تفسير سورة غافر
وهي
مكية.
قد كره
بعض السلف، منهم محمد بن سيرين أن يقال: «
الحواميم » وإنما يقال: « آل حم
» .
قال عبد
الله بن مسعود: « آل حم » ديباج
القرآن.
وقال ابن
عباس:إن لكل شيء لبابًا ولُبَاب القرآن « آل حم
» - أو قال:الحواميم.
قال
مِسْعَر بن كِدَام:كان يقال لهن: «
العرائس » .
روى ذلك
كله الإمام العَلم أبو عُبيد القاسم بن سلام، رحمه الله، في كتاب: « فضائل
القرآن » . وقال حُميد بن زَنْجويه:حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا
إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص عن عبيد الله قال:إن مثل القرآن كمثل رجل
انطلق يرتاد لأهله منـزلا فمر بأثر غيث فبينا هو يسير فيه ويتعجب [ منه
] ، إذ هبط على روضات دَمِثات فقال:عجبت من الغيث الأول، فهذا
أعجب وأعجب فقيل له:إن مثل الغيث الأول مثل عِظَم القرآن، وإن مثل هؤلاء الروضات
الدمثات، مثل آل حم في القرآن. أورده البغوي .
وقال ابن
لَهِيعة عن يزيد بن أبي حبيب:أن الجرّاح بن أبي الجراح حدثه عن ابن عباس، قال:لكل
شيء لباب، ولباب القرآن الحواميم .
وقال ابن
مسعود:إذا وَقعتُ في « آل حم » فقد
وقعتُ في روضات أتأنَّق فيهن .
وقال أبو
عبيد:حدثنا الأشجعي، حدثنا مِسْعر - هو ابن كِدَام - عمن حدثه:أن رجلا رأى أبا
الدرداء [ رضي الله عنه ] يبني
مسجدًا، فقال له:ما هذا؟ فقال:أبنيه من أجل « آل حم
» .
وقد يكون
هذا المسجد الذي بناه أبو الدرداء هو المسجد المنسوب إليه داخل قلعة دمشق. وقد
يكون صيانتها وحفظها ببركته وبركة ما وُضع له، فإن هذا الكلام يدل على النصر على
الأعداء، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه في بعض الغزوات: « إن
بَيّتم الليلة فقولوا:حم، لا ينصرون » وفي
رواية: « لا تنصرون » .
وقال
الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا أحمد بن الحكم بن ظَبْيان بن خَلف المازني، ومحمد بن
الليث الهمداني قالا حدثنا موسى بن مسعود، حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكر المليكي،
عن زرارة بن مصعب، عن أبي سلمة، عن أبي هُرَيرة، رضي الله عنه، قال:قال رسولُ الله
صلى الله عليه وسلم: « من قرأ آية الكرسي وأول حم
المؤمن، عُصِم ذلك اليوم من كل سوء » .
ثم
قال:لا نعلمه يُروى إلا بهذا الإسناد. ورواه الترمذي من حديث المليكي، وقال:تكلم
فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه .
بسم الله الرحمن الرحيم
حم ( 1 ) تَنْزِيلُ
الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ( 2 )
غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا
إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ( 3 )
أما
الكلام على الحروف المقطعة، فقد تقدم في أول « سورة
البقرة » بما أغنى عن إعادته هاهنا.
وقد
قيل:إن ( حم ) اسم من أسماء الله عز وجل،
وأنشدوا في ذلك
يُذَكِّــرُني حـامِيمَ والـرمحُ شَـاجر فَهَــلا تــلا
حَـاميمَ قَبْـل التَّقـدُّمِ
وقد ورد
في الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي، من حديث الثوري، عن أبي إسحاق، عن المهلب
بن أبي صُفْرة قال:حدثني من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن
بَيَّتم الليلة فقولوا:حم، لا ينصرون » وهذا
إسناد صحيح .
واختار
أبو عبيد أن يُروى: « فقولوا:حم، لا ينصروا » أي:إن
قلتم ذلك لا ينصروا، جعله جزاء لقوله:فقولوا.
وقوله: (
تَنـزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ )
أي:تنـزيل هذا الكتاب - وهو القرآن- من الله ذي العزة والعلم، فلا يرام جنابه، ولا
يخفى عليه الذر وإن تكاثف حجابه.
وقوله: (
غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ )
أي:يغفر ما سلف من الذنب، ويقبل التوبة في المستقبل لمن تاب إليه وخَضَع لديه.
وقوله: (
شَدِيدُ الْعِقَابِ ) أي:لمن تمرد وطغى وآثر الحياة
الدنيا، وعتا عن أوامر الله، وبغى [ وقد
اجتمع في هذه الآية الرجاء والخوف ] . وهذه
كقوله تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ
عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [
الحجر:49 - 50 ] يقرن هذين الوصفين كثيرًا في
مواضع متعددة من القرآن؛ ليبقى العبد بين الرجاء والخوف.
وقوله: ( ذِي
الطَّوْلِ ) قال ابن عباس:يعني:السعة والغنى. وكذا قال مجاهد وقتادة.
وقال
يزيد بن الأصم: ( ذِي الطَّوْلِ )
يعني:الخير الكثير.
وقال
عكرمة: ( ذِي الطَّوْلِ ) ذي
المن.
وقال
قتادة: [ يعني ] ذي النعم والفواضل.
والمعنى:أنه
المتفضل على عباده، المتطول عليهم بما هو فيه من المنن والأنعام، التي لا يطيقون
القيام بشكر واحدة منها، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [
إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ] [
إبراهيم:34 ] .
وقوله: ( لا
إِلَهَ إِلا هُوَ ) أي:لا نظير له في جميع صفاته،
فلا إله غيره، ولا رب سواه ( إِلَيْهِ الْمَصِيرُ )
أي:المرجع والمآب، فيجازي كل عامل بعمله، وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [
الرعد:41 ] .
وقال أبو
بكر بن عياش:سمعت أبا إسحاق السَّبِيعي يقول:جاء رجل إلى عمر بن الخطاب [ رضي
الله عنه ] فقال:يا أمير المؤمنين إني قَتَلْتُ، فهل لي من توبة؟ فقرأ
عليه ( حم * تَنـزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ
الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ )
وقال:اعمل ولا تيأس.
رواه ابن
أبي حاتم - واللفظ له- وابن جرير .
وقال ابن
أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا موسى بن مروان الرِّقِّي، حدثنا عمر - يعني ابن أيوب-
أخبرنا جعفر بن بَرْقان، عن يزيد بن الأصم قال:كان رجل من أهل الشام ذو بأس، وكان
يفد إلى عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه ] ،
ففقده عمر فقال:ما فعل فلان بن فلان؟ فقالوا:يا أمير المؤمنين، يتابع في هذا
الشراب. قال:فدعا عمر كاتبه، فقال:اكتب: « من عمر
بن الخطاب إلى فلان ابن فلان، سلام عليك، [ أما
بعد ] :فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، غافر الذنب وقابل
التوب، شديد العقاب، ذي الطول، لا إله إلا هو إليه المصير » . ثم
قال لأصحابه:ادعوا الله لأخيكم أن يُقْبِل بقلبه، وأن يتوب الله عليه . فلما بلغ
الرجل كتابُ عمر جعل يقرؤه ويردده، ويقول:غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، قد
حذرني عقوبته ووعدني أن يغفر لي .
ورواه
الحافظ أبو نعيم من حديث جعفر بن برقان، وزاد: « فلم
يزل يُرَدّدها على نفسه، ثم بكى ثم نـزع فأحسن النـزع فلما بلغ عمر [ رضي
الله عنه ] خبرهُ قال:هكذا فاصنعوا، إذا رأيتم أخاكم زل زلَّة فسددوه
ووفقوه، وادعوا الله له أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانًا للشيطان عليه » .
وقال ابن
أبي حاتم:حدثنا عمر بن شَبَّة ، حدثنا حماد بن واقد - أبو عُمَر الصفار- ، حدثنا
ثابت البناني، قال:كنت مع مصعب بن الزبير في سواد الكوفة، فدخلت حائطًا أصلي
ركعتين فافتتحت: ( حم )
المؤمن، حتى بلغت: ( لا إِلَهَ إِلا هُوَ
إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) فإذا رجل خلفي على بغلة شهباء
عليه مُقَطَّعات يمنية فقال:إذا قلت: (
غَافِرِ الذَّنْبِ ) فقل: « يا
غافر الذنب، اغفر لي ذنبي » . وإذا قلت: (
وَقَابِلِ التَّوْبِ ) ، فقل: « يا
قابل التوب، اقبل توبتي » . وإذا قلت: (
شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ، فقل: « يا
شديد العقاب، لا تعاقبني » . قال:فالتفت فلم أر أحدًا،
فخرجت إلى الباب فقلت:مَرّ بكم رجل عليه مقطعات يمنية؟ قالوا:ما رأينا أحدًا
فكانوا يُرَون أنه إلياس.
ثم رواه
من طريق أخرى، عن ثابت، بنحوه. وليس فيه ذكر إلياس.
مَا
يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ
تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ ( 4 )
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ
أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ
الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ( 5 )
وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ
أَصْحَابُ النَّارِ ( 6 )
يقول
تعالى:ما يدفع الحق ويجادل فيه بعد البيان وظهور البرهان ( إِلا
الَّذِينَ كَفَرُوا ) أي:الجاحدون لآيات الله وحججه
وبراهينه، ( فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ ) أي:في
أموالهم ونعيمها وزهرتها، كما قال: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا
فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ
[ آل عمران:196 - 197 ] ، وقال
تعالى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [
لقمان:24 ] .
ثم قال
تعالى مسليًا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه، بأن له
أسوة من سلف من الأنبياء؛ فإنه قد كذبهم أممهم وخالفوهم، وما آمن بهم منهم إلا
قليل ، فقال: ( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ
نُوحٍ ) وهو أول رسول بَعَثه الله ينهى عن عبادة الأوثان، (
وَالأحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ ) أي:من كل أمة، (
وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ )
أي:حرصوا على قتله بكل ممكن، ومنهم من قتل رسوله ، (
وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ )
أي:مَاحَلُوا بالشبهة ليردوا الحق الواضح الجلي.
وقد قال
أبو القاسم الطبراني:حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا عارم أبو النعمان، حدثنا
مُعْتَمِر بن سليمان قال:سمعت أبي يحدث عن حَنَش، عن عكرمة، عن ابن عباس [ رضي
الله عنه ] ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من
أعان باطلا ليدحض بباطله حقًّا، فقد برئت منه ذمة الله وذمة رسوله » .
وقوله: (
فَأَخَذْتُهُمْ ) أي:أهلكتهم على ما صنعوا من
هذه الآثام والذنوب العظام، ( فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ )
أي:فكيف بلغك عذابي لهم، ونكالي بهم؟ قد كان شديدًا موجعًا مؤلمًا.
قال
قتادة:كان والله شديدًا.
وقوله: (
وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ
أَصْحَابُ النَّارِ ) أي:كما حقت كلمةُ العذاب على
الذين كفروا من الأمم السالفة، كذلك حقت على المكذبين من هؤلاء الذين كذبوك
وخالفوك يا محمد بطريق الأولى والأحرى؛ لأن من كذبّك فلا وثوق له بتصديق غيرك.
