الاعتكاف وتربية الذات على اتباع الأسلاف

أهمية تعظيم حرمات الله مكاناً وزماناً، إذ ربما يجهد المرء للعلاج ثم يُحرم الخير بتهاونه في هذا الجانب الناتج عن طول المكث والاعتياد.. قال أبو عبيد القاسم بن سلام: “كنت مستلقياً في المسجد الحرام، فجاءتني عائشة المكيّة وكانت من العارفات، فقالت: يا أبا عبيد! لا تجالسه إلا بأدب؛ وإلا محاك من ديوان العلماء والصالحين

لقد شرع الله لعباده كثيراً من الطاعات التي تجمع على المرء الجوارح والقلب لينشغل بعبادة الله تعالى وحده. وإن من أجلّ هذه الطاعات تلك السّنّة التي يخلو المرء فيها بربه خاضعاً فيناجيه معترفاً، وينصرف بها عن الدنيا فتزكو نفسه وتسمو ليصبح إنساناً ربانياً، إنها السّنّة التي حافظ الرسول عليها طوال حياته. إنها سُنّة الاعتكاف.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف كل رمضان عشرة أيام؛ فلما كان العام الذي قُبِضَ فيه اعكتف عشرين يوماً” (البخاري: الاعتكاف، حديث [2044]).

لقد حرص رسول الأمة صلى الله عليه وسلم على هذه العبادة رغم أن انشغاله بالدعوة والتربية والتعليم والجهاد. تاركاً لمن بعده ممن يقتفون أثره وينتهجون نهجه درساً عظيماً في أهمية الانقطاع إلى الله عز وجل والتحرر من المشاغل والمسؤوليات كائناً من كان صاحبها في الدعوة والعلم. ولا شك أن هذا الاعتكاف ما شُرع إلا لحِكَمٍ عظيمة، لعل منها:

* زيادة الصلة الإيمانية بالله، والجوانب العبادية التي تزكي النفس وتجعل المرء أكثر قدرة على مواجهة فتن الدنيا والعمل على استنقاذ الآخرين منها.

* أن الاعتكاف فرصة عظيمة لطلبة العلم الذين اشتغلوا بتحصيله ومن ثم تعليمه؛ وهذا لأمرين مهمين:
1- أن العمل هو الثمرة والغاية الحقيقية للعلم؛ وبدونه قد يصبح العلم حجة على صاحبه.
2- أن العقلاء يرفضون أن يُعلّم المرءُ الناسَ ما فيه نجاتهم ثم ينصرف هو عن ذلك.

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل الذي يُعلّم الناس الخير وينسى نفسه مثل الفتيلة تضيء للناس وتحرق نفسها» (صحيح الجامع، برقم: [5837]).

* أن سنة الاعتكاف فرصة كبرى للدعاة والمربين من جهتين:
1- تحقيق الحكمتين الأوليتين من سداد النقص الذي اعتراهم لانشغالهم بالخلْق، وزيادة صلتهم بالخالق.
2- استغلال الفرصة للرقي بالمستوى الإيماني والتعبدي وغيرهما عند هؤلاء المدعوين والمتربين إلى مراتب أسمى.

فهذه بعض الحكم الظاهرة التي يمكن أن يستفيد منها أهل النظر لتصبح مسار كثير من شباب الصحوة خلال أيام قلائل. موجّهين كانوا أو موَجّهين ممن يُرتضى دينه وخُلقه وعقله.

إن من أهم أسباب طرح موضوع الاعتكاف من الجهة التي سيراها القارئ الكريم، ثلاثة أمور رئيسة:

الأول: حالة الضعف العام في همة الصالحين فيما يتعلق بالجوانب التعبدية والسلوكية كما سيأتي ضرب أمثلة لها مقارنة بما يراد منها لإصلاح المجتمع والارتقاء به لمشابهة مجتمع السلف الصالح.
يقول ابن الجوزي رحمه الله: “أعوذ بالله من سير هؤلاء الذين نعاشرهم، لا نرى فيهم ذا همة عالية فيقتدي إليها المبتدئ، ولا صاحب ورعٍ فيستفيد منه المتزهّد” (قيمة الزمن عند العلماء، [ص:31]).

