واصل واستمر، وكرَّر محاولاتك بلا يأس ولا استسلام، فكل النجاحات جاءت في المحاولة الأخيرة، ولو يعلم من ينسحب ويتوقف، كم كان قريبًا من النجاح لما استسلم ولما توقف
نعم، فكم من الإنجازات أُحبطت، وكم من المشاريع تعطلت، وكم من الناس توقفت، بسبب الخوف والانهزام النفسي، وعدم إدراك الشخص مقدار ما يمكنه أن يفعل، وجهله بحجم ما أودع الله فيه من طاقات وقدرات فائقة، وإمكانيات عالية، ومهارات مذهلة، لو استعان بالله تعالى وأحسن استثمارها، لحقَّق ما يريده وزيادة.
ومع أن الخوف من خوض تجارب الحياة، والرهبةُ من الفشل، أمرٌ يشعر به الجميع؛ كما في الآية {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه: 67]، وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات: 28]، لكن هذا الخوف (الطبيعي) يتفاوت من شخص لآخر، فيبلغ عند البعض الحد الذي يبث فيه حماس التحدي، وهذا هو الخوف الإيجابي، ويبلغ بآخرين درجة تجعله يؤثر الهروب والانسحاب، وهذا هو الخوف السلبي الذي قعد بالكثير من الناس عن نفع أنفسهم وأمتهم، وأكثرُ الناسِ إنما يؤتون من قِبَل أنفسهم، وصدق من قال:
ما يبلغُ الأعداءُ من جاهِلٍ *** ما يبلغُ الجاهِلُ من نفسهِ
إذن فالخوف الذي يعتري (الجميع) هو خوفٌ إيجابي مفيد، إذا كان سيولد في الإنسان طاقةً وحماسًا يدفعانه ليطور نفسه ويبدع ويتميز، ويؤدي المهمة على أحسن وجه؛ أما إذا تجاوز هذا الخوف حده (الطبيعي)، فسيتحول إلى قيدٍ يكبلُ صاحبه، ويجعله يتراجع وينسحب.
وللخوف ثلاثة مصادر:
الأول الخوف من تكرار تجارب أليمة حدثت في الماضي، تجعلنا نخاف وننسحب؛ لكي لا يتكرر معنا نفس الألم، ومثاله الخوف من أسلاك الكهرباء والخوف من المرتفعات والمنحدرات، والثاني: الخوف من المجهول وخشية الوقوع فيما لا يستطيع الإنسان مواجهته، ومثاله الخوف من الظلام والأمكنة المهجورة، والثالث: الخوف من النقد وكلام الآخرين، (وهذا أمرٌ لا يسلم منه أحد).
وعين الرضا عن كل عيب كليلة *** ولكن عين السخط تبدي المساويا
وعلى كل حال، فالخوف نعمةٌ من الله وفضل، به ندافعُ عن أنفسنا، وبه نشعرُ بالخطر، وبه نهربُ ونسلم، إنه طاقةٌ تُساعدنا على البقاء، وسببه إفراز هرمون الأدرينالين الذي يأمر بإصداره العقل بمجرد شعوره بوضع غير آمن، فطبْ نفسًا أنك تمتلك مثل هذا الهرمون الرائع النافع.
ومن المؤكد أن سبب الخوف والتردد هو نقصُ التجربة لا نقصُ المقدرة، وأن90% من مخاوفنا مجردُ أوهامٍ وتخيلاتٍ، لا وجودَ لها إلا في عقُولِنا فقط، ولذا فلن يَهزمَ الخوفَ والإحجامَ سوى الجُرأةِ والإقدام.
وتأكد أيها المبارك أن السبيل الوحيد لتجاوز هذه المرحلة (الطبيعية) هي أن تتغلب على الخوف، وتحاول، وأن تستمر وتواصل، وتكرر المحاولة حتى تنجح وتصل، ولا سبيل غير ذلك.
تأمل جيدًا فالأسد ومِثلُهُ بقيةُ السباعِ المفترسة، لا ينجحُون إلا في بعض محاولاتهم للصيد، ويفشلون في بقية المحاولات، ومع ذلك فإنهم لا يتوقفون عن تكرار محاولة الصيد؛ لأنه لا سبيل للبقاء إلا بذلك.
ولو تأملت في بعض الألعاب، فستجد أن نسبة الهجمات الناجحة؛ أي التي تثمر أهدافًا، قد لا تتجاوز الخمسةَ في المائة، بينما يمكن أن نُطلِقَ على بقية الهجماتِ أنها فاشلةُ، ومع ذلك فإن طُوفانَ الهجمات (الفاشلة) هذا لا يتوقفُ أبدًا؛ لأنه لا سبيلَ للفوز إلا بذلك، وهكذا المشاركينَ في كلِّ المسابقاتِ الأخرى: (السباحة والجري وركوب الخيل وغيرها كثير، كلها تتدنى فيها نِسبُ النجاح إلى حدٍّ كبير، ومع ذلك فلم يتوقف أحدٌ عن المشاركة فيها بحجة الخوفِ من الفشل؛ لأنهُ لا سبيلَ للفوز والنجاحِ ألا بذلك، فإذا أردت الفوز والنجاح، فهذا هو قانون اللعبة: (واصل واستمر، وكرر المحاولة حتى تنجح).