الَّذِينَ
يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ
شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ
وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ( 7 )
يخبر تعالى عن الملائكة
المقربين من حَمَلة العرش الأربعة، ومن حوله من الكروبيين، بأنهم يسبحون بحمد
ربهم، أي:يقرنون بين التسبيح الدال على نفي النقائص، والتحميد المقتضي لإثبات صفات
المدح، ( وَيُؤْمِنُونَ بِهِ )
أي:خاشعون له أذلاء بين يديه، وأنهم (
يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) أي:من
أهل الأرض ممن آمن بالغيب، فقيض الله سبحانه ملائكته المقربين أن يَدْعُوا
للمؤمنين بظهر الغيب، ولما كان هذا من سجايا الملائكة عليهم الصلاة والسلام، كانوا
يُؤمِّنون على دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب، كما ثبت في صحيح مسلم: « إذا
دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك:آمين ولك بمثله » .
وقد قال الإمام أحمد:حدثنا عبد
الله بن محمد - هو ابن أبي شيبة - حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن
يعقوب بن عتبة، عن عكرمة عن ابن عباس [ رضي
الله عنه ] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صَدّق أمية في شيء من
شعره، فقال:
رَجُـلٌ
وَثَـور تَحْـتَ رِجْـل يَمينـه وَالنَّسْــرُ للأخْـرَى وَلَيْـثٌ مُرْصَـدُ
فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: « صدق » . فقال:
وَالشــمس
تَطلـعُ كـل آخـر لَيْلـةٍ حَــمْراءُ يُصْبــحُ لَونُهــا يَتَـوَرّدُ
تَـأبَى
فَمـا تَطلُـع لَنَـا فـي رِسْـلها إلا مـعَـذّبَــــة وَإلا تُجْـــلـدَ
فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
« صدق » .
وهذا إسناد جيد:وهو يقتضي أن حملة
العرش اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة كانوا ثمانية، كما قال تعالى: وَيَحْمِلُ
عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [
الحاقة:17 ] .
وهنا سؤال وهو أن يقال:ما الجمع
بين المفهوم من هذه الآية، ودلالة هذا الحديث؟ وبين الحديث الذي رواه أبو داود:
حدثنا محمد بن الصباح البزار،
حدثنا الوليد بن أبي ثور، عن سِماك، عن عبد الله بن عَمِيرة ، عن الأحنف بن قيس،
عن العباس بن عبد المطلب، قال:كنت بالبطحاء في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم فمرت بهم سحابة، فنظر إليها فقال: « ما
تسمون هذه؟ » قالوا:السحاب. قال: «
والمزن؟ » قالوا:والمزن. قال: «
والعَنَان؟ » قالوا:والعنان - قال أبو داود:ولم أتقن العنان جيدًا - قال: « هل
تدرون بُعْدَ ما بين السماء والأرض؟ »
قالوا:لا ندري. قال: « بُعد ما بينهما إما واحدة، أو
اثنتان، أو ثلاث وسبعون سنة، ثم السماء فوقها كذلك » حتى
عَدّ سبع سموات « ثم فوق السماء السابعة بحر ،
بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوْعَال، بين
أظلافهن ورُكبهن مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم على ظهورهن العرش بين أسفله وأعلاه
مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم الله، عز وجل، فوق ذلك » ثم رواه
أبو داود والترمذي وابن ماجه، من حديث سماك بن حرب، به . وقال الترمذي:حسن غريب.
وهذا يقتضي أن حملة العرش
ثمانية، كما قال شَهْر بن حَوْشَب:حملة العرش ثمانية، أربعة يقولون: « سبحانك
اللهم وبحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك » .
وأربعة يقولون: « سبحانك اللهم وبحمدك، لك
الحمد على عفوك بعد قدرتك » .
ولهذا يقولون إذا استغفروا
للذين آمنوا: ( رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ
شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا ) أي:إن رحمتك تَسَع ذنوبهم
وخطاياهم، وعلمك محيط بجميع أعمالهم [
وأقوالهم ] وحركاتهم وسكناتهم، (
فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ )
أي:فاصفح عن المسيئين إذا تابوا وأنابوا وأقلعوا عما كانوا فيه، واتبعوا ما أمرتهم
به، من فعل الخيرات وترك المنكرات، (
وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ) أي:وزحزحهم عن عذاب الجحيم،
وهو العذاب الموجع الأليم .
رَبَّنَا
وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ
آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ ( 8 )
وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ
وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 9 )
(
رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ
آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ )
أي:اجمع بينهم وبينهم، لتقر بذلك أعينهم بالاجتماع في منازل متجاورة، كما قال [
تعالى ] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ
بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ
عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [ الطور:21 ]
أي:ساوينا بين الكل في المنـزلة، لتقر أعينهم، وما نقصنا العالي حتى يساوي الداني،
بل رفعنا الناقص في العمل ، فساويناه بكثير العمل، تفضلا منا ومنة.
قال سعيد
بن جبير:إن المؤمن إذا دخل الجنة سأل عن أبيه وابنه وأخيه، وأين هم؟ فيقال:إنهم لم
يبلغوا طبقتك في العمل فيقول:إني إنما عملت لي ولهم. فَيُلحَقُونَ به في الدرجة،
ثم تلا سعيد بن جبير هذه الآية: (
رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ
آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ ) .
قال
مُطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير:أنصحُ عبادِ الله للمؤمنين الملائكةُ، ثم تلا
هذه الآية: ( رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي
وَعَدْتَهُمْ ) وأغشُّ عباد الله للمؤمنين الشياطينُ.
وقوله: (
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )
أي:الذي لا يمانع ولا يغالب، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، الحكيم في أقوالك
وأفعالك، من شرعك وقدرك
(
وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ ) أي:فعلها أو وَبالها ممن وقعت
منه، ( وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ ) أي:يوم
القيامة، ( فَقَدْ رَحِمْتَهُ )
أي:لطفت به ونجيته من العقوبة، ( وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ ) .
إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ
أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ ( 10 )
قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ
فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ( 11 )
ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ
بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ( 12 ) هُوَ
الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا
يَتَذَكَّرُ إِلا مَنْ يُنِيبُ ( 13 )
فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ( 14 )
يقول
تعالى مخبرًا عن الكفار:أنهم يُنَادَون يوم القيامة وهم في غَمَرات النيران
يتلظون، وذلك عندما باشروا من عذاب الله ما لا قِبَل لأحد به، فمقتوا عند ذلك
أنفسهم وأبغضوها غاية البغض، بسبب ما أسلفوا من الأعمال السيئة، التي كانت سبب
دخولهم إلى النار، فأخبرتهم الملائكة عند ذلك إخبارا عاليا، نادوهم [ به ] نداء
بأن مقت الله لهم في الدنيا حين كان يُعرض عليهم الإيمان، فيكفرون، أشد من مقتكم
أيها المعذبون أنفسكم اليوم في هذه الحالة.
قال
قتادة في قوله: ( لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ
مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُونَ )
يقول:لمقتُ الله أهل الضلالة حين عُرض عليهم الإيمان في الدنيا، فتركوه وأبوا أن
يقبلوه، أكبر مما مقتوا أنفسهم حين عاينوا عذاب الله يوم القيامة .
وهكذا
قال الحسن البصري ومجاهد والسدي وذَرُّ بن عبد الله الهَمْداني، وعبد الرحمن بن
زيد بن أسلم، وابن جرير الطبري، رحمهم الله.
وقوله: (
قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) قال
الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود [ رضي
الله عنه ] :هذه الآية كقوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ
وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ
إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [ البقرة:28 ] وكذا
قال ابن عباس، والضحاك، وقتادة، وأبو مالك. وهذا هو الصواب الذي لا شك فيه ولا
مرية.
وقال السّدّي:أُميتوا
في الدنيا ثم أحيوا في قبورهم فخوطبوا، ثم أميتوا ثم أحيوا يوم القيامة.
وقال ابن
زيد:أحيوا حين أخذ عليهم الميثاق من صلب آدم، ثم خلقهم في الأرحام ثم أماتهم [ ثم
أحياهم ] يوم القيامة.
وهذان
القولان - من السدي وابن زيد- ضعيفان؛ لأنه يلزمهما على ما قالا ثلاث إحياءات
وإماتات. والصحيح قول ابن مسعود وابن عباس ومن تابعهما. والمقصود من هذا كله:أن
الكفار يسألون الرجعة وهم وقوف بين يدي الله، عز وجل، في عرصات القيامة، كما قال:
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا
أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [
السجدة:12 ] ، فلا يجابون. ثم إذا رأوا النار وعاينوها ووقفوا عليها،
ونظروا إلى ما فيها من العذاب والنَّكال، سألوا الرجعة أشد مما سألوا أول مرة، فلا
يجابون، قال الله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا
لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ
رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [ الأنعام:27
- 28 ] فإذا دخلوا النار وذاقوا مَسّها وحَسِيسها ومقامعها
وأغلالها، كان سؤُالهم للرجعة أشد وأعظم، وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا
أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ
نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ
فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [
فاطر:37 ] ، رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا
ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [
المؤمنون:107، 108 ] ، وفي هذه الآية الكريمة
تلطفوا في السؤال، وقدموا بين يدي كلامهم مُقدّمة، وهي قولهم: (
رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ )
أي:قدرتك عظيمة، فإنك أحييتنا بعد ما كنا أمواتا، ثم أمتنا ثم أحييتنا، فأنت قادر
على ما تشاء، وقد اعترفنا بذنوبنا، وإننا كنا ظالمين لأنفسنا في الدار الدنيا، (
فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ) أي فهل
أنت مجيبنا إلى أن تعيدنا إلى الدار الدنيا؟ فإنك قادر على ذلك؛ لنعمل غير الذي
كنا نعمل، فإن عدنا إلى ما كنا فيه فإنا ظالمون. فأُجِيبُوا ألا سبيل إلى عودكم
ومرجعكم إلى الدار الدنيا. ثم علل المنع من ذلك بأن سجاياكم لا تقبل الحق ولا
تقتضيه بل تَجْحَده وتنفيه؛ ولهذا قال تعالى: (
ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ
بِهِ تُؤْمِنُوا ) أي:أنتم هكذا تكونون، وإن
رددتم إلى الدنيا، كما قال تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ
وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [ الأنعام:28 ] .
وقوله: (
فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ) أي:هو
الحاكم في خلقه، العادل الذي لا يجور، فيهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويرحم من
يشاء، ويعذب من يشاء، لا إله إلا هو .
وقوله: ( هُوَ
الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ ) أي:يظهر قدرته لخلقه بما
يشاهدونه في خلقه العلوي والسفلي من الآيات العظيمة الدالة على كمال خالقها
ومبدعها ومنشئها، ( وَيُنـزلُ لَكُمْ مِنَ
السَّمَاءِ رِزْقًا ) ، وهو المطر الذي يخرج به من
الزروع والثمار ما هو مشاهد بالحس، من اختلاف ألوانه وطعومه، وروائحه وأشكاله
وألوانه، وهو ماء واحد، فبالقدرة العظيمة فاوت بين هذه الأشياء، ( وَمَا
يَتَذَكَّرُ ) أي:يعتبر ويتفكر في هذه الأشياء ويستدل بها على عظمة خالقها
( إِلا مَنْ يُنِيبُ ) أي:من
هو بصير منيب إلى الله، عز وجل.
وقوله: (
فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ )
أي:فأخلصوا لله وحده العبادة والدعاء، وخالفوا المشركين في مسلكهم ومذهبهم.