فإذا كان رحمه الله يتحدث عن أهل زمانه فلا شك أن الخطب أعظم في زماننا الذي فُتِحت فيه الدنيا من أوسع أبوابها. والله المستعان. ولا شك أننا بحاجة لانتهاز فرصة الاعتكاف في تحسين الصورة العامة عن طريق مخاطبة الأفراد.

فكيف يكون الاعتكاف وسيلة لزيادة الهمة العامة يا ترى؟
الثاني: أن السنة دلت على أهمية الانقطاع عن الناس في خلوة مع الله؛ لتنطلق الأنفس بعد ذلك في الدعوة وتحمّل الأعباء. قال صاحب الظلال: “لا بد لأي روح يُراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى. لا بد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت” إلى أن يقول: “فالاستغراق في واقع هذه الحياة يجعل النفس تألفه وتستنيم له، فلا تحاول تغييره. أما الانخلاع منه فترة والانعزال عنه، والحياة في طلاقة كاملة من أسر الواقع الصغير ومن الشواغل التافهة؛ فهو الذي يؤهل الروح الكبير لرؤية ما هو أكبر منه ويدربه على الشعور بتكامل ذاته بدون حاجة إلى عُرف الناس…” (الظلال (6/3741)، دار الشروق).

ولكن إذا كانت هذه إحدى الغايات العظيمة لهذا الانقطاع أي الاعتكاف. فما صورة هذا الاعتكاف المطلوب يا ترى؟!

الثالث: أن الاعتكاف فرصة عظيمة لاختبار الإخلاص المحض لله في كل الأعمال والحركات والسكنات. وهذه النقطة وإن بدت ابتداءً أنها فردية بالدرجة الأولى إلا أن أهمية طرحها هنا تأتي من خلال معرفتنا بأن الإخلاص هو مدار قبول جميع الأعمال الموافقة للشريعة. ومنها كل ما يتعلق بالدعوة والتربية والتعليم. وإنه لمن الخسران العظيم أن تنفق الأموال وتبذل الجهود ثم يكون المانع من تحقيق الأهداف المطلوبة شرعاً دَخَلٌ في إخلاص العاملين. ولما كان تحقيق الإخلاص من الصعوبة بمكان في أوساط الجماعة الواحدة قال سهل بن عبد الله: “الدنيا جهل وموات إلا العلم؛ والعلم كله حجة إلا العمل به؛ والعمل كله هباء إلا الإخلاص؛ والإخلاص على خطر عظيم حتى يُختم به” (العلم ضرورة شرعية، د. ناصر العمر، [ص:60]).

وحُكي عن أحدهم أنه شعر بخجل عظيم من الناس عندما صلى يوماً في الصف الثاني، فعلم أن راحة قلبه في الصلاة في الصف الأول كانت بسبب نظر الناس إليه. وهذا من الدقيق الغامض الذي يغفل عنه الكثير من الناس.

فلما كان الأمر كذلك كان الاعتكاف فرصة عظيمة لاختبار الإخلاص.
والسؤال: ما الاعتكاف المطلوب للتحقق من سلامة القلب من شوائب الإخلاص؟

إن الاجابة عن هذا السؤال تتلخص في الجهة التي نطرح موضوع الاعتكاف من خلالها. وهي أن الاعتكاف المطلوب ليس هو ذلك الاعتكاف الذي يجعل المساجد مهاجع للنائمين ولا عناوين للمتزاورين، ولا موائد للأكل، ولا حلقات للضحك وفضول الكلام. إنه ليس الاعتكاف الذي يخرج صاحبه وقد ازداد قلبه قسوة، وأتى بمعصية التعدي على حرمات مساجد الله.

إنه ليس الاعتكاف الذي يجعله صاحبه وسيلة لزيادة الأصحاب وتقوية العلاقات الاجتماعية وتبادل الآراء الطبية والنفسية… ونحوها.