ذُكر أن قائدًا عسكريًّا انهزم في إحدى الجولات الحربية، فانهارت معنوياته وقرَّر أن ينسحب ويلوذ بالفرار، ولكنه قبل أن يُعلن انسحابه شاهدَ من مكانه نملةً تحاول أن تحملَ حبة شعيرٍ، فتنوءُ بحملِها، وكلَّما حملتها وسارت بها خطوةً أو خطوتين، سقطت منها، لكنها وبإصرار عجيب كانت تعاودُ المحاولة من جديد، فتحمل الحبة ثانيةً وثالثةً ورابعةً، حتى أحصى لها أكثر من تسعين محاولةً، دون أن تستسلم أو تتوقف، إلى أن تكلَّلت مهمَّتها بالنجاح أخيرًا، وأدخلت الحبة في جُحرها، وهنا التفتَ القائدُ المهزوم إلى نفسه قائلًا: وهل النملةُ أقوى منِّي إرادةً وعزيمةً؟ ثم عاد إلى جيشه المنهزمُ بنفسيةٍ أخرى، وأخذ يبثُّ فيهم الحماس، والإصرار على الصمود، فكان يخسرُ جولةً ويكسبُ أخرى، وكلَّما خسِرَ جولةً تذكرَ معلِّمتهُ النملة وصمودها العجيب، ومحاولاتها المتكررة، فيحاول من جديد، ويكرر المحاولة مرة بعد أخرى، حتى تحقق له النصر أخيرًا، إذًا فلا يوجدُ شيءٌ اسمهُ (فشل)، يوجدُ شيءٌ اسمهُ استسلامٌ أو انسحاب؛ لأنك عندما تكرر المحاولة فقدْ تخطئُ وقد تصيبُ، أما عندما تنسحب وتتوقف عن المحاولة، فلا مجال لأن تصيبَ أبدًا، وهذا هو الفشل الحقيقي.
ولأنك عندما تكرر المحاولة؛ فإما أن يتحقق لك النجاح والظفر، وإما أن تتعلم وتتطور، وتقترب من هدفك أكثر وأكثر؛ كرماة السهام كلما صوَّبت أكثر، كلما اقتربت من هدفك أكثر وأكثرَ.
إذًا واصِل واستمرَّ، وأَقدِم ولا تُحجم، ولا تخشَ من الفشل ولو تكرَّر، فالفشل هو جناح النجاح، وكل الناجحين تخرجوا بعد معاناة مع الفشل، وما ثَمَّ معصومٌ بعد الرسل، ومن الذي ما أخطأ قط، ومن له الحسنى فقط.
واصل واستمر، وكرَّر محاولاتك بلا يأس ولا استسلام، فكل النجاحات جاءت في المحاولة الأخيرة، ولو يعلم من ينسحب ويتوقف، كم كان قريبًا من النجاح لما استسلم ولما توقف، واصل واستمر، ولا تحتقر نفسك وقدراتك، فأنت جوهرة حقيقية، والجوهرة لا تفقد قيمتها مهما تكرر سقوطها على الأرض، واصل واستمر حتى لو تعثَّرت، فإنما يتعثرُ الماشي فقط، أما الجالسُ فلا يتعثر، والماشي يوشك أن يصل لهدفه، أما الجالس فلن يبرح مكانه.
واصل واستمر وإن قال لك المثبِّطون: لن تستطيع، فقل لهم: سأحاول، وإن قالوا: صعبٌ ومستحيل، فقل لهم: سأجرِّب، وإن قالوا: جرَّبت وفشِلت، فقل لهم: طالَما أنني أستطيع التكرار، فسأكرر حتى أنجح.
واصل واستمر، واعلَم أن الوقت لَمْ يفُت بعدُ، لكي تكونَ ما ينبغي لك أنْ تكونَ، لكن ذلك يتطلب منك أن تبذل قصارى جهدك، وأن تبذل كلَّ ما في وسعك، وأن تستثمر كلَّ ما تملكه من إمكانيات وطاقات، ومواهب وقدرات؛ مصداق ذلك من كتاب الله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
وإذا كان من الطبيعي أن يتوقف قطار النجاح في بعض المحطات لبعض الوقت، فإنه ليس من الطبيعي أن يطول هذا التوقف كثيرًا، فلا تعبر الجسر قبل وصوله، ولا تقطف الثمرة قبل نضوجها، ولا تؤجل عمل اليوم إلى الغد، واستمتِع بعملك، وتفاءَل بالخير يُدرَك، وأحسن الظن بربك، وثِقْ بمعيته وتوفيقه لك، واستعن به ولا تعجِز، وركز تنجز، واجتهد تحرز، وواصل تصل، وهيَّا لتكون أفضلَ ما يمكنك أن تكون، وقُم وانطلق إلى حيث تستحق: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128].
_________________________________________________
الكاتب: الشيخ عبدالله محمد الطوالة
Source link