قال
الإمام أحمد:حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا هشام - يعني بن عروة بن الزبير- عن أبي
الزبير محمد بن مسلم بن مدرس المكي قال:كان عبد الله بن الزبير يقول في دبر كل
صلاة حين يسلم :لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل
شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له
النعمة وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله، مخلصين له الدين ولو كره
الكافرون « قال:وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُهَلِّل بهن دبر كل
صلاة . »
ورواه
مسلم وأبو داود والنسائي، من طرق، عن هشام بن عروة، وحجاج بن أبي عثمان، وموسى بن
عقبة، ثلاثتهم عن أبي الزبير، عن عبد الله بن الزبير قال:كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول في دبر الصلاة: « لا إله إلا الله وحده لا شريك
له وذكر تمامه . »
وقد ثبت
في الصحيح عن ابن الزبير؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عقب الصلوات
المكتوبات: « لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو
على كل شيء قدير. لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه،
له النعمة وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره
الكافرون » .
وقال ابن
أبي حاتم:حدثنا الربيع حدثنا الخَصِيب بن ناصح، حدثنا صالح - يعني المِرِّي- عن
هشام بن حسان، عن ابن سيرين عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: « ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا
يستجيب دعاءً من قلب غافل لاه » .
رَفِيعُ
الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ
عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ( 15 )
يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ
الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ( 16 )
يقول تعالى [
مخبرا ] عن عظمته وكبريائه، وارتفاع عرشه العظيم العالي على جميع مخلوقاته
كالسقف لها، كما قال تعالى: مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ
سَنَةٍ [ المعارج:3 - 4 ] ،
وسيأتي بيان أن هذه مسافة ما بين العرش إلى الأرض السابعة، في قول جماعة من السلف
والخلف، وهو الأرجح إن شاء الله [
تعالى ] . وقد ذكر غير واحد أن العرش من ياقوتة حمراء، اتساع ما بين
قطريه مسيرة خمسين ألف سنة. وارتفاعه عن الأرض السابعة مسيرة خمسين ألف سنة. وقد
تقدم في حديث « الأوعال » ما يدل على ارتفاعه عن السموات
السبع بشيء عظيم.
وقوله: (
يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) كقوله
تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ
عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا [
فَاتَّقُونِ ] [ النحل:2 ] ،
وكقوله: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ
الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * [
بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِين ] [
الشعراء:192 - 195 ] ؛ ولهذا قال: (
لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن
عباس: ( يَوْمَ التَّلاقِ ) اسم من
أسماء يوم القيامة، حذر منه عباده.
وقال ابن جُرَيج:قال ابن
عباس:يلتقي فيه آدم وآخر ولده.
وقال ابن زيد:يلتقي فيه العباد.
وقال قتادة، والسدي، وبلال بن
سعد، وسفيان بن عيينة :يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض.
وقال قتادة أيضا:يلتقي فيه أهل
السماء وأهل الأرض، والخالق والخلق.
وقال مَيْمون بن مِهْران:يلتقي
[ فيه ] الظالم والمظلوم.
وقد يقال:إن يوم القيامة هو
يشمل هذا كله، ويشمل أن كل عامل سيلقى ما عمل من خير وشر. كما قاله آخرون.
وقوله: (
يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ ) أي:ظاهرون بادون كلهم، لا شيء
يكنهم ولا يظلهم ولا يسترهم. ولهذا قال: (
يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ )
أي:الجميع في علمه على السواء.
وقوله: (
لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) قد
تقدم في حديث ابن عمر:أنه تعالى يطوي السموات والأرض بيده، ثم يقول:أنا الملك، أنا
الجبار، أنا المتكبر، أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ .
وفي حديث الصور:أنه تعالى إذا
قبض أرواح جميع خلقه، فلم يبق سواه وحده لا شريك له، حينئذ يقول:لمن الملك اليوم؟
ثلاث مرات، ثم يجيب نفسه قائلا ( لِلَّهِ الْوَاحِدِ
الْقَهَّارِ ) أي:الذي هو وحده قد قَهَر كل شيء وغلبه .
وقد قال ابن أبي حاتم:حدثنا
محمد بن غالب الدقاق، حدثنا عبيد بن عبيدة، حدثنا معتمر، عن أبيه، حدثنا أبو
نَضْرة، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ]
قال:ينادي مناد بين يدي الساعة:يا أيها الناس، أتتكم الساعة. فيسمعها الأحياء
والأموات، قال:وينـزل الله [ عز وجل ] إلى
سماء الدنيا ويقول: ( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ
لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) .
الْيَوْمَ
تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ
الْحِسَابِ ( 17 )
وقوله: (
الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ
سَرِيعُ الْحِسَابِ ) يخبر تعالى عن عدله في حكمه
بين خلقه، أنه لا يظلم مثقال ذرة من خير ولا من شر، بل يجزي بالحسنة عشر أمثالها،
وبالسيئة واحدة؛ ولهذا قال: ( لا ظُلْمَ الْيَوْمَ ) كما
ثبت في صحيح مسلم ، عن أبي ذر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما يحكي عن
ربه عز وجل- أنه قال: « يا عبادي، إني حرمت الظلم على
نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا - إلى أن قال- :يا عبادي، إنما هي أعمالكم
أحصيها عليكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا
يلومن إلا نفسه » .
وقوله: ( إِنَّ
اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) أي:يحاسب الخلائق كلهم، كما
يحاسب نفسًا واحدة، كما قال: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ
وَاحِدَةٍ [ لقمان:28 ] ، وقال
[ تعالى ] : وَمَا أَمْرُنَا إِلا
وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [
القمر:50 ] .
وَأَنْذِرْهُمْ
يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا
لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ ( 18 )
يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ( 19 )
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ
بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ( 20 )
يوم
الآزفة هو:اسم من أسماء يوم القيامة، سميت بذلك لاقترابها، كما قال تعالى:
أَزِفَتِ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ [
النجم:57 - 58 ] وقال اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ
وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [ القمر:1 ] ، وقال
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ [
الأنبياء:1 ] وقال أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [
النحل:1 ] وقال فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ [
الملك:27 ] .
وقوله: ( إِذِ
الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ ) [ أي
ساكتين ] ، قال قتادة:وقفت القلوب في الحناجر من الخوف، فلا تخرج ولا
تعود إلى أماكنها. وكذا قال عكرمة، والسدي، وغير واحد.
ومعنى (
كَاظِمِينَ ) أي:ساكتين، لا يتكلم أحد إلا بإذنه يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ
وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ
وَقَالَ صَوَابًا [ النبأ:38 ] .
وقال ابن
جُرَيْج : ( كَاظِمِينَ )
أي:باكين.
وقوله: ( مَا
لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ ) أي:ليس
للذين ظلموا أنفسهم بالشرك بالله من قريب منهم ينفعهم، ولا شفيع يشفع فيهم، بل قد
تقطعت بهم الأسباب من كل خير.
وقوله: (
يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ) يخبر
تعالى عن علمه التام المحيط بجميع الأشياء، جليلها وحقيرها، صغيرها وكبيرها،
دقيقها ولطيفها؛ ليحذر الناس علمه فيهم، فيستحيوا من الله حَقّ الحياء،
ويَتَّقُوهُ حق تقواه، ويراقبوه مراقبة من يعلم أنه يراه، فإنه تعالى يعلم العين
الخائنة وإن أبدت أمانة، ويعلم ما تنطوي عليه خبايا الصدور من الضمائر والسرائر.
قال ابن
عباس في قوله: ( يَعْلَمُ خَائِنَةَ
الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ) وهو
الرجل يدخل على أهل البيت بيتهم، وفيهم المرأة الحسناء، أو تمر به وبهم المرأة
الحسناء، فإذا غفلوا لحظ إليها، فإذا فطنوا غَضّ، فإذا غفلوا لحظ، فإذا فطنوا غض [
بصره عنها ] وقد اطلع الله من قلبه أنه وَدّ أن لو اطلع على فرجها. رواه
ابن أبي حاتم.
وقال
الضحاك: ( خَائِنَةَ الأعْيُنِ ) هو
الغمز، وقول الرجل:رأيت، ولم ير؛ أو:لم أر، وقد رأى.
وقال ابن
عباس:يعلم [ الله ] تعالى من العين في نظرها، هل
تريد الخيانة أم لا؟ وكذا قال مجاهد، وقتادة.
وقال ابن
عباس في قوله: ( وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ) يعلم
إذا أنت قدرت عليها هل تزني بها أم لا؟.
وقال
السدي: ( وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ) أي:من
الوسوسة .
وقوله: (
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ ) أي:يحكم بالعدل.
وقال الأعمش:عن
سعيد بن جبير، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ] في
قوله: ( وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ ) قادر
على أن يجزي بالحسنة الحسنة، وبالسيئة السيئة ( إِنَّ
اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) .
وهذا
الذي فسر به ابن عباس في هذه الآية كقوله تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا
بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [
النجم:31 ] . وقوله: (
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ) أي:من
الأصنام والأوثان والأنداد، ( لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ ) أي:لا
يملكون شيئا ولا يحكمون بشيء ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ ) أي:سميع لأقوال خلقه، بصير بهم، فيهدي من يشاء، ويضل من
يشاء، وهو الحاكم العادل في جميع ذلك .
أَوَلَمْ
يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا
مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ
فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ( 21 )
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا
فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 22 )
يقول تعالى:أولم
يسر هؤلاء المكذبون برسالتك يا محمد ( فِي
الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ ) أي:من
الأمم المكذبة بالأنبياء، ما حل بهم من العذاب والنكال مع أنهم كانوا أشد من هؤلاء
قوة ( وَآثَارًا فِي الأرْضِ )
أي:أثروا في الأرض من البنايات والمعالم والديارات، ما لا يقدر عليه هؤلاء، كما
قال: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ [
الأحقاف:26 ] ، وقال وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا
عَمَرُوهَا [ الروم:9 ] أي:ومع
هذه القوة العظيمة والبأس الشديد، أخذهم الله بذنوبهم، وهي كفرهم برسلهم، ( وَمَا
كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ) أي:وما
دفع عنهم عذاب الله أحد، ولا رده عنهم راد، ولا وقاهم واق.
ثم ذكر
علة أخذه إياهم وذنوبهم التي ارتكبوها واجترموها، فقال: (
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ )
أي:بالدلائل الواضحات والبراهين القاطعات، (
فَكَفَرُوا ) أي:مع هذا البيان والبرهان كفروا وجحدوا، (
فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ ) أي:أهلكهم ودمَّر عليهم
وللكافرين أمثالها، ( إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ
الْعِقَابِ ) أي:ذو قوة عظيمة وبطش شديد، وهو (
شَدِيدُ الْعِقَابِ ) أي:عقابه أليم شديد وجيع.
أعاذنا الله منه.
وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ( 23 )
إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ( 24 )
فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ
الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ
إِلا فِي ضَلالٍ ( 25 )
يقول تعالى مسليا لنبيه صلى
الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه، ومبشرًا له بأن العاقبة والنصرة له في
الدنيا والآخرة، كما جرى لموسى بن عمران ، فإن الله تعالى أرسله بالآيات البينات،
والدلائل الواضحات؛ ولهذا قال: ( بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ
مُبِينٍ ) والسلطان هو:الحُجة والبرهان.