إن الاعتكاف المطلوب إنما هو ذلك الذي ينقل المرء إلى مشابهة حياة السلف الصالح في كل همسة ولفتة. نعم إن الاعتكاف الذي تسيل فيه دموع الخاشعين المتدبرين؛ وترفع فيه أكف الضارعين المخبتين، ويسعى المرء فيه جاهداً لئلّا تضيع من ثواني هذه الأيام المعدودة لحظة واحدة في غير طاعة فيفوته قطار الفائزين.

إنه الاعتكاف الذي يحقق مفهوم التربية الذاتية لمشابهة المحسنين. ولعل فيما يأتي من الأمثلة توضيحاً لمن أراد أن يجعل من اعتكافه وسيلة انتقال للأفضل.

أسأل الله أن ينفع بها الجميع.

في العبادات:
لقد بلغ السلف الصالح في جوانب العبادات غايات يستصعب ضعاف الهمم السعي إلى مقاربتها فضلاً عن الوصول إليها. وأذكر هنا نماذج لحال السلف في عبادتين عظيمتين هما:

1- مداومة ذكر الله.
2- الصلاة؛ مع التركيز على ذكر إمكانية اللحاق بهم رحمهم الله باستغلال فرصة الاعتكاف.

1- المداومة على ذكر الله: قال مالك بن دينار رحمه الله: “ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله عز وجل فليس شيء من الأعمال أقل مؤونة منه ولا أعظم لذة، وأكثر فرحة وابتهاجاً للقلب” (صحيح الوابل الصيب، [ص:148]).

وقال ابن القيم رحمه الله: “وحضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار ثم التفت إليّ وقال: هذه غدوتي ولو لم أتغد سقطت قوتي”، -أو كلاماً قريباً من هذا-، وقال لي مرة: “لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وراحتها ولأستعد بتلك الراحة لذكر آخر أو كلاماً هذا معناه” (صحيح الوابل الصيب، [ص:63]).

وقال شيخ الاسلام رحمه الله مبيناً أهمية بقاء المرء في ذكر دائم: “الذكر للقلب كالماء للسمك؛ فكيف يكون حال السمك إذا خرج من الماء؟” (تزكية النفوس، [ص:45]).

لقد جاءت السنة بأذكار كثيرة متنوعة وذكرت فضلها وما أُعد لصاحبها من الثواب. بل إن الإمام ابن القيم رحمه الله عدّ في (الوابل الصيب) ثمانين فائدة في الذكر. ولا شك أن الناس إلا من رحم الله على جانب كبير من التفريط في المداومة على ذكر الله في كل حال. لذلك لم يصلوا إلى اللذة التي يستشعرها الذاكرون الله كثيراً.

قال بعض العارفين: “وإنه لتمرُّ بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب” (صحيح الوابل الطيب، [ص:95]).

وإن الاعتكاف فرصة عظيمة يحسن بالمرء استغلالها ليصل إلى مرتبة عالية؛ فيكون لسانه رطباً من ذكر الله تعالى. ليس للمعتكف شغل عن أذكار الصباح والمساء التي فرط الناس فيها إلا من رحم الله، وليس له شغل عن أذكار الأذان والنوم والاستيقاظ، والخروج والدخول إلى المسجد، وأذكار الطعام والشراب، والأذكار المطلقة الكثيرة المتنوعة.

يستطيع المعتكف أن يحرص على كل ذكر منها في وقته ويحاسب نفسه على ما فاته، ولا يدع نَفَساً من أنفاسه يخرج بغير ذكر الله تعالى. فمن كانت هذه حاله في عشرة أيام متواليات رُجي له الخير العظيم بفضل الله وتوفيقه. ألا وإن من أعظم الذكر كما هو معلوم قراءة القرآن الكريم. قيل لأخت مالك بن أنس: “ما كان يشتغل مالك في بيته؟ قالت: المصحف في بيته”.

قال أبو بكر الأوسي: “كان مالك قد أدام النظر في المصحف قبل موته بسنين، وكان كثير القراءة طويل البكاء” (أعلام المسلمين [23]، [ص:321]، سلسلة دار القلم). قال الطحاوي: “سمعت عن أحمد بن أبي عمران يحكي عن بعض أصحاب محمد بن الحسن، أن محمداً كان حزبه في كل يوم وليلة ثلث القرآن” (أعلام المسلمين، [47]، [ص:237]). فهؤلاء رحمهم الله كانت قراءتهم كثيرة في سائر أيام صيامهم، ووردت عنهم وعن غيرهم من السلف زيادة الاهتمام بكتاب الله في رمضان.

