها هي التي تدخل الجنة وغيرها يدخل النار، كما قالت اليهود والنصارى، يا للعجب!! يتردد هذا بكل جرأة على الله، فيزكون أنفسهم وكأنهم يملكون القرار، تسمع هذا وتقرأه على صفحات النت وفي الكتب ووسائل النشر المختلفة.
هكذا قالت اليهود والنصاري: {وَقَالُواْ لَن يَدۡخُلَ ٱلۡجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوۡ نَصَٰرَىٰۗ} [البقرة: 111].
هنا يحتار المسلم بين هذه الأقوال والمزاعم، ويسأل نفسه: أين أنا من كل هذه المزاعم لهذه الفرق والمذاهب؟
لقد أثار هؤلاء الفتن والشكوك بين العامة من المسلمين، وأثاروا الشكوك في الإسلام عند غير المسلمين بكل هذه الأقاويل والمزاعم، وأصبح غير المسلمين يشكون في صحة الإسلام لأن الواقع عند المسلمين شبيه بما هو عند غير المسلمين، يا لها من طامة.
كم أضرت هذه المزاعم بالدعوة للإسلام؟!
ولكن الله يكذب كل هؤلاء ويقول: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ۗ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَٰنَكُمْ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ} [البقرة: 111].
ويبين الله تعالى في كتابه الجواب الكافي والدواء الشافي لهذه المسألة، ويريح بها صدور المؤمنين العاملين؛ قال تعالى: {بَلَىٰۚ مَنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ فَلَهُۥٓ أَجۡرُهُۥ عِندَ رَبِّهِۦ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ} (البقرة: 112).
وهنا يقرر الله قاعدة الجزاء على العمل، هذا العمل هو الإسلام والإحسان من جانب المسلم، بلا محاباة لأمة ولا لطائفة ولا لفرد.. وليس لاسم ولا لون ولا جنسية ولا جماعة ولا قبيلة ولا مذهب، بل إسلام الوجة – والوجة رمز على الكل – ولفظ أسلم يعني الاستسلام والتسليم. فأخلص ذاته كلها لله، ووجه مشاعره كلها إليه، الاستسلام المعنوي والتسليم العملي، ومع هذا فلا بد من الدليل الظاهر على هذا الاستسلام (وهو محسن).
فسمة الإسلام هو الوحدة بين الشعور والسلوك، بين العقيدة والعمل، بين الإيمان القلبي والإحسان العملي. بذلك تستحيل العقيدة منهجًا للحياة كلها، وبذلك تتوحد الشخصية الإسلامية بكل نشاطها واتجاهاتها، وبذلك يستحق المؤمن هذا العطاء كله والأجر المضمون لا يضيع عند الله، والأمن الموفور لا يساوره خوف، والسرور الفائض لا يمسه حزن، وتلك هي القاعدة العامة التي يستوي عندها الناس جميعًا، فلا محسوبية عند الله سبحانه ولا محاباة!
___________________________________________________________
الكاتب: أ. د. فؤاد محمد موسى
Source link