( إِلَى
فِرْعَوْنَ ) هو:ملك القبط بالديار المصرية، (
وَهَامَانَ ) وهو:وزيره في مملكته (
وَقَارُونَ ) وكان أكثر الناس في زمانه مالا وتجارة (
فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) أي:كذبوه وجعلوه ساحرًا
مُمَخْرِقًا مموهًا كذابًا في أن الله أرسله. وهذه كقوله [
تعالى ] : كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ
رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ
قَوْمٌ طَاغُونَ [ الذاريات 52، 53 ] .
(
فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا )
أي:بالبرهان القاطع الدال على أن الله تعالى أرسله إليهم، (
قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ ) وهذا
أمر ثان من فرعون بقتل ذكور بني إسرائيل. أما الأول:فكان لأجل الاحتراز من وجود
موسى، أو لإذلال هذا الشعب وتقليل عددهم، أو لمجموع الأمرين. وأما الأمر
الثاني:فللعلة الثانية، لإهانة هذا الشعب، ولكي يتشاءموا بموسى، عليه السلام؛
ولهذا قالوا: أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا
قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ
فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [ الأعراف:129 ] .
قال قتادة:هذا أمر بعد أمر.
قال الله تعالى: ( وَمَا
كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ ) أي:وما
مكرهم وقصدهم الذي هو تقليل عدد بني إسرائيل لئلا يُنصروا عليهم، إلا ذاهب وهالك
في ضلال.
وَقَالَ
فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ
يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ ( 26 )
وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا
يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ( 27 )
(
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ) وهذا
عَزْمٌ من فرعون - لعنه الله- على قتل موسى، عليه السلام، أي:قال لقومه:دعوني حتى
أقتل لكم هذا، ( وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ) أي:لا
أبالي منه. وهذا في غاية الجحد والتجهرم والعناد.
وقوله -
قبحه الله- : ( إِنِّي أَخَافُ أَنْ
يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ )
يعني:موسى، يخشى فرعون أن يُضِلَّ موسى الناس ويغير رسومهم وعاداتهم. وهذا كما
يقال في المثل: « صار فرعون مُذَكِّرًا »
يعني:واعظا، يشفق على الناس من موسى، عليه السلام.
وقرأ
الأكثرون: « أن يبدل دينكم وأن يُظهِر في الأرض الفساد » وقرأ
آخرون: ( أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ ) وقرأ
بعضهم: « يَظْهَر في الأرض الفسادُ » بالضم .
وقال
موسى: ( إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ
مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ) أي:لما
بلغه قول فرعون: ( ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى ) قال
موسى:استجرتُ بالله وعُذْتُ به من شره وشر أمثاله؛ ولهذا قال: ( إِنِّي
عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ ) أيها المخاطبون، ( مِنْ
كُلِّ مُتَكَبِّرٍ ) أي:عن الحق، مجرم، ( لا
يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ) ؛ ولهذا جاء في الحديث عن أبي
موسى، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف قوما قال: « اللهم،
إنا نعوذ بك من شرورهم، وندرأ بك في نحورهم » .
وَقَالَ
رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلا
أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ
وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ
الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ( 28 ) يَا
قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا
مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى
وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ ( 29 )
المشهور
أن هذا الرجل المؤمن كان قبْطيًا من آل فرعون.
قال
السدي:كان ابن عم فرعون، ويقال:إنه الذي نجا مع موسى. واختاره ابن جرير ، وَرَدَّ
قول من ذهب إلى أنه كان إسرائيليًّا؛ لأن فرعون انفعل لكلامه واستمعه، وكف عن قتل
موسى، عليه السلام، ولو كان إسرائيليًّا لأوشك أن يعاجل بالعقوبة؛ لأنه منهم .
وقال ابن
جُرَيج عن ابن عباس:لم يؤمن من آل فرعون سوى هذا الرجل وامرأة فرعون، والذي قال:
يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ [
القصص:20 ] رواه ابن أبي حاتم.
وقد كان
هذا الرجلُ يكتم إيمانه عن قومه القبط، فلم يظهر إلا هذا اليوم حين قال فرعون:
ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى ، فأخذت الرجل غضبة لله عز وجل، و « أفضل
الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر » ، كما
ثبت بذلك الحديث، ولا أعظم من هذه الكلمة عند فرعون وهي قوله: (
أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ ) [
أي:لأجل أن يقول ربي الله ] ، اللهم إلا ما رواه البخاري
في صحيحه حيث قال:
حدثنا
علي بن عبد الله، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، حدثني يحيى بن أبي كثير،
حدثني محمد بن إبراهيم التيمي، حدثني عروة بن الزبير قال:قلت لعبد الله بن عمرو بن
العاص:أخبرني بأشد شيء مما صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال:بينا
رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عُقْبة بن أبي مُعَيط،
فأخذ بمَنْكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولَوَى ثوبه في عنقه، فخنقه خنقًا
شديدا، فأقبل أبو بكر، رضي الله عنه، فأخذ بمنكبة ودَفَع عن النبي صلى الله عليه
وسلم ثم قال: ( أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ
يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ) .
انفرد به
البخاري من حديث الأوزاعي قال:وتابعه محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عروة، عن أبيه، به
.
وقال ابن
أبي حاتم:حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني، حدثنا عَبْدة عن هشام - يعني ابن عروة-
عن أبيه، عن عمرو بن العاص أنه سُئِل:ما أشد ما رأيت قريشًا بلغوا من رسول الله صلى
الله عليه وسلم؟ قال:مر بهم ذات يوم فقالوا له:أنت تنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟
فقال: « أنا ذاك » فقاموا إليه، فأخذوا بمجامع
ثيابه، فرأيتُ أبا بكر محتضنه من ورائه، وهو يصيح بأعلى صوته، وإن عينيه ليسيلان،
وهو يقول:يا قوم، ( أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ
يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ) حتى
فرغ من الآية كلها.
وهكذا
رواه النسائي من حديث عبدة، فجعله من مسند عمرو بن العاص، رضي الله عنه .
وقوله: (
وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ) أي:كيف
تقتلون رجلا لكونه يقول: « ربي الله » ، وقد
أقام لكم البرهان على صدق ما جاءكم به من الحق؟ ثم تَنـزل معهم في المخاطبة فقال:
( وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ
صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ )
يعني:إذا لم يظهر لكم صحة ما جاءكم به، فمن العقل والرأي التام والحزم أن تتركوه
ونفسه، فلا تؤذوه، فإن يك كاذبا فإن الله سيجازيه على كذبه بالعقوبة في الدنيا
والآخرة، وإن يك صادقا وقد آذيتموه يصبكم بعض الذي يعدكم، فإنه يتوعدكم إن
خالفتموه بعذاب في الدنيا والآخرة، فمن الجائز عندكم أن يكون صادقا، فينبغي على هذا
ألا تتعرضوا له، بل اتركوه وقومه يدعوهم ويتبعونه.
وهكذا
أخبر الله [ تعالى ] عن موسى، عليه السلام، أنه
طلب من فرعون وقومه الموادعة في قوله: وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ
فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ * أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي
آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ
تَرْجُمُونِ * وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ [
الدخان:17 - 21 ] وهكذا قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم لقريش أن يتركوه يدعو إلى الله [
تعالى ] عباد الله، ولا يمسوه بسوء، وأن يصلوا ما بينه وبينهم من
القرابة في ترك أذيته، قال الله تعالى: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا
إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [
الشورى:23 ] أي:إلا ألا تؤذوني فيما بيني وبينكم من القرابة، فلا تؤذوني
وتتركوا بيني وبين الناس. وعلى هذا وقعت الهدنة يوم الحديبية، وكان فتحًا مبينًا.
وقوله: ( إِنَّ
اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) أي:لو
كان هذا الذي يزعم أن الله أرسله إليكم كاذبا كما تزعمون، لكان أمره بينا، يظهر
لكل أحد في أقواله وأفعاله، كانت تكون في غاية الاختلاف والاضطراب، وهذا نرى أمره
سديدا ومنهجه مستقيما، ولو كان من المسرفين الكذابين لما هداه الله، وأرشده إلى ما
ترون من انتظام أمره وفعله .
ثم قال
المؤمن محذرًا قومه زوال نعمة الله عنهم وحلول نقمة الله بهم: ( يَا
قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأرْضِ ) أي:قد
أنعم الله عليكم بهذا الملك والظهور في الأرض بالكلمة النافذة والجاه العريض،
فراعوا هذه النعمة بشكر الله، وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم، واحذروا نقمة الله
إن كذبتم رسوله، ( فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ
بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا ) أي:لا تغني عنكم هذه الجنود
وهذه العساكر، ولا ترد عنا شيئا من بأس الله إن أرادنا بسوء.
( قَالَ
فِرْعَوْنُ ) لقومه، رادًّا على ما أشار به هذا الرجل الصالح البار
الراشد الذي كان أحق بالملك من فرعون: ( مَا
أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى ) أي:ما أقول لكم وأشير عليكم
إلا ما أراه لنفسي وقد كذب فرعون، فإنه كان يتحقق صدق موسى فيما جاء به من الرسالة
قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
بَصَائِرَ [ الإسراء:102 ] ، وقال
الله تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا
[ النمل:14 ] .
فقوله: ( مَا
أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى ) كذب فيه وافترى، وخان الله
ورسوله ورعيته، فغشهم وما نصحهم وكذا قوله: ( وَمَا
أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ ) أي:وما
أدعوكم إلا إلى طريق الحق والصدق والرشد وقد كذب أيضا في ذلك، وإن كان قومه قد
أطاعوه واتبعوه، قال الله تعالى: فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ
فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [ هود:97 ] ، وقال
تعالى: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى [
طه:79 ] ، وفي الحديث: « ما من
إمام يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا لم يَرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من
مسيرة خمسمائة عام » .
وَقَالَ
الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ ( 30 )
مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا
اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ ( 31 )
وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ( 32 )
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ
يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ( 33 )
هذا إخبار من الله، عز وجل، عن
هذا الرجل الصالح، مؤمن آل فرعون:أنه حذر قومه بأس الله في الدنيا والآخرة فقال: ( يَا
قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأحْزَابِ )
أي:الذين كذبوا رسل الله في قديم الدهر، كقوم نوح وعاد وثمود، والذين من بعدهم من
الأمم المكذبة، كيف حل بهم بأس الله، وما رده عنهم راد، ولا صده عنهم صاد.
( وَمَا
اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ )
أي:إنما أهلكهم الله بذنوبهم، وتكذيبهم رسله، ومخالفتهم أمره. فأنفذ فيهم قدره، ثم
قال: ( وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ
) يعني:يوم القيامة، وسمي بذلك قال بعضهم:لما جاء في حديث
الصور:إن الأرض إذا زلزلت وانشقت من قطر إلى قطر، وماجت وارتجت، فنظر الناس إلى
ذلك ذهبوا هاربين ينادي بعضهم بعضا.
وقال آخرون منهم الضحاك:بل ذلك
إذا جيء بجهنم، ذهب الناس هِرَابا ، فتتلقاهم الملائكة فتردهم إلى مقام المحشر،
وهو قوله تعالى: وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا [
الحاقة:17 ] ، وقوله يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ
اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ [
الرحمن:33 ] .
وقد روي عن ابن عباس، والحسن،
والضحاك:أنهم قرؤوا: « يوم التنادّ » بتشديد
الدال من ند البعير:إذا شرد وذهب.