فعلى العاقل أن يجعل من اعتكافه فرصة لتقوية علاقته بكتاب الله تعالى قراءة وتدبراً وخشوعاً وفهماً. ولا شك أن الاكتفاء باستعراض كتاب الله كله مرة واحدة فقط في هذه الأيام العشرة يُعد من التفريط؛ إذ فيم سيمضي المعتكف وقته إن لم يمضه في تلاوة كتاب الله تعالى؟

جاء عن الحسن أنه قال: “أدركت أقواماً كان أحدهم أشحّ على عمره منه على درهمه” (شرح السنة، للبغوي، [14/225]).

فلو حرص المرء على لحظات اعتكافه ألاّ تنقضي إلا في ذكر وتلاوة لكان لاعتكافه لذة وحلاوة، ولأصبح من السهل عليه أن يتشبه بالسلف الصالح.

فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم *** إن التشبه بالكرام فلاح

ولعل مما تجدر الإشارة إليه أن من ثمرات المداومة على ذكر الله في الدنيا أنها تعطي الذاكر قوة تعينه على زيادة عمله خلال يومه. فقد ثبت أن الرسول علّم ابنته فاطمة وعلياً رضي الله عنهما أن يُسّبحا ويحمدا ويُكبّرا كل ليلة إذا أخذا مضجعهما، ذلك لما سألته أن يحضر لهما خادماً، وقال لها: «إنه خير لكما من خادم» (البخاري: في المناقب، حديث [3705] مسلم: في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار برقم [2727]، والترمذي: في الدعوات [3408]).

فقيل: “إن من داوم على ذلك وجد قوة في يومه مغنية عن خادم” (الفائدة [61] من فوائد الذكر لابن القيم في صحيح الوابل الصيب، [ص:144]). والمعكتف بحاجة لهذه القوة حتى يستعين بها على الزيادة من العبادات في هذا الموسم العظيم.

الصلاة: قال محمد بن عمران: “سمعته -أي محمد بن سماعة (ت233هـ)- يقول: مكثت أربعين سنة لم فتني التكبيرة الأولى إلا يوم ماتت أمي” (السير، [10/646]).

إن مثل هذا الأثر يحتاج أن يقف المرء معه ليتأمل حال نفسه ومدى اهتمامه بأداء الصلاة على الوجه الأكمل. ومتى ما وجد التقصير في نفسه توجب عليه أن يجعل من اعتكافه فرصة ليصل إلى مثل هذه المراتب العالية في أداء الصلاة. ومن فرط في التكبيرة الأولى حاسب نفسه أشد الحساب؛ فكيف يساغ له أن يتأخر عن إدراك التكبيرة الأولى وهو مقيم في بيت من بيوت الله تعالى؟ كما أن التأخير عن إدراك التكبيرة الأولى له دلالة على إهمال السّنّة القبلية وفقد أجر انتظار الصلاة بين الأذانين، ونقص الخشوع، وغير ذلك. والله المستعان.

قال ابن وهب: “رأيت الثوري في الحرم بعد المغرب صلى، ثم سجد سجدة فلم يرفع رأسه حتى نودي للعشاء” (السير، [7/266]).

وقال مجاهد رحمه الله: “كان إذا قام أحدهم يصلي يهاب الرحمن أن يشدّ بصره إلى شيء أو يلتفت، أو يقلب الحصى، أو يعبث بشيء، أو يحدث نفسه في شأن الدنيا إلا ناسياً ما دام في صلاته” (تعظيم قدر الصلاة، [1/188]).

وهذه مرتبة أخرى عظيمة ينبغي أن يحرص المرء عليها وهي مجاهدة النفس على تعظيم المولى سبحانه وتعالى في الصلاة، وحسن الاتصال فيها بتحقق الطمأنينة والخشوع والخشية. والمعتكف تتهيأ له من الفرص ما لا يتهيأ لغيره بسبب انقطاعه عن كثير من علائق الدنيا. فعليه أن يجاهد نفسه للوصول لهذه الغايات وأكثر منها من خلال أيامه العشرة لتكون بداية انطلاقة جادة له بعد ذلك.

ألا وإن من أعظم وأجلّ القربات التي تتهيأ بالاعتكاف خاصة في رمضان قيام الليل. ذلك الشرف العظيم الذي فرط فيه الناس إلا قليلاً. كان سفيان الثوري رحمه الله: “إذا أصبح مدّ رجله إلى الحائط ورأسه إلى الأرض كي يرجع الدم إلى مكانه من قيام الليل” (الجرح والتعديل، [1/95]).

وجاء عن شداد بن أوس أنه كان إذا دخل الفراش يتقلب عليه لا يأتيه النوم فيقول: “اللهم إن النار أذهبت مني النوم. فيقوم فيصلي حتى يصبح” (صفوة الصفوة، [1/79]).

وفي ليالي رمضان فرصة عظمى للمعكتف لإطالة القيام بكتاب الله تعالى وتشجيع نفسه بكثرة القائمين ومنافستهم؛ على ألاّ يجعل لنفسه غاية دون هذه النماذج العظيمة من السلف ونحوها.

كيف لا وقد قال أبو سليمان: “أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا” (تزكية النفوس، [ص:62]).
كذلك يحسن المحافظة على سنة الفجر والإشراق والنوافل المطلقة والمقيدة حتى ينوّع المرء من عباداته، ويعتاد ما انشغل عنه في سائر أيامه.

في المباحات: هناك جوانب أخرى يحسن بالمعكتف أن يخالف ما جرى أكثر الناس عليه فيها. أذكر منها ثلاثة أمور لعلها جماع كثير من الخسران:
1- فضول الكلام.
2- فضول الأكل.
3- فضول المخالطة.

1- فضول الكلام: كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى بعض أصحابه: “أما بعد: فإنه من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير، ومن عد كلامه من عمله قلّ كلامه إلا فيما ينفعه والسلام” (السير، [5/133]).

قال عطاء بن أبي رباح: “يا بن أخي! إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام، وكانوا يعدون فضوله ما عدا كتاب الله عز وجل أن تقرأه، وتأمر بمعروف أو تنهى عن منكر، أو تنطلق بحاجتك في معيشتك التي لا بد لك منها. أتنكرون أن عليكم حافظين كراماً كاتبين؟” (صفة الصفوة، [2/213]).

والشباب في هذا الزمان أخص الصالحين منهم أصبح هذا الجانب عند أكثرهم مفقوداً. بل ربما هو لا يُفكر فيه ابتداءً إلا من رحم الله تعالى؛ لذلك نشأ عنه عند كثير من الصالحين والدعاة وطلبة العلم فقدان السمت، ونقص الحكمة في الكلام، وخلط الجد بالهزل؛ فضلاً عن الوقوع في بعض المحرمات كالغيبة والكذب والسمعة ونحوها. ولعل بقاء المرء في معتكفه وسيلة عظيمة لحبس لسانه ومحاسبة نفسه على كل حرف يخرج منه في غير ذكر الله أو ضرورة.

كما أن المعتكف ينبغي له أن يعوّد نفسه ويعوّد كل من يقطع عليه اعتكافه على عدم الاسترسال في الكلام الذي لا حاجة له، مع مراعاة الأدب وحسن القصد.

قال إبراهيم بن سليمان: “كنت جالساً مع سفيان، فجعل رجل ينظر إلى ثوب كان على سفيان ثم قال: يا أبا عبد الله! أي شيء كان هذا الثوب ؟ فقال سفيان: كانوا يكرهون فضول الكلام” (حلية الأولياء، [7/60]).

ويُتنبه هنا إلى أنه يُكره للمعتكف الصمت عن الكلام إذا اعتقد أنه عبادة أو قربة؛ لحديث الرجل الذي نذر أن يقوم في الشمس ولا يتكلم ويصوم، فأمره الرسول أن يستظل ويتكلم ويقعد ويتم صومه، والحديث في الصحيح (الاعتكاف، د. أحمد الكبيسي، [ص:71]).