وقيل:لأن الميزان عنده ملك،
وإذا وزن عمل العبد فرجح نادى بأعلى صوته:ألا قد سعد فلان بن فلان سعادة لا يشقى
بعدها أبدا. وإن خف عمله نادى:ألا قد شقي فلان بن فلان.
وقال قتادة:ينادي كل قوم
بأعمالهم:ينادي أهل الجنة أهل الجنة، وأهل النار أهل النار.
وقيل:سمي بذلك لمناداة أهل
الجنة أهل النار: أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ
وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ [
الأعراف:44 ] . ومناداة أهل النار أهل الجنة: أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا
مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا
عَلَى الْكَافِرِينَ [ الأعراف:50 ] ، ولمناداة
أصحاب الأعراف أهل الجنة وأهل النار، كما هو مذكور في سورة الأعراف.
واختار البغوي وغيره:أنه سمي
بذلك لمجموع ذلك. وهو قول حسن جيد، والله أعلم .
وقوله: (
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ) أي:ذاهبين هاربين، كَلا لا
وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [
القيامة:11، 12 ] ، ولهذا قال: ( مَا
لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ) أي:ما
لكم مانع يمنعكم من بأس الله وعذابه، (
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) أي:من
أضله [ الله ] فلا هادي له غيره .
وَلَقَدْ
جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا
جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ
رَسُولا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ( 34 )
الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ
مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ
عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ( 35 )
وقوله: (
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ )
يعني:أهل مصر، قد بعث الله فيهم رسولا من قبل موسى، وهو يوسف، عليه السلام، كان
عزيز أهل مصر، وكان رسولا يدعو إلى الله أمته القبط، فما أطاعوه تلك الساعة إلا
لمجرد الوزارة والجاه الدنيوي؛ ولهذا قال: ( فَمَا
زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ
يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولا )
أي:يئستم فقلتم طامعين: ( لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ
بَعْدِهِ رَسُولا ) وذلك لكفرهم وتكذيبهم (
كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ )
أي:كحالكم هذا.
ثم قال:
( الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ
سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ) أي:الذين يدفعون الحق
بالباطل، ويجادلون الحجج بغير دليل وحجة معهم من الله، فإن الله يمقت على ذلك أشد
المقت؛ ولهذا قال تعالى: ( كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ
اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا )
أي:والمؤمنون أيضا يُبغضُون من تكون هذه صفته، فإن من كانت هذه صفته، يطبع الله
على قلبه، فلا يعرف بعد ذلك معروفًا، ولا ينكر منكرًا؛ ولهذا قال: (
كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ ) أي:على
اتباع الحق ( جَبَّارٍ ) .
وروى ابن
أبي حاتم عن عكرمة - وحكي عن الشعبي- أنهما قالا:لا يكون الإنسان جبارًا حتى يقتل
نفسين.
وقال أبو
عمران الجوني وقتادة:آية الجبابرة القتل بغير حق.
وَقَالَ
فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ ( 36 )
أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ
كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ
وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ ( 37 )
يقول
تعالى مخبرا عن فرعون، وعتوه، وتمرده، وافترائه في تكذيبه موسى، عليه السلام، أنه
أمر وزيره هامان أن يبني له صرحا، وهو:القصر العالي المنيف الشاهق. وكان اتخاذه من
الآجرّ المضروب من الطين المشوي، كما قال: فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى
الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا [
القصص:38 ] ، ولهذا قال إبراهيم النخعي:كانوا يكرهون البناء بالآجر،
وأن يجعلوه في قبورهم. رواه ابن أبي حاتم.
وقوله: (
لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ ) قال
سعيد بن جبير، وأبو صالح:أبواب السماوات. وقيل:طرق السماوات (
فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ كَاذِبًا ) ، وهذا
من كفره وتمرده، أنه كذب موسى في أن الله، عز وجل، أرسله إليه، قال الله تعالى: ( وَكَذَلِكَ
زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ )
أي:بصنيعه هذا الذي أراد أن يوهم به الرعية أنه يعمل شيئا يتوصل به إلى تكذيب
موسى، عليه السلام؛ ولهذا قال تعالى: ( وَمَا
كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ ) قال
ابن عباس [ رضي الله عنهما ] ،
ومجاهد:يعني إلا في خسار .
وَقَالَ
الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ( 38 ) يَا
قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ
دَارُ الْقَرَارِ ( 39 ) مَنْ
عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ
أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ
فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ( 40 )
يقول المؤمن لقومه ممن تمرد
وطغى وآثر الحياة الدنيا، ونسي الجبار الأعلى، فقال لهم: ( يَا
قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ) لا كما
كذب فرعون في قوله: وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ .
ثم زهدهم في الدنيا التي [ قد ] آثروها
على الأخرى، وصدتهم عن التصديق برسول الله موسى [ صلى
الله عليه وسلم ] ، فقال: ( يَا
قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ )
أي:قليلة زائلة فانية عن قريب تذهب [
وتزول ] وتضمحل، ( وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ
دَارُ الْقَرَارِ ) أي:الدار التي لا زوال لها،
ولا انتقال منها ولا ظعن عنها إلى غيرها، بل إما نعيم وإما جحيم، ولهذا قال ( مَنْ
عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا )
أي:واحدة مثلها ( وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ
ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ
يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) أي:لا
يتقدر بجزاء بل يثيبه الله، ثوابا كثيرا لا انقضاء له ولا نفاد.
وَيَا
قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ( 41 )
تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ
وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ( 42 ) لا
جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا
فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ
أَصْحَابُ النَّارِ ( 43 )
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ( 44 )
فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ
الْعَذَابِ ( 45 )
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ
أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ( 46 )
يقول لهم
المؤمن:ما بالي أدعوكم إلى النجاة، وهي عبادة الله وحده لا شريك له وتصديق رسوله
الذي بعثه ( وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لأكْفُرَ
بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ) أي:جهل
بلا دليل ( وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ) أي:هو
في عزته وكبريائه يغفر ذنب من تاب إليه، ( لا
جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ )
يقول:حقا.
قال
السدي وابن جرير:معنى قوله: ( لا جَرَمَ ) حقا.
وقال
الضحاك: ( لا جَرَمَ ) لا
كذب.
وقال علي
بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( لا جَرَمَ ) يقول:بلى،
إن الذي تدعونني إليه من الأصنام والأنداد (
لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ )
قال
مجاهد:الوثن ليس بشيء.
وقال
قتادة:يعني الوثن لا ينفع ولا يضر.
وقال
السدي:لا يجيب داعيه، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وهذا
كقوله تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا
يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ *
وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ
كَافِرِينَ [ الأحقاف:5، 6 ] ، إِنْ
تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ [
فاطر:14 ] .
وقوله: (
وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ ) أي:في
الدار الآخرة، فيجازي كلا بعمله؛ ولهذا قال: (
وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ )
أي:خالدين فيها بإسرافهم، وهو شركهم بالله.
(
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ) أي:سوف
تعلمون صدق ما أمرتكم به ونهيتكم عنه، ونصحتكم ووضحت لكم، وتتذكرونه، وتندمون حيث
لا ينفعكم الندم، ( وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى
اللَّهِ ) أي:وأتوكل على الله وأستعينه، وأقاطعكم وأباعدكم، ( إِنَّ
اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ) أي:هو بصير بهم، فيهدي من
يستحق الهداية، ويضل من يستحق الإضلال، وله الحجة البالغة، والحكمة التامة، والقدر
النافذ.
وقوله [
تعالى ] : ( فَوَقَاهُ اللَّهُ
سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا ) أي:في الدنيا والآخرة، أما في
الدنيا فنجاه الله مع موسى، عليه السلام، وأما في الآخرة فبالجنة (
وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ )
وهو:الغرق في اليم، ثم النقلة منه إلى الجحيم. فإن أرواحهم تعرض على النار صباحا
ومساءً إلى قيام الساعة، فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في النار؛
ولهذا قال: ( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ
أَشَدَّ الْعَذَابِ ) أي:أشده ألما وأعظمه نكالا .
وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور، وهي قوله: (
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ) .
ولكن
هاهنا سؤال، وهو أنه لا شك أن هذه الآية مكية، وقد استدلوا بها على عذاب القبر في
البرزخ، وقد قال الإمام أحمد:
حدثنا
هاشم - هو ابن القاسم أبو النضر- حدثنا إسحاق بن سعيد - هو ابن عمرو بن سعيد بن
العاص- حدثنا سعيد - يعني أباه- عن عائشة؛ أن يهودية كانت تخدمها فلا تصنع عائشة
إليها شيئا من المعروف إلا قالت لها اليهودية:وقاك الله عذاب القبر. قالت:فدخل
رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ فقلت:يا رسول الله، هل للقبر عذاب قبل يوم
القيامة؟ قال: « لا وعم ذلك؟ »
قالت:هذه اليهودية، لا نصنع إليها شيئا من المعروف إلا قالت:وقاك الله عذاب القبر.
قال: « كذبت يهود . وهم على الله أكذب، لا عذاب دون يوم القيامة » . ثم
مكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث، فخرج ذات يوم نصف النهار مشتملا بثوبه، محمرة
عيناه، وهو ينادي بأعلى صوته: « القبر كقطع الليل المظلم أيها
الناس، لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا وضحكتم قليلا. أيها الناس، استعيذوا بالله
من عذاب القبر، فإن عذاب القبر حق » .
وهذا
إسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم، ولم يخرجاه.
وروى
أحمد:حدثنا يزيد، حدثنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة - قال:سألتها امرأة
يهودية فأعطتها، فقالت لها:أعاذك الله من عذاب القبر. فأنكرت عائشة ذلك، فلما رأت
رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت له، فقال: « لا » . قالت
عائشة:ثم قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: « وإنه
أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم » .
وهذا
أيضا على شرطهما .
فيقال:فما
الجمع بين هذا وبين كون الآية مكية، وفيها الدليل على عذاب البرزخ؟ والجواب:أن
الآية دلت على عرض الأرواح إلى النار غدوا وعشيا في البرزخ، وليس فيها دلالة على
اتصال تألمها بأجسادها في القبور، إذ قد يكون ذلك مختصا بالروح، فأما حصول ذلك
للجسد وتألمه بسببه، فلم يدل عليه إلا السنة في الأحاديث المرضية الآتي ذكرها.
وقد يقال
إن هذه الآية إنما دلت على عذاب الكفار في البرزخ، ولا يلزم من ذلك أن يعذب المؤمن
في قبره بذنب، ومما يدل على هذا ما رواه الإمام أحمد:
حدثنا
عثمان بن عمر، حدثنا يونس، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة من اليهود، وهي تقول:أشعرت أنكم
تفتنون في قبوركم؟ فارتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: « إنما
يفتن يهود » قالت عائشة:فلبثنا ليالي، ثم قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: « أشعرت أنه أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور؟ » وقالت
عائشة:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يستعيذ من عذاب القبر.
وهكذا
رواه مسلم، عن هارون بن سعيد وحرملة، كلاهما عن ابن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي،
عن الزهري، به .
وقد
يقال:إن هذه الآية دلت على عذاب الأرواح في البرزخ، ولا يلزم من ذلك أن يتصل
بالأجساد في قبورها، فلما أوحي إليه في ذلك بخصوصيّته استعاذ منه، والله، سبحانه
وتعالى، أعلم.
وقد روى
البخاري من حديث شعبة، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن أبيه، عن مسروق، عن عائشة ، رضي
الله عنها، أن يهودية دخلت عليها فقالت:أعاذك الله من عذاب القبر . فسألت عائشة
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر؟ فقال: « نعم
عذاب القبر حق » . قالت عائشة:فما رأيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم بعدُ صلى صلاة إلا تعوّذ من عذاب القبر .
فهذا يدل
على أنه بادر إلى تصديق اليهودية في هذا الخبر، وقرر عليه. وفي الأخبار المتقدمة:أنه
أنكر ذلك حتى جاءه الوحي، فلعلهما قضيتان، والله أعلم، وأحاديث عذاب القبر كثيرة
جدا.
وقال
قتادة في قوله: ( غُدُوًّا وَعَشِيًّا ) صباحا
ومساء، ما بقيت الدنيا، يقال لهم:يا آل فرعون، هذه منازلكم، توبيخا ونقمة وصَغَارا
لهم.
وقال ابن
زيد:هم فيها اليوم يُغدَى بهم ويراح إلى أن تقوم الساعة.
وقال ابن
أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد، حدثنا المحاربي، حدثنا ليث، عن عبد الرحمن بن ثروان، عن
هذيل، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه، قال:إن أرواح الشهداء في أجواف طير
خضر تسرح بهم في الجنة حيث شاءوا، وإن أرواح ولدان المؤمنين في أجواف عصافير تسرح
في الجنة حيث شاءت، فتأوي إلى قناديل معلقة في العرش، وإن أرواح آل فرعون في أجواف
طير سود تغدو على جهنم وتروح عليها، فذلك عرضها.
وقد رواه
الثوري عن أبي قيس عن الهُزَيل ابن شرحبيل، من كلامه في أرواح آل فرعون. وكذلك قال
السدي .
وفي حديث
الإسراء من رواية أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال فيه: « ثم
انطلق بي إلى خلق كثير من خلق الله، رجالٌ كلُّ رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم،
مصفدون على سابلة آل فرعون، وآل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشيا. (
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ) وآل
فرعون كالإبل المسومة يخبطون الحجارة والشجر ولا يعقلون » .
وقال ابن
أبي حاتم:حدثنا علي بن الحسين، حدثنا زيد بن أخْرَم، حدثنا عامر بن مُدْرِك
الحارثي، حدثنا عتبة - يعني ابن يقظان- عن قيس بن مسلم، عن طارق، عن شهاب، عن ابن
مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ما
أحسن محسن من مسلم أو كافر إلا أثابه الله » .
قال:قلنا:يا رسول الله ما إثابة الكافر؟ فقال: « إن كان
قد وصل رحما أو تصدق بصدقة أو عمل حسنة، أثابه الله المال والولد والصحة وأشباه
ذلك » . قلنا:فما إثابته في الآخرة؟ قال: « عذابا
دون العذاب » وقرأ: ( أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ
أَشَدَّ الْعَذَابِ ) ورواه البزار في مسنده، عن
زيد بن أخْرَم، ثم قال:لا نعلم له إسنادًا غير هذا .
وقال ابن
جرير:حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير، حدثنا حماد بن محمد الفزاري البلخي قال:سمعت
الأوزاعي وسأله رجل فقال:رحمك الله. رأينا طيورًا تخرج من البحر، تأخذ ناحية الغرب
بيضا، فوجا فوجا، لا يعلم عددها إلا الله، عز وجل، فإذا كان العشي رجع مثلها سودا.
قال:وفطنتم إلى ذلك؟ قال:نعم. قال:إن تلك الطير في حواصلها أرواح آل فرعون، تعرض
على النار غدوا وعشيا، فترجع إلى وكورها وقد احترقت ريَاشُها وصارت سودا، فينبت
عليها من الليل ريش أبيض، ويتناثر السود، ثم تغدو على النار غدوا وعشيا، ثم ترجع
إلى وكورها. فذلك دأبهم في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة قال الله تعالى: (
أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ )
قال:وكانوا يقولون إنهم ستمائة ألف مقاتل .
وقال
الإمام أحمد:حدثنا إسحاق، أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر قال:قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: « إن أحدكم إذا مات عرض عليه
مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار
فمن أهل النار. فيقال:هذا مقعدك حتى يبعثك الله، عز وجل، إلى يوم القيامة » .
أخرجاه
في الصحيحين من حديث مالك، به .
وَإِذْ
يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا
إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ
النَّارِ ( 47 )
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ
بَيْنَ الْعِبَادِ ( 48 )
وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ
عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ ( 49 )
يخبر تعالى عن تحاج أهل النار
في النار، وتخاصمهم، وفرعون وقومه من جملتهم (
فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ ) وهم:الأتباع (
لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا ) وهم:القادة والسادة والكبراء:
( إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا )
أي:أطعناكم فيما دعوتمونا إليه في الدنيا من الكفر والضلال، (
فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ )
أي:قسطا تتحملونه عنا.
( قَالَ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا ) أي:لا
نتحمل عنكم شيئا، كفى بنا ما عندنا، وما حملنا من العذاب والنكال. ( إِنَّ
اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ )
أي:يقسم بيننا العذاب بقدر ما يستحقه كل منا، كما قال تعالى: قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ
وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ [ الأعراف:38 ] .
(
وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ
عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ ) لما علموا أن الله، سبحانه،
لا يستجيب منهم ولا يستمع لدعائهم، بل قد قال: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ
[ المؤمنون:108 ] سألوا
الخزنة - وهم كالبوابين لأهل النار- أن يدعوا لهم الله أن يخفف عن الكافرين ولو
يوما واحدا من العذاب.
قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ
إِلا فِي ضَلالٍ ( 50 )
فقالت لهم الخزنة رادين عليهم: ( أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ )
أي:أوما قامت عليكم الحجج في الدنيا على ألسنة الرسل؟ ( قَالُوا بَلَى قَالُوا
فَادْعُوا )
أي:أنتم لأنفسكم، فنحن لا ندعو لكم ولا نسمع منكم ولا نود خلاصكم، ونحن منكم برآء،
ثم نخبركم أنه سواء دعوتم أو لم تدعوا لا يستجاب لكم ولا يخفف عنكم؛ ولهذا قالوا :
( وَمَا
دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ ) أي:إلا من ذهاب، لا يتقبل ولا يستجاب.
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ( 51 ) يَوْمَ لا يَنْفَعُ
الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ( 52 ) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى
الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ( 53 ) هُدًى وَذِكْرَى لأُولِي
الأَلْبَابِ ( 54 ) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ
اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ
وَالإِبْكَارِ ( 55 ) إِنَّ الَّذِينَ
يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي
صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ
هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ( 56 )
قد أورد أبو جعفر بن جرير، رحمه الله تعالى، عند قوله تعالى:
(
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) سؤالا فقال:قد عُلِم أن بعض
الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، قتله قومه بالكلية كيحيى وزكريا وشعياء، ومنهم من
خرج من بين أظهرهم إما مهاجرا كإبراهيم ، وإما إلى السماء كعيسى ، فأين النصرة في
الدنيا؟ ثم أجاب عن ذلك بجوابين .
أحدهما:أن يكون الخبر خرج عاما، والمراد به البعض، قال:وهذا
سائغ في اللغة.
الثاني:أن يكون المراد بالنصر الانتصار لهم ممن آذاهم، وسواء
كان ذلك بحضرتهم أو في غيبتهم أو بعد موتهم، كما فُعِلَ بقتلة يحيى وزكريا وشعياء،
سلط عليهم من أعدائهم من أهانهم وسفك دماءهم، وقد ذكر أن النمروذ أخذه الله أخذ
عزيز مقتدر، وأما الذين راموا صلب المسيح، عليه السلام، من اليهود، فسلط الله
عليهم الروم فأهانوهم وأذلوهم، وأظهرهم الله عليهم. ثم قبل يوم القيامة سينـزل
عيسى ابن مريم إماما عادلا وحكما مقسطا، فيقتل المسيح الدجال وجنوده من اليهود،
ويقتل الخنـزير، ويكسر الصليب، ويضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام. وهذه نصرة
عظيمة، وهذه سنة الله في خلقه في قديم الدهر وحديثه:أنه ينصر عباده المؤمنين في الدنيا،
ويقر أعينهم ممن آذاهم، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « يقول الله تعالى:من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب » وفي الحديث الآخر: « إني لأثأر لأوليائي كما يثأر
الليث الحرب » ؛ ولهذا
أهلك تعالى قوم نوح وعاد وثمود، وأصحاب الرس، وقوم لوط، وأهل مدين، وأشباههم
وأضرابهم ممن كذب الرسل وخالف الحق. وأنجى الله من بينهم المؤمنين، فلم يهلك منهم
أحدًا وعذب الكافرين، فلم يفلت منهم أحدا .
قال السدي:لم يبعث الله رسولا قط إلى قوم فيقتلونه، أو قوما
من المؤمنين يدعون إلى الحق فيقتلون، فيذهب ذلك القرن حتى يبعث الله لهم من
ينصرهم، فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم في الدنيا. قال:فكانت الأنبياء والمؤمنون
يقتلون في الدنيا، وهم منصورون فيها.
وهكذا نصر الله [ سبحانه ] نبيه
محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه على من خالفه وناوأه، وكذبه وعاداه، فجعل كلمته
هي العليا، ودينه هو الظاهر على سائر الأديان. وأمره بالهجرة من بين ظهراني قومه
إلى المدينة النبوية، وجعل له فيها أنصارا وأعوانا، ثم منحه أكتاف المشركين يوم
بدر، فنصره عليهم وخذلهم له، وقتل صناديدهم، وأسر سراتهم، فاستاقهم مقرنين في الأصفاد،
ثم من عليهم بأخذه الفداء منهم، ثم بعد مدة قريبة فتح [ عليه ] مكة، فقرت عينه ببلده، وهو
البلد المحرم الحرام المشرف المعظم، فأنقذه الله به مما كان فيه من الشرك والكفر،
وفتح له اليمن، ودانت له جزيرة العرب بكمالها، ودخل الناس في دين الله أفواجا. ثم قبضه
الله، تعالى، إليه لما له عنده من الكرامة العظيمة، فأقام الله أصحابه خلفاء بعده،
فبلغوا عنه دين الله، ودعوا عباد الله إلى الله. وفتحوا البلاد والرّساتيق
والأقاليم والمدائن والقرى والقلوب، حتى انتشرت الدعوة المحمدية في مشارق الأرض
ومغاربها. ثم لا يزال هذا الدين قائما منصورا ظاهرا إلى قيام الساعة؛ ولهذا قال
تعالى: (
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ ) أي:يوم
القيامة تكون النصرة أعظم وأكبر وأجل.
قال مجاهد:الأشهاد:الملائكة .
وقوله: ( يَوْمَ
لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ) بدل من قوله: ( وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ ) .
وقرأ آخرون: « يَوْمُ
» بالرفع،
كأنه فسره به (
وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِين ) ، وهم المشركون ( مَعْذِرَتُهُم ) أي:لا يقبل منهم عذر ولا
فدية، (
وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ )
أي:الإبعاد والطرد من الرحمة، (
وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) وهي
النار. قاله السدي، بئس المنـزل والمقيل.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) أي:سوء العاقبة.
وقوله: ( وَلَقَدْ
آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى ) وهو ما
بعثه الله به من الهدى والنور، (
وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ) أي:جعلنا لهم العاقبة، وأورثناهم بلاد فرعون وأمواله
وحواصله وأرضه، بما صبروا على طاعة الله واتباع رسوله موسى، عليه السلام، وفي
الكتاب الذي أورثوه - وهو التوراة- ( هُدًى وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ ) وهي:العقول الصحيحة السليمة .
وقوله: (
فَاصْبِرْ ) أي:يا
محمد، ( إِنَّ
وَعْدَ اللَّهِ )
أي:وعدناك أنا سنعلي كلمتك، ونجعل العاقبة لك ولمن اتبعك، والله لا يخلف الميعاد.
وهذا الذي أخبرناك به حق لا مرية فيه ولا شك.
وقوله: (
وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ) هذا
تهييج للأمة على الاستغفار، (
وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ ) أي:في أواخر النهار وأوائل الليل، ( وَالإبْكَارِ ) وهي أوائل النهار وأواخر
الليل .
وقوله: ( إِنَّ
الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ) أي:يدفعون الحق بالباطل،
ويردون الحجج الصحيحة بالشبه الفاسدة بلا برهان ولا حجة من الله، ( إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا
كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ ) أي:ما
في صدورهم إلا كبر على اتباع الحق، واحتقار لمن جاءهم به، وليس ما يرومونه من
إخمال الحق وإعلاء الباطل بحاصل لهم، بل الحق هو المرفوع، وقولهم وقصدهم هو
الموضوع، (
فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ) أي:من
حال مثل هؤلاء، (
إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) أو من شر مثل هؤلاء المجادلين في آيات الله بغير سلطان. هذا
تفسير ابن جرير.
وقال كعب وأبو العالية:نـزلت هذه الآية في اليهود: ( إِنَّ الَّذِينَ
يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي
صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ ) قال أبو العالية:وذلك أنهم ادعوا أن الدجال منهم، وأنهم
يملكون به الأرض. فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم آمرا له أن يستعيذ من فتنة
الدجال، ولهذا قال: (
فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) .
وهذا قول غريب، وفيه تعسف بعيد، وإن كان قد رواه ابن أبي حاتم
في كتابه، والله أعلم .
لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ
النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ( 57 ) وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى
وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ
قَلِيلا مَا تَتَذَكَّرُونَ ( 58 )
يقول تعالى
منبها على أنه يعيد الخلائق يوم القيامة، وأن ذلك سهل عليه، يسير لديه - بأنه خلق
السماوات والأرض، وخلقهما أكبر من خلق الناس بدأة وإعادة، فمن قدر على ذلك فهو
قادر على ما دونه بطريق الأولى والأحرى، كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ
اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ
بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ [
الأحقاف:33 ] . وقال
هاهنا: (
لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ؛ فلهذا لا يتدبرون هذه الحجة ولا يتأملونها، كما كان كثير
من العرب يعترفون بأن الله خلق السماوات والأرض، وينكرون المعاد، استبعادا وكفرا
وعنادا، وقد اعترفوا بما هو أولى مما أنكروا .
ثم قال:
( وَمَا
يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
وَلا الْمُسِيءُ ) أي كما
لا يستوي الأعمى الذي لا يبصر شيئا، والبصير الذي يرى ما انتهى إليه بصره، بل
بينهما فرق عظيم، كذلك لا يستوي المؤمنون الأبرار والكفرة الفجار، ( قَلِيلا مَا تَتَذَكَّرُونَ ) أي:ما أقل ما يتذكر كثير من
الناس.
إِنَّ
السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ
( 59 )
ثم قال:
( إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ ) أي
لكائنة وواقعة ( لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ) أي:لا
يصدقون بها، بل يكذبون بوجودها.
قال ابن
أبي حاتم:حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، حدثنا أشهب، حدثنا مالك، عن شيخ
قديم من أهل اليمن - قدم من ثم- قال:سمعت أن الساعة إذا دنت اشتد البلاء على
الناس، واشتد حر الشمس.
وَقَالَ
رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ
عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ( 60 )
هذا من
فضله، تبارك وتعالى، وكرمه أنه ندب عباده إلى دعائه، وتكفل لهم بالإجابة، كما كان
سفيان الثوري يقول:يا مَنْ أحبُّ عباده إليه مَنْ سأله فأكثر سؤاله، ويا من أبغض
عباده إليه من لم يسأله، وليس كذلك غيرك يا رب.
رواه ابن
أبي حاتم.
وفي هذا
المعنى يقول الشاعر:
اللــهُ يَغْضــبُ إن تـركْتَ سُـؤَالهُ وَبُنــيُّ آدمَ
حــين يُسـألُ يَغْضَـبُ
وقال
قتادة::قال كعب الأحبار:أعطيت هذه الأمة ثلاثا لم تُعطهُن أمة قبلهم إلا نبي:كان
إذا أرسل الله نبيا قيل له: « أنت شاهد على أمتك » ،
وجَعلتُكم شهداء على الناس. وكان يقال له: « ليس
عليك في الدين من حرج » . وقال لهذه الأمة: وَمَا
جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [
الحج:78 ] . وكان يقال له: « ادعني
أستجب لك » وقال لهذه الأمة: ( ادْعُونِي
أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) رواه ابن أبي حاتم.
وقال
الإمام الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده:حدثنا أبو إبراهيم
الترجماني، حدثنا صالح المري قال:سمعت الحسن يحدث عن أنس بن مالك، رضي الله عنه،
عن النبي صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه عز وجل- قال: « أربع
خصال، واحدة منهن لي، وواحدة لك، وواحدة فيما بيني وبينك، وواحدة فيما بينك وبين
عبادي :فأما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئا، وأما التي لك عليَّ فما عملت من خير
جزيتك به، وأما التي بيني وبينك:فمنك الدعاء وعلي الإجابة، وأما التي بينك وبين
عبادي فارض لهم ما ترضى لنفسك » .
وقال
الإمام أحمد:حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن ذر، عن يُسيع الكندي، عن النعمان
بن بشير، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن
الدعاء هو العبادة » ثم قرأ: (
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي
سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) .
وهكذا
رواه أصحاب السنن:الترمذي، والنسائي ،وابن ماجه، وابن أبي حاتم، وابن جرير، كلهم
من حديث الأعمش، به . وقال الترمذي:حسن صحيح.
ورواه
أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن جرير أيضا، من حديث شعبة، عن منصور، عن ذر، به
. وأخرجه الترمذي أيضا من حديث الثوري، عن منصور والأعمش، كلاهما عن ذر، به .
ورواه
ابن حبان والحاكم في صحيحيهما، وقال الحاكم:صحيح الإسناد .
وقال الإمام
أحمد:حدثنا وكيع، حدثني أبو مليح المدني - شيخ من أهل المدينة- سمعه عن أبي صالح،
وقال مرة:سمعت أبا صالح يحدث عن أبي هريرة [ رضي
الله عنه ] قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من لم
يدع الله، عز وجل، غضب عليه » .
تفرد به
أحمد ، وهذا إسناد لا بأس به.
وقال
الإمام أحمد أيضا:حدثنا مروان الفزاري، حدثنا صُبيح أبو المليح:سمعت أبا صالح يحدث
عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من لا
يسأله يغضب عليه » .
قال ابن
معين:أبو المليح هذا اسمه:صُبَيْح. كذا قيده بالضم عبد الغني بن سعيد. وأما أبو
صالح هذا فهو الخُوزي ، سكن شِعَب الخوز . قاله البزار في مسنده. وكذا وقع في
روايته أبو المليح الفارسي، عن أبي صالح الخُوزي، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: « من لا يسأل الله يغضب عليه » .
وقال
الحافظ أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن الرامهُرْمزي:حدثنا همام، حدثنا إبراهيم بن
الحسن، حدثنا نائل بن نجيح، حدثني عائذ بن حبيب، عن محمد بن سعيد قال:لما مات محمد
بن مسلمة الأنصاري، وجدنا في ذؤابة سيفه كتابا:بسم الله الرحمن الرحيم، سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن لربكم في بقية دهركم نفحات
، فتعرضوا له، لعل دعوة أن توافق رحمة فيسعد بها صاحبها سعادة لا يخسر بعدها أبدا
» .
وقوله: ( إِنَّ
الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي ) أي:عن
دعائي وتوحيدي، ( سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ
دَاخِرِينَ ) أي:صاغرين حقيرين، كما قال الإمام أحمد:
حدثنا
يحيى بن سعيد، عن ابن عجلان، حدثني عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: « يُحْشَر المتكبرون يوم
القيامة أمثال الذّرّ، في صور الناس، يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا سجنا في
جهنم - يقال له:بولس- تعلوهم نار الأنيار، يسقون من طينة الخبال:عصارة أهل النار » .
وقال ابن
أبي حاتم:حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أبو بكر بن محمد بن يزيد بن خُنَيْس:سمعت أبي
يحدث عن وُهَيب بن الورد:حدثني رجل قال:كنت أسير ذات يوم في أرض الروم، فسمعت
هاتفا من فوق رأس جبل وهو يقول:يا رب، عجبت لمن عرفك كيف يرجو أحدا غيرك! يا رب، عجبت
لمن عرفك كيف يطلب حوائجه إلى أحد غيرك - قال:ثم ذهبت، ثم جاءت الطامة الكبرى -
قال:ثم عاد الثانية فقال:يا رب، عجبت لمن عرفك كيف يتعرض لشيء من سخطك يُرضي غيرك.
قال وهيب:وهذه الطامة الكبرى. قال:فناديته:أجني أنت أم إنسي؟ قال:بل إنسي، أشغل
نفسك بما يَعْنيك عما لا يعنيك .
اللَّهُ
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ
اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ
( 61 )
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى
تُؤْفَكُونَ ( 62 )
كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ( 63 )
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً
وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ
اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( 64 ) هُوَ
الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 65 )
يقول
تعالى ممتنا على خلقه، بما جعل لهم من الليل الذي يسكنون فيه ويستريحون من حركات
ترددهم في المعايش بالنهار، وجعل النهار مبصرا، أي:مضيئا، ليتصرفوا فيه بالأسفار،
وقطع الأقطار، والتمكن من الصناعات، ( إِنَّ
اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ) أي:لا
يقومون بشكر نعم الله عليهم.
ثم قال:
( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا
إِلَهَ إِلا هُوَ ) أي:الذي فعل هذه الأشياء هو
الله الواحد الأحد، خالق الأشياء، الذي لا إله غيره، ولا رب سواه، (
فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) أي:فكيف تعبدون غيره من
الأصنام، التي لا تخلق شيئا، بل هي مخلوقة منحوتة .
وقوله: (
كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ) أي:كما
ضل هؤلاء بعبادة غير الله، كذلك أفك الذين من قبلهم، فعبدوا غيره بلا دليل ولا
برهان بل بمجرد الجهل والهوى، وجحدوا حجج الله وآياته .
وقوله: ( اللَّهُ
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَارًا )
أي:جعلها مستقرا لكم، بساطا مهادا تعيشون عليها، وتتصرفون فيها، وتمشون في
مناكبها، وأرساها بالجبال لئلا تميد بكم، (
وَالسَّمَاءَ بِنَاءً ) أي:سقفا للعالم محفوظا، (
وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ )
أي:فخلقكم في أحسن الأشكال، ومنحكم أكمل الصور في أحسن تقويم، (
وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ) أي:من
المآكل والمشارب في الدنيا. فذكر أنه خلق الدار، والسكان، والأرزاق - فهو الخالق
الرازق، كما قال في سورة البقرة: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ
الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ
أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [
البقرة:21، 22 ] وقال هاهنا بعد خلق هذه
الأشياء: ( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ
الْعَالَمِينَ ) أي:فتعالى وتقدس وتنـزه رب
العالمين كلهم .
ثم قال:
( هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ ) أي:هو
الحي أزلا وأبدًا، لم يزل ولا يزال، وهو الأول والآخر، والظاهر والباطن، ( لا
إِلَهَ إِلا هُوَ ) أي:لا نظير له ولا عديل له، (
فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ )
أي:موحدين له مقرين بأنه لا إله إلا هو (
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) .
قال ابن
جرير:كان جماعة من أهل العلم يأمرون من قال: « لا إله
إلا الله » أن يتبعها بالحمد لله رب العالمين، عملا بهذه الآية.
ثم روى
عن محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، عن أبيه، عن الحسين بن واقد، عن الأعمش، عن
مجاهد، عن ابن عباس قال:من قال: « لا إله إلا الله » فليقل
على أثرها: « الحمد لله رب العالمين » فذلك
قوله تعالى: ( فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ ) .
وقال أبو
أسامة وغيره، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن سعيد بن جبير قال:إذا قرأت: فَادْعُوا
اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [
غافر:14 ] ، فقل: « لا إله إلا الله » وقل على
أثرها: « الحمد لله رب العالمين » ثم قرأ
هذه الآية: ( فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ ) .
قُلْ
إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا
جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ
الْعَالَمِينَ ( 66 )
يقول تعالى:قل يا محمد لهؤلاء
المشركين:إن الله ينهى أن يُعْبَد أحد سواه من الأصنام والأنداد والأوثان.
هُوَ
الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ
يُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا
وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلا مُسَمًّى
وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( 67 ) هُوَ
الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ ( 68 )
وقد بين
تعالى أنه لا يستحق العبادة أحد سواه، في قوله: ( هُوَ
الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ
يُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا ) أي:هو
الذي يقلبكم في هذه الأطوار كلها، وحده لا شريك له، وعن أمره وتدبيره وتقديره يكون
ذلك كله، ( وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ ) أي:من
قبل أن يوجد ويخرج إلى هذا العالم، بل تسقطه أمه سقطا، ومنهم من يتوفى صغيرا،
وشابا، وكهلا قبل الشيخوخة، كقوله: لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ
مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [
الحج:5 ] وقال هاهنا: (
وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) قال ابن جريج، تتذكرون البعث.
ثم قال:
( هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ) أي:هو
المتفرد بذلك، لا يقدر على ذلك أحد سواه، (
فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) أي:لا
يخالف ولا يمانع، بل ما شاء كان [ لا
محالة ] .
أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ ( 69 )
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ
يَعْلَمُونَ ( 70 ) إِذِ
الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ ( 71 ) فِي
الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ( 72 )
ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ ( 73 ) مِنْ
دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ
شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ( 74 )
ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا
كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ( 75 )
ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى
الْمُتَكَبِّرِينَ ( 76 )
يقول
تعالى:ألا تعجب يا محمد من هؤلاء المكذبين بآيات الله، ويجادلون في الحق والباطل،
كيف تُصرّف عقولهم عن الهدى إلى الضلال، (
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا ) أي:من
الهدى والبيان، ( فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) هذا
تهديد شديد، ووعيد أكيد، من الرب، جل جلاله، لهؤلاء، كما قال تعالى: وَيْلٌ
يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [ المرسلات:15 ] .
وقوله: ( إِذِ
الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ )
أي:متصلة بالأغلال، بأيدي الزبانية يسحبونهم على وجوههم، تارة إلى الحميم وتارة
إلى الجحيم؛ ولهذا قال: ( يُسْحَبُونَ * فِي
الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ) ، كما
قال: هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ
بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [
الرحمن:43، 44 ] . وقال بعد ذكْره أكلهم
الزقوم وشربهم الحميم: ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ [
الصافات:68 ] وقال: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ *
فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ إلى أن
قال: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لآكِلُونَ مِنْ
شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ
مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ
الدِّينِ [ الواقعة:41 - 56 ] .
وقال: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي
الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ
الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ * إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ
تَمْتَرُونَ [ الدخان:43 - 50 ] ،
أي:يقال لهم ذلك على وجه التقريع والتوبيخ، والتحقير والتصغير، والتهكم والاستهزاء
بهم.
قال ابن
أبي حاتم:حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أحمد بن منيع، حدثنا منصور بن عمار، حدثنا بشير
بن طلحة الخزامي، عن خالد بن دُرَيْك، عن يعلى بن مُنْيَه - رفع الحديث إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم- قال: « ينشئ الله سحابة لأهل النار
سوداء مظلمة، ويقال:يا أهل النار، أي شيء تطلبون؟ فيذكرون بها سحاب الدنيا
فيقولون:نسأل بَرْد الشراب، فتمطرهم أغلالا تزيد في أغلالهم، وسلاسل تزيد في
سلاسلهم، وجمرا يُلْهِبُ النار عليهم » . هذا
حديث غريب .
وقوله: ( ثُمَّ
قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ ) أي:قيل
لهم:أين الأصنام التي كنتم تعبدونها من دون الله؟ هل ينصرونكم اليوم؟ ( قَالُوا
ضَلُّوا عَنَّا ) أي:ذهبوا فلم ينفعونا، ( بَلْ
لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا )
أي:جحدوا عبادتهم، كقوله تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا
وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [
الأنعام:23 ] ؛ ولهذا قال: (
كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ) .
وقوله: (
ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا
كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ) أي:تقول لهم الملائكة:هذا
الذي أنتم فيه جزاء على فرحكم في الدنيا بغير الحق، ومرحكم وأشركم وبطركم، (
ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى
الْمُتَكَبِّرِينَ ) أي:فبئس المْنـزلُ والمَقِيلُ
الذي فيه الهوان والعذاب الشديد، لمن استكبر عن آيات الله، واتباع دلائله وحُججه.
فَاصْبِرْ
إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ
نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ( 77 )
يقول تعالى آمرا رسوله، صلوات
الله وسلامه عليه، بالصبر على تكذيب من كذبه من قومه؛ فإن الله سينجز لك ما وعدك
من النصر والظفر على قومك، وجعل العاقبة لك ولمن اتبعك في الدنيا والآخرة، (
فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ ) أي:في
الدنيا. وكذلك وقع، فإن الله أقر أعينهم من كبرائهم وعظمائهم، أبيدوا في يوم بدر.
ثم فتح الله عليه مكة وسائر جزيرة العرب في أيام حياته صلى الله عليه وسلم.
وقوله: ( أَوْ
نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ) أي:فنذيقهم
العذاب الشديد في الآخرة.
وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ
مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا
بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ
هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ ( 78 )
ثم قال
مسليا له: ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ
قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ) كما
قال في « سورة النساء » سواء،
أي:منهم من أوحينا إليك خبرهم وقصصهم مع قومهم كيف كذبوهم ثم كانت للرسل العاقبة
والنصرة، ( وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ) وهم
أكثر ممن ذكر بأضعاف أضعاف، كما تقدم التنبيه على ذلك في سورة النساء ، ولله الحمد
والمنة.
وقوله: ( وَمَا
كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ ) أي:ولم
يكن لواحد من الرسل أن يأتي قومه بخارق للعادات، إلا أن يأذن الله له في ذلك، فيدل
ذلك على صدقه فيما جاءهم به، ( فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ
اللَّهِ ) وهو عذابه ونكاله المحيط بالمكذبين (
قُضِيَ بِالْحَقِّ ) فينجو المؤمنون، ويهلك
الكافرون؛ ولهذا قال: ( وَخَسِرَ هُنَالِكَ
الْمُبْطِلُونَ )
اللَّهُ
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ( 79 )
وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ
وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ( 80 ) وَيُرِيكُمْ
آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ ( 81 )
يقول
تعالى ممتنا على عباده، بما خلق لهم من الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم
فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ [
يس:72 ] ، فالإبل تركب وتؤكل وتحلب، ويحمل عليها الأثقال في الأسفار
والرحال إلى البلاد النائية، والأقطار الشاسعة. والبقر تؤكل، ويشرب لبنها، وتحرث
عليها الأرض. والغنم تؤكل، ويشرب لبنها، والجميع تجز أصوافها وأشعارها وأوبارها،
فيتخذ منها الأثاث والثياب والأمتعة كما فَصَّل وبَيَّنَ في أماكن تقدم ذكرها في « سورة
الأنعام » ، و « سورة النحل » ، وغير
ذلك؛ ولهذا قال هاهنا: ( لِتَرْكَبُوا مِنْهَا
وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا
حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ) .
وقوله: (
وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ ) أي:حججه وبراهينه في الآفاق
وفي أنفسكم، ( فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ ) أي:لا
تقدرون على إنكار شيء من آياته، إلا أن تعاندوا وتكابروا .
أَفَلَمْ
يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ
فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 82 )
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ
الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 83 )
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا
كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ( 84 )
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ
الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ( 85 )
يخبر تعالى عن الأمم المكذبة
بالرسل في قديم الدهر، وماذا حل بهم من العذاب الشديد، مع شدة قواهم، وما أَثّروه
في الأرض، وجمعوه من الأموال، فما أغنى عنهم ذلك شيئا، ولا رد عنهم ذرة من بأس
الله؛ وذلك لأنهم لما جاءتهم الرسل بالبينات، والحجج القاطعات، والبراهين
الدامغات، لم يلتفتوا إليهم، ولا أقبلوا عليهم، واستغنوا بما عندهم من العلم في
زعمهم عما جاءتهم به الرسل.
قال مجاهد:قالوا:نحن أعلم منهم
لن نبعث ولن نعذب.
وقال السدي:فرحوا بما عندهم من
العلم بجهالتهم، فأتاهم من بأس الله ما لا قِبَل لهم به.
(
وَحَاقَ بِهِمْ ) أي:أحاط بهم ( مَا
كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) أي:يكذبون ويستبعدون وقوعه.
(
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ) أي:عاينوا وقوع العذاب بهم، (
قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ )
أي:وحدوا الله وكفروا بالطاغوت، ولكن حيث لا تُقَال العثرات، ولا تنفع المعذرة.
وهذا كما قال فرعون حين أدركه الغرق: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي
آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [
يونس:90 ] ، قال الله [
تبارك و ] تعالى: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ
الْمُفْسِدِينَ [ يونس:91 ] أي:فلم
يقبل الله منه؛ لأنه قد استجاب لنبيه موسى دعاءه عليه حين قال: وَاشْدُدْ عَلَى
قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [
يونس:88 ] . و [ هكذا ] هاهنا
قال: ( فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا
بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ) أي:هذا
حكم الله في جميع مَنْ تاب عند معاينة العذاب:أنه لا يقبل؛ ولهذا جاء في الحديث: « إن
الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر » أي:فإذا
غرغر وبلغت الروح الحنجرة، وعاين الملك، فلا توبة حينئذ؛ ولهذا قال: ( وَخَسِرَ
هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ )
آخر تفسير « سورة
غافر ، ولله الحمد والمنة.»