2- فضول الأكل: قال إبراهيم بن أدهم: “من ضبط بطنه ضبط دينه، ومن ملك جوعه ملك الأخلاق الصالحة، وإن معصية الله بعيدة من الجائع قريبة من الشبعان” (تزكية النفوس، [ص:41]).

إن قلة الطعام توجب رقة القلب وانكسار النفس وضعف الهوى والغضب، كما أنها تطلق المرء من قيود الكسل والدعة والخمول.

قال لقمان لابنه: (يا بني إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة” (الأدب النبوي، للخولي، [ص:212]). وقال ابن القيم رحمه الله: “وأما فضول الطعام فهو داع إلى أنواع كثيرة من الشر؛ فإنه يحرك الجوارح إلى المعاصي وينقلها عن الطاعات وحسبك بهذين شراً” (بدائع الفوائد، [2/273]).

ولا شك أن المعتكف بحاجة إلى نبذ كل ما يقعده عن الطاعة ومن ذلك كثرة الأكل وتنويعه. قال عمر رضي الله عنه: “من كثر أكله لم يجد لذكر الله لذة” (الحلم، لابن أبي الدنيا، [ص:78]).
كما أنه فرصة للمرء ليُربي نفسه عن التقلل والتزهد في أصناف المطعومات ويجاهد نفسه عن الاستغناء عن كثير مما اعتاده.

قُدّم لعمر بن عبد العزيز طعامٌ كثير عند بعض أهله فقال: “ويحك! هذا ما يسد الجوعة ويُذهب سَورة النفس، وتقدّم فضل ذلك ليوم فقرك وفاقتك؟” (دار القلم، أعلام المسلمين، [ص:118]، رقم: [40]).
وكذلك فإن عدم الاهتمام بتنويع الأكل والبحث عنه سيوفر للمرء وقتاً في معتكفه هو بحاجة ماسة إلى صرفه في ذكر وطاعة.

قال أبو الوفاء ابن عقيل: “وأنا أقصر بغاية جهدي أوقات أكلي حتى أختار سف الكعك وتحسيه بالماء على الخبز لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ توفراً على مطالعة أو تسطير فائدة لم أدركها” (سوانح وتأمُّلات في قيمة الزمن، خلدون الأحدب، [ص:34]).

3- فضول المخالطة: وهذه أمرها جلل لأن أكثر الناس درجوا على الاجتماع والخلطة حتى افتقدوا إلى القدرة على إنشاء الطاعات وإتمامها بأنفسهم بعيداً عن الرفاق.

وصورة ذلك في الاعتكاف ما يُرى من تجمع المعارف ليعتكفوا في مسجد واحد أو مكان معين في مسجد ما… وهذا وإن كان يسوّغه أحياناً لبعض الناس وجود مصالح راجحة من منظور تربوي دعوي. إلا أنه يحسن بالمرء معرفة أمور ومراعاتها:

* منها أن كثرة الخلطة تقصر همة العبد عند همة أصحابه أو دونهم: يقول ابن القيم رحمه الله: “فما على العبد أضر من عشائره وأبناء جنسه؛ فنظره قاصر وهمته واقفة عند التشبه بهم ومباهاتهم والسلوك أين سلكوا؛ حتى لو دخلوا جحر ضب لأحب أن يدخل معهم” (الهمة العالية، [ص:73]).

فهذا يدعو المرء للانفراد حتى يعامل الله مباشرة؛ فكلما ظن أنه مقصر ازداد اجتهاداً.
* ومنها أن الخلطة مظنة كثرة المزاح مما يقود إلى التقليل من هيبة مكان وزمان الطاعة وأن ينجر المرء إلى بعض الآثام كالغيبة والكذب ونحوها. قال ابن عبد البر: “وقد كره جماعة من العلماء الخوض في المزاح لما فيه من ذميم العاقبة ومن التوصل إلى الأعراض واستجلاب الضغائن وإفساد الإخاء” (بهجة المجالس، [2/569]).

* ومنها أن الاعتكاف فرصة ليقيم المرء عبادته بعيداً عن أعين معارفه ليختبر إخلاصه، فعن بكر ابن ماعز قال: “ما رُئي الربيع متطوعاً في مسجد قومه إلا مرة واحدة.” (صفة الصفوة، [3/61]) وذلك لا يتأتى بالخلطة.

* ومنها أن كثرة الخلطة تدعو إلى فضول الكلام والنظر وتضييع كثير من الوقت في النوم وانشغالات خدمة الجماعة بغير ضرورة، وتُفقد المرء لذة المناجاة، وغير ذلك من مناقضات جوهر الاعتكاف. فعلى المرء أن يجاهد نفسه على العزلة والتطلع الدائم إلى معالي الرتب، واستشعار الرقابة الدائمة لله، وتذكر فجأة الموت. عسى أن يخرج من اعتكافه بذات أخرى يكتب الله لها نصيباً أكبر من الفلاح وخدمة دينها وأمتها. وبعدُ: فإنه ليس من الصعب تغيير النفس وقطعها عن كل ما اعتادته لمن أخلص نيته وصدق في عزيمته.

يقول المنذر بن عبيد: “تولى عمر بن عبد العزيز بعد صلاة الجمعة فأنكرت حاله في العصر” (دار القلم، [ص:232]، رقم: [40]).

ولكن من الضروري أن يصاحب ذلك أخذ على النفس بالجد والحزم في معالجة قصورها. قال ابن حزم رحمه الله يحدث نفسه: “كانت فِيّ عيوب، فلم أزل بالرياضة واطلاعي على ما قالت الأنبياء صلوات الله عليهم والأفاضل من الحكماء المتأخرين والمتقدمين في الأخلاق وآداب النفس، أعاني مداومته حتى أعان الله عز وجل على أكثر ذلك بتوفيقه ومنّه” (الأخلاق والسير، لابن حزم، [ص:23]).

كما يحتاج المرء إلى همة عالية ونفس أبية لا ترضى بالدون.
قال ابن القيم رحمه الله: “إذا طلع نجم الهمة في ليل البطالة، ورَدَفَهُ قمر العزيمة، أشرقت أرض القلب بنور ربها” (الفوائد، [ص:79]). كذلك يحتاج المرء إلى استغلال أيام الاعتكاف كفرصة للنقلة الإيجابية المطلوبة.
ومهما حفظ الإنسان من الحِكَم وكانت رغباته صالحة فلن تتحسن أخلاقه وتقوى إلا إذا انتهز كل فرصة تسنح له (الأخلاق، أحمد أمين، [38]).

وأخيراً؛ فإنني أختم بتحذيرين اثنين:
الأول: أن يحذر الإنسان من طلب الكمالات المحضة التي تسبب انتكاسة في الهمة.

قال العلامة محمد الخضر حسين رحمه الله: “والخطل أن ينزع الرجل إلى خصلة شريفة حتى إذا شعر بالعجز عن بلوغ غايتها البعيدة انصرف عنها جملة، والتحق بالطائفة التي ليس لها في هذه الخصلة من نصيب، والذي يوافق الحكمة ويقتضيه حق التعاون في سعادة الجماعة أن يذهب في همته إلى الغايات البعيدة ثم يسعى لها سعيها ولا يقف دون النهاية إلا حيث ينفذ جهده ولا يهتدي للمزيد على ما فعله سبيلاً” (الهمة العالية، [69]).

الثاني: أهمية تعظيم حرمات الله مكاناً وزماناً، إذ ربما يجهد المرء للعلاج ثم يُحرم الخير بتهاونه في هذا الجانب الناتج عن طول المكث والاعتياد.. قال أبو عبيد القاسم بن سلام: “كنت مستلقياً في المسجد الحرام، فجاءتني عائشة المكيّة وكانت من العارفات، فقالت: يا أبا عبيد! لا تجالسه إلا بأدب؛ وإلا محاك من ديوان العلماء والصالحين” (شذرات الذهب، [2/55]).

أسأل الله أن يعيننا على طاعته ويكتب لنا فيها القبول، والله أعلم، والحمد لله من قبل ومن بعد.

 

 محمد بن يحيى اليحيى


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

شرح ما يفعل من رأى الرؤيا أو الحلم

منذ حوالي ساعة الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان؛ فإذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه؛ فلينفث …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *