فهرس تفسير بن كثير للسور

41 - تفسير بن كثير سورة فصلت

التالي السابق

 

تفسير سورة فصلت

 

وهي مكية.

بسم الله الرحمن الرحيم

حم ( 1 ) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( 2 ) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 3 ) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ( 4 ) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ( 5 )

يقول تعالى: ( حم * تَنـزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) يعني:القرآن منـزل من الرحمن الرحيم، كقوله تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [ النحل:102 ] ، وقوله: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [ الشعراء:192 - 194 ] .

وقوله: ( كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ) أي:بُينت معانيه وأحكمت أحكامه ، ( قُرْآنًا عَرَبِيًّا ) أي:في حال كونه لفظا عربيا، بينا واضحا، فمعانيه مفصلة، وألفاظه واضحة غير مشكلة، كقوله: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [ هود:1 ] أي:هو معجز من حيث لفظه ومعناه، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [ فصلت:42 ] .

وقوله: ( لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) أي:إنما يعرف هذا البيان والوضوح العلماءُ الراسخون، ( بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) أي:تارة يبشر المؤمنين، وتارة ينذر الكافرين، ( فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ) أي:أكثر قريش، فهم لا يفهمون منه شيئا مع بيانه ووضوحه.

( وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ ) أي:في غلف مغطاة ( مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ ) أي:صمم عما جئتنا به، ( وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ) فلا يصل إلينا شيء مما تقول، ( فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ) أي:اعمل أنت على طريقتك، ونحن على طريقتنا لا نتابعك.

قال الإمام العَلَم عبد بن حُمَيد في مسنده:حدثني ابن أبي شيبة، حدثنا علي بن مُسْهِر عن الأجلح، عن الذَّيَّال بن حَرْمَلة الأسدي عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنه، قال:اجتمعت قريش يوما فقالوا:انظروا أعْلَمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي قد فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمه ولننظر ماذا يرد عليه؟ فقالوا:ما نعلم أحدا غير عتبة ابن ربيعة. فقالوا:أنت يا أبا الوليد. فأتاه عتبة فقال:يا محمد، أنت خير أم عبد الله؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك، فقد عبدوا الآلهة التي عِبْتَ، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك، إنا والله ما رأينا سَخْلةً قط أشأم على قومك منك؛ فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا، وأن في قريش كاهنا! والله ما ننظر إلا مثل صيحة الحُبْلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف، حتى نتفانى! أيها الرجل، إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش [ شئت ] فلنـزوجك عشرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « فَرَغْتَ؟ » قال:نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( بسم الله الرحمن الرحيم * حم * تَنـزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) حتى بلغ: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ فقال عتبة:حسبك! حسبك! ما عندك غير هذا؟ قال: « لا » فرجع إلى قريش فقالوا:ما وراءك؟ قال:ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمونه به إلا كلمته. قالوا:فهل أجابك؟ [ قال:نعم، قالوا:فما قال؟ ] قال:لا والذي نصبها بَنيَّةً ما فَهِمْتُ شيئا مما قال، غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود. قالوا:ويلك! يكلمك الرجل بالعربية ما تدري ما قال؟! قال:لا والله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة.

وهكذا رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أبي بكر بن أبي شيبة بإسناده، مثله سواء .

وقد ساقه البغوي في تفسيره بسنده عن محمد بن فُضَيل، عن الأجلح - وهو ابن عبد الله الكندي [ الكوفي ] - وقد ضُعِّفَ بعض الشيء عن الذّيَّال بن حرملة، عن جابر، فذكر الحديث إلى قوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ فأمسك عتبة على فيه، وناشده بالرحم، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش واحتبس عنهم. فقال أبو جهل:يا معشر قريش، والله ما نرى عتبة إلا قد صَبَا إلى محمد، وأعجبه طعامه، وما ذاك إلا من حاجة [ قد ] أصابته، فانطلقوا بنا إليه. فانطلقوا إليه فقال أبو جهل:يا عتبة، ما حبسك عنا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك طعامه، فإن كانت لك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد. فغضب عتبة، وأقسم ألا يكلم محمدا أبدا، وقال:والله، لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكني أتيته وقصصت عليه [ القصة ] فأجابني بشيء والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر، وقرأ السورة إلى قوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ فأمسكت بفيه، وناشدته بالرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخشيت أن ينـزل بكم العذاب .

وهذا السياق أشبه من سياق البزار وأبي يعلى، والله أعلم.

وقد أورد هذه القصة الإمام محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب السيرة على خلاف هذا النمط، فقال:

حدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القُرَظي قال:حُدِّثْتُ أن عتبة بن ربيعة - وكان سيدا- قال يوما وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده:يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيَّها شاء ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة، ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون، فقالوا:بلى يا أبا الوليد، فقم إليه فكلمه .فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السِّطَة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منا بعضها. قال:فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قل يا أبا الوليد، أسمع » . قال:يا ابن أخي، إن كنت إنما تريدُ بما جئتَ به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون من أكثرنا أموالا . وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا، حتى لا نقطع أمرًا دونك. وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا. وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيّا تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُدَاوَى منه - أو كما قال له- حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال: « أفرغت يا أبا الوليد؟ » قال:نعم . قال: « فاستمع مني » قال:أفعل. قال: ( بسم الله الرحمن الرحيم * حم * تَنـزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ) ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه. فلما سمع عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها، فسجد ثم قال: « قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض:أقسم - يحلف بالله- لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا:ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال:ورائي أني قد سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكهانة. يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها لي، خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونَنَّ لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فمُلْكُهُ ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به. قالوا:سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه! قال:هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم .»

وهذا السياق أشبه من الذي قبله، والله أعلم.

قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ( 6 ) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ( 7 ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ( 8 )

يقول تعالى: ( قُلْ ) يا محمد لهؤلاء المكذبين المشركين: ( إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) لا كما تعبدونه من الأصنام والأنداد والأرباب المتفرقين، إنما الله إله واحد، ( فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ ) أي:أخلصوا له العبادة على منوال ما أمركم به على ألسنة الرسل، ( وَاسْتَغْفِرُوهُ ) أي:لسالف الذنوب، ( وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ) أي:دمار لهم وهلاك عليهم،

( الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:يعني:الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله. وكذا قال عكرمة.

وهذا كقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [ الشمس:9، 10 ] ، وكقوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [ الأعلى:14، 15 ] ، وقوله: فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى [ النازعات:18 ] والمراد بالزكاة هاهنا:طهارة النفس من الأخلاق الرذيلة، ومن أهم ذلك طهارة النفس من الشرك. وزكاة المال إنما سميت زكاة لأنها تطهره من الحرام، وتكون سببا لزيادته وبركته وكثرة نفعه، وتوفيقا إلى استعماله في الطاعات.

وقال السدي: ( وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ) أي:لا يَدِينون بالزكاة.

وقال معاوية بن قرة:ليس هم من أهل الزكاة.

وقال قتادة:يمنعون زكاة أموالهم.

وهذا هو الظاهر عند كثير من المفسرين، واختاره ابن جرير. وفيه نظر؛ لأن إيجاب الزكاة إنما كان في السنة الثانية من الهجرة إلى المدينة، على ما ذكره غير واحد وهذه الآية مكية، اللهم إلا أن يقال:لا يبعد أن يكون أصل الزكاة الصدقة كان مأمورا به في ابتداء البعثة، كقوله تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [ الأنعام:141 ] ، فأما الزكاة ذات النصب والمقادير فإنما بَيَّن أمرها بالمدينة، ويكون هذا جمعا بين القولين، كما أن أصل الصلاة كان واجبا قبل طلوع الشمس وقبل غروبها في ابتداء البعثة، فلما كان ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة ونصف، فرض الله على رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] الصلوات الخمس، وفصل شروطها وأركانها وما يتعلق بها بعد ذلك، شيئا فشيئا، والله أعلم.

ثم قال بعد ذلك: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) قال مجاهد وغيره:لا مقطوع ولا مجبوب ، كقوله: مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا [ الكهف:3 ] ، وكقوله تعالى: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [ هود:108 ] .

وقال السدي:غير ممنون عليهم. وقد رد عليه بعض الأئمة هذا التفسير، فإن المنة لله على أهل الجنة؛ قال الله تعالى: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ [ الحجرات:17 ] ، وقال أهل الجنة: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [ الطور:27 ] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل » .

قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( 9 ) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ( 10 ) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ( 11 )

هذا إنكار من الله على المشركين الذين عبدوا معه غيره، وهو الخالق لكل شيء، القاهر لكل شيء، المقدر لكل شيء، فقال: ( قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ) أي:نظراء وأمثالا تعبدونها معه ( ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) أي:الخالق للأشياء هو رب العالمين كلهم.

وهذا المكان فيه تفصيل لقوله تعالى: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [ الأعراف:54 ] ، ففصل هاهنا ما يختص بالأرض مما اختص بالسماء، فذكر أنه خلق الأرض أولا لأنها كالأساس، والأصل أن يُبْدَأَ بالأساس، ثم بعده بالسقف، كما قال: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ سَمَاوَاتٍ الآية [ البقرة:29 ] ، .

فأما قوله: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ [ النازعات:27- 33 ] ففي هذه الآية أن دَحْى الأرض كان بعد خلق السماء ، فالدَّحْيُ هو مفسر بقوله: أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ، وكان هذا بعد خلق السماء، فأما خلق الأرض فقبل خلق السماء بالنص، وبهذا أجاب ابن عباس فيما ذكره البخاري عند تفسير هذه الآية من صحيحه، فإنه قال:

وقال المنهال، عن سعيد بن جبير قال:قال رجل لابن عباس:إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ قال: فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [ المؤمنون:101 ] ، وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ [ الصافات:27 ] ، وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [ النساء:42 ] ، وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [ الأنعام:23 ] ، فقد كتموا في هذه الآية؟ وقال: أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا إلى قوله: دَحَاهَا [ النازعات:27 - 30 ] ، فذكر خلق السماء قبل [ خلق ] الأرض ثم قال: ( قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ) إلى قوله: ( طَائِعِينَ ) فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء؟ وقال: وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [ النساء:96 ] ، عَزِيزًا حَكِيمًا [ النساء:56 ] ، سَمِيعًا بَصِيرًا [ النساء:58 ] ، فكأنه كان ثم مضى.

قال - يعني ابن عباس- : فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ في النفخة الأولى، ثم ينفخ في الصور، فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [ الزمر:68 ] ، فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون ثم في النفخة الأخرى وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ

وأما قوله: مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ، وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ، فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم فقال المشركون:تعالوا نقول: « لم نكن مشركين » ، فيختم على أفواههم، فتنطق أيديهم، فعند ذلك يعرف أن الله لا يكتم حديثا، وعنده يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية [ الحجر:2 ] .

وخلق الأرض في يومين، ثم خلق السماء، ثم استوى إلى السماء، فسواهن في يومين آخرين، ثم دَحَى الأرض، ودَحْيُها:أن أخرج منها الماء والمرعى، وخلق الجبال والجماد والآكام وما بينهما في يومين آخرين، فذلك قوله: دَحَاهَا وقوله ( خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ) فَخُلِقت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام، وخلقت السماوات في يومين.

وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [ النساء:96 ] ، سمى نفسه بذلك، وذلك قوله، أي:لم يزل كذلك؛ فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد، فلا يختلفن عليك القرآن، فإن كلا من عند الله عز وجل.

قال البخاري:حدثنيه يوسف بن عدي، حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أُنَيْسَة ، عن المنهال - هو ابن عمرو- بالحديث .

فقوله: ( خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ) يعني:يوم الأحد ويوم الاثنين.

( وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا ) أي:جعلها مباركة قابلة للخير والبذر والغراس، ( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ) ، وهو:ما يحتاج أهلها إليه من الأرزاق والأماكن التي تزرع وتغرس، يعني:يوم الثلاثاء والأربعاء، فهما مع اليومين السابقين أربعة؛ ولهذا قال تعالى: ( فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ) أي:لمن أراد السؤال عن ذلك ليعلمه.

وقال مجاهد وعكرمة في قوله: ( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ) جعل في كل أرض ما لا يصلح في غيرها، ومنه:العصب باليمن، والسابري بسابور والطيالسة بالرّي.

وقال ابن عباس، وقتادة، والسدي في قوله تعالى: ( سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ) أي:لمن أراد السؤال عن ذلك.

وقال ابن زيد:معناه ( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ) أي:على وفق مراد من له حاجة إلى رزق أو حاجة، فإن الله قدر له ما هو محتاج إليه.

وهذا القول يشبه ما ذكروه في قوله تعالى: وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ [ إبراهيم:34 ] ، والله أعلم.

وقوله: ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ ) ، وهو:بخار الماء المتصاعد منه حين خلقت الأرض، ( فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا ) أي:استجيبا لأمري، وانفعلا لفعلي طائعتين أو مكرهتين.

قال الثوري، عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله [ تعالى ] ( فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا ) قال:قال الله تعالى للسماوات:أطلعي شمسي وقمري ونجومي. وقال للأرض:شققي أنهارك، وأخرجي ثمارك. فقالتا: ( أَتَيْنَا طَائِعِينَ )

واختاره ابن جرير - رحمه الله.

( قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) أي:بل نستجيب لك مطيعين بما فينا، مما تريد خلقه من الملائكة والإنس والجن جميعا مطيعين لك. حكاه ابن جرير عن بعض أهل العربية قال:وقيل:تنـزيلا لهن معاملة من يعقل بكلامهما.

وقيل إن المتكلم من الأرض بذلك هو مكان الكعبة، ومن السماء ما يسامته منها، والله أعلم.

وقال الحسن البصري:لو أبيا عليه أمره لعذبهما عذابا يجدان ألمه. رواه ابن أبي حاتم.

 

فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ( 12 )

( فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ) أي:ففرغ من تسويتهن سبع سماوات في يومين، أي:آخرين، وهما يوم الخميس ويوم الجمعة.

( وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ) أي:ورتب مقررا في كل سماء ما تحتاج إليه من الملائكة، وما فيها من الأشياء التي لا يعلمها إلا هو، ( وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ) وهن الكواكب المنيرة المشرقة على أهل الأرض، ( وَحِفْظًا ) أي:حرسا من الشياطين أن تستمع إلى الملأ الأعلى.

( ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) أي:العزيز الذي قد عز كل شيء فغلبه وقهره، العليم بجميع حركات المخلوقات وسكناتهم.

قال ابن جرير:حدثنا هَنَّاد بن السري، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي سعيد البقال، عن عكرمة، عن ابن عباس - قال هناد:قرأت سائر الحديث- أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن خلق السماوات والأرض، فقال: « خلق الله الأرض يوم الأحد ويوم الاثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء وما فيهن من منافع، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب، فهذه أربعة: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ لمن سأل، قال: » وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة إلى ثلاث ساعات بقيت منه، فخلق في أول ساعة من هذه الثلاثة الآجال، حين يموت من مات، وفي الثانية ألقى الآفة على كل شيء مما ينتفع به الناس، وفي الثالثة آدم، وأسكنه الجنة، وأمر إبليس بالسجود له، وأخرجه منها في آخر ساعة « . ثم قالت اليهود:ثم ماذا يا محمد؟ قال: » ثم استوى على العرش « . قالوا:قد أصبت لو أتممت! قالوا: ثم استراح. فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا، فنـزل: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ [ ق:38- 39 ] . »

هذا الحديث فيه غرابة. فأما حديث ابن جريج، عن إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع، عن أبي هريرة قال:أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: « خلق الله التربة يوم السبت ، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل » فقد رواه مسلم، والنسائي في كتابيهما، عن حديث ابن جريج، به . وهو من غرائب الصحيح، وقد عَلَّله البخاري في التاريخ فقال:رواه بعضهم عن أبي هريرة [ رضي الله عنه ] عن كعب الأحبار، وهو الأصح.

فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ( 13 ) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ( 14 ) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ( 15 ) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ ( 16 ) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 17 ) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ( 18 )

يقول تعالى:قل يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين بما جئتهم به من الحق:إن أعرضتم عما جئتكم به من عند الله فإني أنذركم حلول نقمة الله بكم، كما حلت بالأمم الماضين من المكذبين بالمرسلين ( صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ) أي:ومن شاكلهما ممن فعل كفعلهما. ( إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ) كقوله تعالى: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ [ الأحقاف:21 ] أي:في القرى المجاورة لبلادهم، بعث الله إليهم الرسل يأمرون بعبادة الله وحده لا شريك له، ومبشرين ومنذرين ورأوا ما أحل الله بأعدائه من النقم، وما ألبس أولياءه من النعم، ومع هذا ما آمنوا ولا صدقوا، بل كذبوا وجحدوا، وقالوا: ( لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأنـزلَ مَلائِكَةً ) أي:لو أرسل الله رسلا لكانوا ملائكة من عنده، ( فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ ) أي:أيها البشر ( كَافِرُونَ ) أي:لا نتبعكم وأنتم بشر مثلنا.

قال الله تعالى: ( فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ [ بِغَيْرِ الحَقٍّ ] ) أي:بغوا وعتوا وعصوا، ( وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ) أي:منوا بشدة تركيبهم وقواهم، واعتقدوا أنهم يمتنعون به من بأس الله! ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ) أي:أفما يتفكرون فيمن يبارزون بالعداوة؟ فإنه العظيم الذي خلق الأشياء وركب فيها قواها الحاملة لها، وإن بطشه شديد، كما قال تعالى: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [ الذاريات:47 ] ، فبارزوا الجبار بالعداوة، وجحدوا بآياته وعصوا رسوله، فلهذا قال: ( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا ) قال بعضهم:وهي الشديدة الهبوب. وقيل:الباردة. وقيل:هي التي لها صوت.

والحق أنها متصفة بجميع ذلك، فإنها كانت ريحا شديدة قوية؛ لتكون عقوبتهم من جنس ما اغتروا به من قواهم، وكانت باردة شديدة البرد جدا، كقوله تعالى: بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ [ الحاقة:6 ] ، أي:باردة شديدة، وكانت ذات صوت مزعج، ومنه سمي النهر المشهور ببلاد المشرق « صرصرا لقوة صوت جريه. »

وقوله: ( فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ ) أي:متتابعات، سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا [ الحاقة:7 ] ، كقوله فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ [ القمر:19 ] ، أي:ابتدئوا بهذا العذاب في يوم نحس عليهم، واستمر بهم هذا النحس سبع ليال وثمانية أيام حتى أبادهم عن آخرهم، واتصل بهم خزي الدنيا بعذاب الآخرة؛ ولهذا قال تعالى: ( لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى ) [ أي ] أشد خزيا لهم، ( وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ ) أي:في الأخرى ، كما لم ينصروا في الدنيا، وما كان لهم من الله من واق يقيهم العذاب ويدرأ عنهم النكال.

وقوله: ( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ ) قال ابن عباس، وأبو العالية، وسعيد بن جبير، وقتادة، والسدي، وابن زيد:بينا لهم .

وقال الثوري:دعوناهم.

( فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ) أي:بصرناهم، وبينا لهم، ووضحنا لهم الحق على لسان نبيهم صالح صلى الله عليه وسلم ، فخالفوه وكذبوه، وعقروا ناقة الله التي جعلها آية وعلامة على صدق نبيهم، ( فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ ) أي:بعث الله عليهم صيحة ورجفة وذلا وهوانا وعذابا ونكالا ( بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) أي:من التكذيب والجحود.

( وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا [ وَكَانُوا يَتَّقُونَ ] ) أي:من بين أظهرهم، لم يمسهم سوء، ولا نالهم من ذلك ضرر، بل نجاهم الله مع نبيهم صالح [ عليه السلام ] بإيمانهم، وتقواهم لله، عز وجل.

وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ( 19 ) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 20 )

يقول تعالى: ( وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ) أي:اذكر لهؤلاء المشركين يوم يحشرون إلى النار ( يُوزَعُونَ ) ، أي:تجمع الزبانية أولهم على آخرهم، كما قال تعالى: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا [ مريم:86 ] ، أي:عطاشا.

وقوله: ( حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا ) أي:وقفوا عليها، ( شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) أي:بأعمالهم مما قدموه وأخروه، لا يُكْتَم منه حرف.

 

وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 21 ) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ ( 22 ) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 23 ) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ ( 24 )

( وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا ) أي:لاموا أعضاءهم وجلودهم حين شهدوا عليهم، فعند ذلك أجابتهم الأعضاء: ( قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) أي:فهو لا يخالف ولا يمانع، وإليه ترجعون.

قال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حدثنا علي بن قادم، حدثنا شريك، عن عبيد المُكْتَب، عن الشعبي ، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال:ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وتبسم ، فقال: « ألا تسألوني عن أي شيء ضحكت؟ » قالوا:يا رسول الله من أي شيء ضحكت؟ قال: « عجبت من مجادلة العبد ربه يوم القيامة، يقول:أي ربي، أليس وعدتني ألا تظلمني؟ قال:بلى فيقول:فإني لا أقبل عليّ شاهدا إلا من نفسي. فيقول الله تبارك وتعالى:أوليس كفى بي شهيدا، وبالملائكة الكرام الكاتبين؟! قال:فيردد هذا الكلام مرارا » . قال: « فيختم على فيه، وتتكلم أركانه بما كان يعمل، فيقول:بُعْدًا لكُنَّ وسُحقا، عنكن كنت أجادل » .

ثم رواه هو وابن أبي حاتم، من حديث أبي عامر الأسدي، عن الثوري، عن عُبيد المُكْتَب، عن فُضيل بن عمرو، عن الشعبي ثم قال: « لا نعلم رواه عن أنس غير الشعبي » . وقد أخرجه مسلم والنسائي جميعا عن أبي بكر بن أبي النضر، عن أبي النضر، عن عُبَيد الله بن عبد الرحمن الأشجعي ، عن الثوري به . ثم قال النسائي: « لا أعلم أحدا رواه عن الثوري غير الأشجعي » . وليس كما قال كما رأيت، والله أعلم.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن إبراهيم، حدثنا إسماعيل بن عُلَّية، عن يونس بن عُبَيْد، عن حُميد بن هلال قال:قال أبو بُرْدَة:قال أبو موسى:ويدعى الكافر والمنافق للحساب، فيعرض عليه ربه - عز وجل- عمله، فيجحد ويقول:أي رب ، وعزتك لقد كتب علي هذا الملك ما لم أعمل! فيقول له الملك:أما عملت كذا، في يوم كذا، في مكان كذا؟ فيقول:لا وعزتك، أي رب ما عملته. [ قال ] فإذا فعل ذلك خُتِم على فيه - قال الأشعري:فإني لأحسب أول ما ينطق منه فخذه اليمنى.

وقال الحافظ أبو يعلى:حدثنا زُهَيْر حدثنا حسن، عن ابن لَهِيعة:قال دَرّاج عن أبي الهيثم عن أبى سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا كان يوم القيامة عُرّف الكافر بعمله، فجحد وخاصم، فيقال:هؤلاء جيرانك، يشهدون عليك؟ فيقول:كذبوا. فيقول:أهلك [ و ] عشيرتك؟ فيقول:كذبوا. فيقول:احلفوا فيحلفون، ثم يصمتهم الله وتشهد عليهم ألسنتهم، ويدخلهم النار » .

وقال ابن أبي حاتم:وحدثنا أبي، حدثنا أحمد بن إبراهيم، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث:سمعت أبي:حدثنا علي بن زيد، عن مسلم بن صُبيْح أبي الضُّحى، عن ابن عباس:أنه قال لابن الأزرق:إن يوم القيامة يأتي على الناس منه حين، لا ينطقون ولا يعتذرون ولا يتكلمون حتى يؤذن لهم، ثم يؤذن لهم فيختصمون، فيجحد الجاحد بشركه بالله، فيحلفون له كما يحلفون لكم، فيبعث الله عليهم حين يجحدون شهداء من أنفسهم، جلودهم وأبصارهم وأيديهم وأرجلهم، ويختم على أفواههم، ثم يفتح لهم الأفواه فتخاصم الجوارح، فتقول: ( أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) فتقر الألسنة بعد الجحود.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا عبدة بن سليمان، حدثنا ابن المبارك، حدثنا صفوان بن عمرو ، عن عبد الرحمن بن جبير الحضرمي، عن رافع أبي الحسن - وصف رجلا جحد- قال:فيشير الله إلى لسانه، فيربو في فمه حتى يملأه، فلا يستطيع أن ينطق بكلمة، ثم يقول لآرابه كلها:تكلمي واشهدي عليه. فيشهد عليه سمعه وبصره وجلده، وفرجه ويداه ورجلاه:صنعنا، عملنا، فعلنا.

وقد تقدم أحاديث كثيرة، وآثار عند قوله تعالى في سورة يس: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [ يس:65 ] ، بما أغنى عن إعادته هاهنا.

وقال ابن أبي حاتم - رحمه الله- :حدثنا أبي، حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا يحيى بن سُلَيم الطائفي، عن ابن خُثَيْم، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله قال:لما رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرة البحر قال: « ألا تحدثون بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة؟ » فقال فتية منهم:بلى يا رسول الله، بينا نحن جلوس إذ مرت علينا عجوز من عجائز رهابينهم، تحمل على رأسها قلة من ماء، فمرت بفتى منهم فجعل إحدى يديه بين كتفيها، ثم دفعها فخرت على ركبتيها، فانكسرت قلتها. فلما ارتفعت التفتت إليه فقالت:سوف تعلم يا غُدَر، إذا وضع الله الكرسي، وجمع الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غدا؟ قال:يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: « صَدَقَتْ [ و ] صدقت، كيف يُقدس الله قوما لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم؟ » .

هذا حديث غريب من هذا الوجه. ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الأهوال:أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال:أخبرنا يحيى بن سليم، به

وقوله: ( وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ ) أي:تقول لهم الأعضاء والجلود حين يلومونها على الشهادة عليهم:ما كنتم تتكتمون منا الذي كنتم تفعلونه بل كنتم تجاهرون الله بالكفر والمعاصي، ولا تبالون منه في زعمكم؛ لأنكم كنتم لا تعتقدون أنه يعلم جميع أفعالكم؛ ولهذا قال: ( وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ ) أي:هذا الظن الفاسد - وهو اعتقادكم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون- هو الذي أتلفكم وأرداكم عند ربكم، ( فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) أي:في مواقف القيامة خسرتم أنفسكم وأهليكم.

قال الإمام أحمد - رحمه الله- :حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن عمارة، عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن عبد الله قال:كنت مستترًا بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفر:قرشي، وختناه ثقفيان - أو ثقفي وختناه قرشيان- كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم، فتكلموا بكلام لم أسمعه، فقال أحدهم:أترون أن الله يسمع كلامنا هذا؟ فقال الآخر:إنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه ، وإذا لم نرفعه لم يسمعه، فقال الآخر:إن سمع منه شيئا سمعه كله. قال:فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأنـزل الله عز وجل: ( وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ ) إلى قوله: ( مِنَ الْخَاسِرِينَ )

وكذا رواه الترمذي عن هناد، عن أبي معاوية، بإسناده نحوه . وأخرجه أحمد ومسلم والترمذي أيضا، من حديث سفيان الثوري، عن الأعمش، عن عُمارة بن عمير، عن وهب بن ربيعة، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، بنحوه . ورواه البخاري ومسلم أيضا، من حديث السفيانين، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي معمر عبد الله بن سَخْبرة، عن ابن مسعود به .

وقال عبد الرزاق:أخبرنا معمر، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ ) قال: « إنكم تُدعَون مُفَدَّمًا على أفواهكم بالفدام، فأول شيء يبين عن أحدكم فخذه وكفه » .

قال معمر:وتلا الحسن: ( وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ ) ثم قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قال الله أنا مع عبدي عند ظنه بي، وأنا معه إذا دعاني » ثم افترَّ الحسن ينظر في هذا فقال:ألا إنما عمل الناس على قدر ظنونهم بربهم، فأما المؤمن فأحسن الظن بربه فأحسن العمل، وأما الكافر والمنافق فأساءا الظن بالله فأساءا العمل. ثم قال:قال الله تعالى: ( وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ ) إلى قوله: ( وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ )

وقال الإمام أحمد:حدثنا النضر بن إسماعيل القاص - وهو أبو المغيرة- حدثنا ابن أبي ليلى، عن أبي الزبير، عن جابر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يموتن أحد منكم إلا وهو يحسن بالله الظن، فإن قوما قد أرداهم سوء ظنهم بالله، فقال الله تعالى: ( وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) . »

وقوله: ( فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ ) « أي:سواء عليهم أصبروا أم لم يصبروا هم في النار، لا محيد لهم عنها، ولا خروج لهم منها. وإن طلبوا أن يستعتبوا ويبدوا أعذارا فما لهم أعذار، ولا تُقَال لهم عثرات. »

قال ابن جرير:ومعنى قوله: ( وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا ) أي:يسألوا الرجعة إلى الدنيا، فلا جواب لهم - قال:وهذا كقوله تعالى إخبارا عنهم: قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [ المؤمنون:106 - 108 ] .

وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ( 25 ) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ( 26 ) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 27 ) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ( 28 ) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ ( 29 )

يذكر تعالى أنه هو الذي أضل المشركين، وأن ذلك بمشيئته وكونه وقدرته، وهو الحكيم في أفعاله، بما قَيَّض لهم من القرناء من شياطين الإنس والجن: ( فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ) أي:حَسَّنوا لهم أعمالهم في الماضي، وبالنسبة إلى المستقبل فلم يروا أنفسهم إلا محسنين، كما قال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [ الزخرف:36 - 37 ] .

وقوله تعالى: ( وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ) أي:كلمة العذاب كما حق على أمم قد خلت من قبلهم، ممن فعل كفعلهم، من الجن والإنس، ( إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ) أي:استوَوا هم وإياهم في الخسار والدمار.

وقوله تعالى: ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ ) أي:تواصوا فيما بينهم ألا يطيعوا للقرآن، ولا ينقادوا لأوامره ، ( وَالْغَوْا فِيهِ ) أي:إذا تلي لا تسمعوا له. كما قال مجاهد: ( وَالْغَوْا فِيهِ ) يعني:بالمكاء والصفير والتخليط في المنطق على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن قريش تفعله.

وقال الضحاك، عن ابن عباس: ( وَالْغَوْا فِيهِ ) عيبوه .

وقال قتادة:اجحدوا به، وأنكروه وعادوه.

( لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ) هذا حال هؤلاء الجهلة من الكفار، ومن سلك مسلكهم عند سماع القرآن. وقد أمر الله - سبحانه- عباده المؤمنين بخلاف ذلك فقال: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [ الأعراف:204 ] .

ثم قال تعالى، منتصرا للقرآن، ومنتقما ممن عاداه من أهل الكفران: ( فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا ) أي:في مقابلة ما اعتمدوه في القرآن وعند سماعه، ( وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ) أي:بشَرِّ أعمالهم وسيِّئ أفعالهم: ( ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ ) .

قال سفيان الثوري، عن سلمة بن كُهَيْل، عن مالك بن الحصين الفزاري، عن أبيه ، عن علي، رضي الله عنه، في قوله: ( الَّذَيْنِ أَضَلانَا ) قال:إبليس وابن آدم الذي قتل أخاه.

وهكذا روى حبة العُرَنِي عن علي، مثل ذلك.

وقال السدي، عن علي:فإبليس يدعو به كل صاحب شرك، وابن آدم يدعو به كل صاحب كبيرة، فإبليس - لعنه الله- هو الداعي إلى كل شر من شرك فما دونه، وابن آدم الأول. كما ثبت في الحديث: « ما قتلت نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها؛ لأنه أول من سن القتل » .

وقوله ( نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا ) أي:أسفل منا في العذاب ليكونا أشد عذابا منا؛ ولهذا قالوا: ( لِيَكُونَا مِنَ الأسْفَلِينَ ) أي:في الدرك الأسفل من النار، كما تقدم في « الأعراف » من سؤال الأتباع من الله أن يعذب قادتهم أضعاف عذابهم، قال: لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ [ الأعراف:38 ] أي:إنه تعالى قد أعطى كلا منهم ما يستحقه من العذاب والنكال، بحسب عمله وإفساده، كما قال تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [ النحل:88 ] .

 

إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ( 30 ) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ( 31 ) نُزُلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ( 32 )

يقول تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) أي:أخلصوا العمل لله، وعملوا بطاعة الله تعالى على ما شرع الله لهم.

قال الحافظ أبو يعلى الموصلي:حدثنا الجراح، حدثنا سلم بن قتيبة أبو قتيبة الشَّعِيري، حدثنا سهيل بن أبي حزم، حدثنا ثابت عن أنس بن مالك قال:قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) قد قالها ناس ثم كفر أكثرهم ، فمن قالها حتى يموت فقد استقام عليها.

وكذا رواه النسائي في تفسيره، والبزار وابن جرير، عن عمرو بن علي الفلاس، عن سلم بن قتيبة، به . وكذا رواه ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن الفلاس، به. ثم قال ابن جرير:

حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد ، عن سعيد بن نمران قال:قرأت عند أبي بكر الصديق هذه الآية: ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) قال:هم الذين لم يشركوا بالله شيئا.

ثم روي من حديث الأسود بن هلال قال:قال أبو بكر، رضي الله عنه:ما تقولون في هذه الآية: ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) ؟ قال:فقالوا: ( رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) من ذنب. فقال:لقد حملتموها على غير المحمل، ( قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) فلم يلتفتوا إلى إله غيره.

وكذا قال مجاهد، وعكرمة، والسدي، وغير واحد .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو عبد الله الظهراني ، أخبرنا حفص بن عمر العدني، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة قال:سئل ابن عباس ، رضي الله عنهما:أي آية في كتاب الله أرخص؟ قال قوله: ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) على شهادة أن لا إله إلا الله.

وقال الزهري:تلا عمر هذه الآية على المنبر، ثم قال:استقاموا - والله- لله بطاعته، ولم يروغوا روغان الثعالب.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) على أداء فرائضه. وكذا قال قتادة، قال:وكان الحسن يقول:اللهم أنت ربنا، فارزقنا الاستقامة.

وقال أبو العالية: ( ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) أخلصوا له العمل والدين.

وقال الإمام أحمد:حدثنا هُشَيْم، حدثنا يعلى بن عطاء، عن عبد الله بن سفيان الثقفي، عن أبيه ؛ أن رجلا قال:يا رسول الله مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحدا بعدك. قال: « قل آمنت بالله، ثم استقم » قلت:فما أتقي؟ فأومأ إلى لسانه.

ورواه النسائي من حديث شعبة، عن يعلى بن عطاء، به .

ثم قال الإمام أحمد:حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا إبراهيم بن سعد، حدثني ابن شهاب، عن محمد بن عبد الرحمن بن ماعز الغامدي، عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال:قلت:يا رسول الله، حدثني بأمر أعتصم به. قال: « قل ربي الله، ثم استقم » قلت:يا رسول الله ما أكثر ما تخاف علي؟ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بطرف لسان نفسه، ثم قال: « هذا » .

وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه، من حديث الزهري، به . وقال الترمذي:حسن صحيح .

وقد أخرجه مسلم في صحيحه والنسائي، من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال:قلت:يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك. قال: « قل آمنت بالله، ثم استقم » وذكر تمام الحديث .

وقوله: ( تَتَنـزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ) قال مجاهد، والسدي، وزيد بن أسلم، وابنه:يعني عند الموت قائلين: ( أَلا تَخَافُوا ) قال مجاهد، وعكرمة، وزيد بن أسلم:أي مما تقدمون عليه من أمر الآخرة، ( وَلا تَحْزَنُوا ) [ أي ] على ما خلفتموه من أمر الدنيا، من ولد وأهل، ومال أو دين، فإنا نخلفكم فيه، ( وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) فيبشرونهم بذهاب الشر وحصول الخير.

وهذا كما في حديث البراء ، رضي الله عنه: « إن الملائكة تقول لروح المؤمن:اخرجي أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرينه، اخرجي إلى روح وريحان، ورب غير غضبان » .

وقيل:إن الملائكة تتنـزل عليهم يوم خروجهم من قبورهم. حكاه ابن جرير عن ابن عباس، والسدي.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا عبد السلام بن مطهر، حدثنا جعفر بن سليمان:سمعت ثابتا قرأ سورة « حم السجدة » حتى بلغ: ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنـزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ) فوقف فقال:بلغنا أن العبد المؤمن حين يبعثه الله من قبره، يتلقاه الملكان اللذان كانا معه في الدنيا، فيقولان له:لا تخف ولا تحزن، ( وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) قال:فيؤمن الله خوفه، ويقر عينه فما عظيمة يخشى الناس يوم القيامة إلا هي للمؤمن قرة عين، لما هداه الله، ولما كان يعمل له في الدنيا.

وقال زيد بن أسلم:يبشرونه عند موته، وفي قبره، وحين يبعث. رواه ابن أبي حاتم.

وهذا القول يجمع الأقوال كلها، وهو حسن جدا، وهو الواقع.

وقوله: ( نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) أي:تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار:نحن كنا أولياءكم، أي:قرناءكم في الحياة الدنيا، نسددكم ونوفقكم، ونحفظكم بأمر الله، وكذلك نكون معكم في الآخرة نؤنس منكم الوحشة في القبور، وعند النفخة في الصور، ونؤمنكم يوم البعث والنشور، ونجاوز بكم الصراط المستقيم، ونوصلكم إلى جنات النعيم. ( وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ ) أي:في الجنة من جميع ما تختارون مما تشتهيه النفوس، وتقر به العيون، ( وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ) أي:مهما طلبتم وجدتم، وحضر بين أيديكم، [ أي ] كما اخترتم.

( نـزلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ) أي:ضيافة وعطاء وإنعاما من غفور لذنوبكم، رحيم بكم رءوف، حيث غفر، وستر، ورحم، ولطف.

وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديث « سوق الجنة » عند قوله تعالى: ( وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نـزلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ) ، فقال:

حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا عبد الحميد بن حبيب بن أبي العشرين أبي سعيد، حدثنا الأوزاعي، حدثني حسان بن عطية، عن سعيد بن المسيب:أنه لقي أبا هريرة [ رضي الله عنه ] فقال أبو هريرة:نسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة. فقال سعيد:أوفيها سوق؟ قال:نعم، أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل الجنة إذا دخلوا فيها، نـزلوا بفضل أعمالهم، فيؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة في أيام الدنيا فيزورون الله، عز وجل، ويبرز لهم عرشه، ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة، وتوضع لهم منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من ياقوت، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة، ويجلس [ فيه ] أدناهم وما فيهم دنيء على كثبان المسك والكافور، ما يرون بأن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسا.

قال أبو هريرة:قلت:يا رسول الله، وهل نرى ربنا [ يوم القيامة ] ؟ قال: « نعم هل تتمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر؟ » قلنا:لا. قال صلى الله عليه وسلم: « فكذلك لا تتمارون في رؤية ربكم تعالى، ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره الله محاضرة، حتى إنه ليقول للرجل منهم:يا فلان بن فلان، أتذكر يوم عملت كذا وكذا؟ - يذكِّره ببعض غدراته في الدنيا- فيقول:أي رب، أفلم تغفر لي؟ فيقول:بلى فبسعة مغفرتي بلغت منـزلتك هذه. قال:فبينما هم على ذلك غشيتهم سحابة من فوقهم، فأمطرت عليهم طيبا لم يجدوا مثل ريحه شيئا قط » . قال:ثم يقول ربنا - عز وجل- :قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة، وخذوا ما اشتهيتم « . قال: » فنأتي سوقا قد حَفَّت به الملائكة، فيها ما لم تنظر العيون إلى مثله، ولم تسمع الآذان، ولم يخطر على القلوب. قال:فيحمل لنا ما اشتهينا، ليس يباع فيه شيء ولا يشترى، وفي ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضا « . قال: » فيقبل الرجل ذو المنـزلة الرفيعة، فيلقى من هو دونه- وما فيهم دنيء فيروعه ما يرى عليه من اللباس، فما ينقضي آخر حديثه حتى يتمثل عليه أحسن منه؛ وذلك لأنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها.

ثم ننصرف إلى منازلنا، فيتلقانا أزواجنا فيقلن:مرحبا وأهلا بِحِبَّنا، لقد جئت وإن بك من الجمال والطيب أفضل مما فارقتنا عليه. فيقول:إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار - عز وجل- وبحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا به « . »

وقد رواه الترمذي في « صفة الجنة » من جامعه، عن محمد بن إسماعيل، عن هشام بن عمار، ورواه ابن ماجه عن هشام بن عمار، به نحوه . ثم قال الترمذي:هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

وقال الإمام أحمد:حدثنا ابن أبي عَدِي، عن حميد، عن أنس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه » . قلنا يا رسول الله كلنا نكره الموت؟ قال: « ليس ذلك كراهية الموت، ولكن المؤمن إذا حُضِر جاءه البشير من الله بما هو صائر إليه، فليس شيء أحب إليه من أن يكون قد لقي الله فأحب الله لقاءه » قال: « وإن الفاجر - أو الكافر- إذا حُضِر جاءه بما هو صائر إليه من الشر - أو:ما يلقى من الشر- فكره لقاء الله فكره الله لقاءه » .

وهذا حديث صحيح ، وقد ورد في الصحيح من غير هذا الوجه .

وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( 33 ) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ( 34 ) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ( 35 ) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 36 )

يقول تعالى: ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ ) أي:دعا عباد الله إليه، ( وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) أي:وهو في نفسه مهتد بما يقوله، فنفعه لنفسه ولغيره لازم ومُتَعَدٍ، وليس هو من الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه، وينهون عن المنكر ويأتونه، بل يأتمر بالخير ويترك الشر، ويدعو الخلق إلى الخالق تبارك وتعالى. وهذه عامة في كل من دعا إلى خير، وهو في نفسه مهتد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أولى الناس بذلك، كما قال محمد بن سيرين، والسدي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

وقيل:المراد بها المؤذنون الصلحاء، كما ثبت في صحيح مسلم: « المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة » وفي السنن مرفوعا: « الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، فأرشد الله الأئمة، وغفر للمؤذنين » .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن عَرُوبَة الهروي، حدثنا غسان قاضي هراة وقال أبو زرعة:حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن مطر، عن الحسن، عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: « سهام المؤذنين عند الله يوم القيامة كسهام المجاهدين، وهو بين الأذان والإقامة كالمتشحط في سبيل الله في دمه » .

قال:وقال ابن مسعود: « لو كنت مؤذنا ما باليت ألا أحج ولا أعتمر ولا أجاهد » .

قال:وقال عمر بن الخطاب:لو كنت مؤذنا لكمل أمري، وما باليت ألا أنتصب لقيام الليل ولا لصيام النهار، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « اللهم اغفر للمؤذنين » ثلاثا، قال:فقلت:يا رسول الله، تركتنا، ونحن نجتلد على الأذان بالسيوف. قال: « كلا يا عمر، إنه يأتي على الناس زمان يتركون الأذان على ضعفائهم، وتلك لحوم حرمها الله على النار، لحوم المؤذنين » .

قال:وقالت عائشة:ولهم هذه الآية: ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) قالت:فهو المؤذن إذا قال: « حي على الصلاة » فقد دعا إلى الله.

وهكذا قال ابن عمر، وعكرمة:إنها نـزلت في المؤذنين.

وقد ذكر البغوي عن أبي أمامة الباهلي، رضي الله عنه، أنه قال في قوله: ( وَعَمِلَ صَالِحًا ) قال:يعني صلاة ركعتين بين الأذان والإقامة.

ثم أورد البغوي حديث « عبد الله بن المغفل » قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « بين كل أذانين صلاة » . ثم قال في الثالثة: « لمن شاء » وقد أخرجه الجماعة في كتبهم، من حديث عبد الله بن بريدة، عنه وحديث الثوري، عن زيد العمي، عن أبي إياس معاوية بن قرة، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال الثوري:لا أراه إلا وقد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: « الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة » .

ورواه أبو داود والترمذي، والنسائي في « اليوم والليلة » كلهم من حديث الثوري، به . وقال الترمذي:هذا حديث حسن.

ورواه النسائي أيضا من حديث سليمان التيمي، عن قتادة، عن أنس، به .

والصحيح أن الآية عامة في المؤذنين وفي غيرهم، فأما حال نـزول هذه الآية فإنه لم يكن الأذان مشروعا بالكلية؛ لأنها مكية، والأذان إنما شرع بالمدينة بعد الهجرة، حين أريه عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري في منامه، فقصه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يلقيه على بلال فإنه أندى صوتا، كما هو مقرر في موضعه، فالصحيح إذًا أنها عامة، كما قال عبد الرزاق، عن معمر، عن الحسن البصري:أنه تلا هذه الآية: ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) فقال:هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خِيَرَة الله، هذا أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحا في إجابته، وقال: إنني من المسلمين، هذا خليفة الله.

وقوله: ( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ) أي:فرق عظيم بين هذه وهذه، ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) أي:من أساء إليك فادفعه عنك بالإحسان إليه، كما قال عمر [ رضي الله عنه ] ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه.

وقوله: ( فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) وهو الصديق، أي:إذا أحسنت إلى من أساء إليك قادته تلك الحسنة إليه إلى مصافاتك ومحبتك، والحنو عليك، حتى يصير كأنه ولي لك حميم أي:قريب إليك من الشفقة عليك والإحسان إليك.

ثم قال: ( وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا ) أي:وما يقبل هذه الوصية ويعمل بها إلا من صبر على ذلك، فإنه يشق على النفوس، ( وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) أي:ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والآخرة.

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في تفسير هذه الآية:أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم.

وقوله: ( وَإِمَّا يَنـزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نـزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ) أي:إن شيطان الإنس ربما ينخدع بالإحسان إليه، فأما شيطان الجن فإنه لا حيلة فيه إذا وسوس إلا الاستعاذة بخالقه الذي سلطه عليك، فإذا استعذت بالله ولجأت إليه، كفه عنك ورد كيده. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم:إذا قام إلى الصلاة يقول: « أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه » .

وقد قدمنا أن هذا المقام لا نظير له في القرآن إلا في « سورة الأعراف » عند قوله: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [ الأعراف:199، 200 ] ، وفي سورة المؤمنين عند قوله: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [ المؤمنون:96 - 98 ] .

[ لكن الذي ذكر في الأعراف أخف على النفس مما ذكر في سورة السجدة؛ لأن الإعراض عن الجاهل وتركه أخف على النفس من الإحسان إلى المسيء فتتلذذ النفس من ذلك ولا انتقاد له إلا بمعالجة ويساعدها الشيطان في هذه الحال، فتنفعل له وتستعصي على صاحبها، فتحتاج إلى مجاهدة وقوة إيمان؛ فلهذا أكد ذلك هاهنا بضمير الفصل والتعريف باللام فقال: ( فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) ] .

وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ( 37 ) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ ( 38 )

يقول تعالى منبها خلقه على قدرته العظيمة، وأنه الذي لا نظير له وأنه على ما يشاء قادر، ( وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ) أي:أنه خلق الليل بظلامه، والنهار بضيائه، وهما متعاقبان لا يقران، والشمس ونورها وإشراقها، والقمر وضياءه وتقدير منازله في فلكه، واختلاف سيره في سمائه، ليُعرف باختلاف سيره وسير الشمس مقادير الليل والنهار، والجمع والشهور والأعوام، ويتبين بذلك حلول الحقوق، وأوقات العبادات والمعاملات.

ثم لما كان الشمس والقمر أحسن الأجرام المشاهدة في العالم العلوي والسفلي، نبه تعالى على أنهما مخلوقان عبدان من عبيده، تحت قهره وتسخيره، فقال: ( لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) أي:ولا تشركوا به فما تنفعكم عبادتكم له مع عبادتكم لغيره، فإنه لا يغفر أن يشرك به؛ ولهذا قال: ( فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا ) أي:عن إفراد العبادة له وأبوا إلا أن يشركوا معه غيره، ( فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ ) يعني:الملائكة، ( يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ ) ، كقوله فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ [ الأنعام:89 ] .

وقال الحافظ أبو يعلى:حدثنا سفيان - يعني ابن وكيع- حدثنا أبي، عن ابن أبي ليلى، عن أبي الزبير، عن جابر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تسبوا الليل ولا النهار، ولا الشمس ولا القمر، ولا الرياح فإنها ترسل رحمة لقوم، وعذابا لقوم » .

 

وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 39 )

وقوله: ( وَمِنْ آيَاتِهِ ) أي:على قدرته على إعادة الموتى ( أَنَّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً ) أي:هامدة لا نبات فيها، بل هي ميتة ( فَإِذَا أَنـزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ) أي:أخرجت من جميل ألوان الزروع والثمار، ( إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )

إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 40 ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ( 41 ) لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ( 42 ) مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ( 43 )

قوله: ( إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا ) ، قال ابن عباس:الإلحاد:وضع الكلام على غير مواضعه.

وقال قتادة وغيره:هو الكفر والعناد.

وقوله: ( لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا ) أي:فيه تهديد شديد، ووعيد أكيد، أي:إنه تعالى عالم بمن يلحد في آياته وأسمائه وصفاته، وسيجزيه على ذلك بالعقوبة والنكال؛ ولهذا قال: ( أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) ؟ أي:أيستوي هذا وهذا؟ لا يستويان.

ثم قال - عز وجل- تهديدًا للكفرة: ( اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ) قال مجاهد، والضحاك، وعطاء الخراساني: ( اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ) :وعيد، أي:من خير أو شر، إنه عليم بكم وبصير بأعمالكم؛ ولهذا قال: ( إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )

ثم قال: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ ) قال الضحاك، والسدي، وقتادة:وهو القرآن ( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ) أي:منيع الجناب، لا يرام أن يأتي أحد بمثله.

( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ) أي:ليس للبطلان إليه سبيل؛ لأنه منـزل من رب العالمين؛ ولهذا قال: ( تَنـزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) أي:حكيم في أقواله وأفعاله، حميد بمعنى محمود، أي:في جميع ما يأمر به وينهى عنه الجميع محمودة عواقبه وغاياته.

ثم قال: ( مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ ) قال قتادة، والسدي، وغيرهما:ما يقال لك من التكذيب إلا كما قد قيل للرسل من قبلك، فكما قد كذبت فقد كذبوا، وكما صبروا على أذى قومهم لهم، فاصبر أنت على أذى قومك لك. وهذا اختيار ابن جرير، ولم يحك هو، ولا ابن أبي حاتم غيره.

وقوله: ( إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ [ لِلنَّاسِ ] ) أي:لمن تاب إليه ( وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ) أي:لمن استمر على كفره، وطغيانه، وعناده، وشقاقه ومخالفته.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال:لما نـزلت هذه الآية: ( إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لولا غَفْر الله وتجاوزه ما هَنَأ أحدا العيشُ، ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل أحد » .

وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ( 44 ) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ( 45 )

لما ذكر تعالى القرآن وفصاحته وبلاغته، وإحكامه في لفظه ومعناه، ومع هذا لم يؤمن به المشركون، نبه على أن كفرهم به كفر عناد وتعنت، كما قال: وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ [ الشعراء:198، 199 ] . وكذلك لو أنـزل القرآن كله بلغة العجم، لقالوا على وجه التعنت والعناد: ( لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ) أي:لقالوا:هلا أنـزل مفصلا بلغة العرب، ولأنكروا ذلك وقالوا:أعجمي وعربي؟ أي:كيف ينـزل كلام أعجمي على مخاطب عربي لا يفهمه.

هكذا رُوي هذا المعنى عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والسدي، وغيرهم.

وقيل:المراد بقولهم: ( لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ) أي:هلا أنـزل بعضها بالأعجمي، وبعضها بالعربي.

هذا قول الحسن البصري، وكان يقرؤها كذلك بلا استفهام في قوله ( أَعْجَمِيٌّ ) وهو رواية عن سعيد بن جبير وهو في [ التعنت و ] العناد أبلغ.

ثم قال تعالى: ( قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ) أي:قل يا محمد:هذا القرآن لمن آمن به هدى لقلبه وشفاء لما في الصدور من الشكوك والريب، ( وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ ) أي:لا يفهمون ما فيه، ( وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ) أي:لا يهتدون إلى ما فيه من البيان كما قال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا [ الإسراء:82 ] .

( أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) قال مجاهد:يعني بعيد من قلوبهم.

قال ابن جرير:معناه:كأن من يخاطبهم يناديهم من مكان بعيد، لا يفهمون ما يقول .

قلت:وهذا كقوله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [ البقرة:171 ] .

وقال الضحاك:ينادون يوم القيامة بأشنع أسمائهم.

وقال السدي:كان عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه ] جالسا عند رجل من المسلمين يقضي، إذ قال:يا لبَّيكاه. فقال عمر:لِمَ تلبي؟ هل رأيت أحدا، أو دعاك أحد؟ قال:دعاني داع من وراء البحر. فقال عمر:أولئك ينادون من مكان بعيد. رواه ابن أبي حاتم.

وقوله: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ) أي:كُذِّبَ وَأُوذِيَ ، فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [ الأحقاف:35 ] . وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [ الشورى:14 ] بتأخير الحساب إلى يوم المعاد، ( لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) أي:لعجل لهم العذاب، بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا ( وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ) أي:وما كان تكذيبهم له عن بصيرة منهم لما قالوا، بل كانوا شاكين فيما قالوا ، غير محققين لشيء كانوا فيه. هكذا وجهه ابن جرير، وهو محتمل، والله أعلم.

مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ ( 46 )

يقول تعالى: ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ) أي:إنما يعود نفع ذلك على نفسه، ( وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ) أي:إنما يرجع وبال ذلك عليه، ( وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ ) أي:لا يعاقب أحدا إلا بذنب، ولا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه، وإرسال الرسول إليه.

 

إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ ( 47 ) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ( 48 )

ثم قال: ( إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ ) أي:لا يعلم ذلك أحد سواه، كما قال صلى الله عليه وسلم، وهو سيد البشر لجبريل وهو من سادات الملائكة - حين سأله عن الساعة، فقال: « ما المسئول عنها بأعلم من السائل » ، وكما قال تعالى: إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا [ النازعات:44 ] ، وقال لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ [ الأعراف:187 ] .

وقوله: ( وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ ) أي:الجميع بعلمه، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. وقد قال تعالى: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا [ الأنعام:59 ] ، وقال جلت عظمته: يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [ الرعد:8 ] ، وقال وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [ فاطر:11 ] .

وقوله: ( وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي ) أي:يوم القيامة ينادي الله المشركين على رءوس الخلائق:أين شركائي الذين عبدتموهم معي؟ ( قَالُوا آذَنَّاكَ ) أي:أعلمناك، ( مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ ) أي:ليس أحد منا اليوم يشهد أن معك شريكا.

( وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ ) أي:ذهبوا فلم ينفعوهم، ( وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ) أي:وظن المشركون يوم القيامة، وهذا بمعنى اليقين، ( مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ) أي:لا محيد لهم عن عذاب الله، كقوله تعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا [ الكهف:53 ] .

لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ ( 49 ) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ( 50 ) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ( 51 )

يقول تعالى:لا يَمَلّ الإنسان من دعائه ربّه بالخير - وهو:المال، وصحة الجسم، وغير ذلك- وإن مسه الشر - وهو البلاء أو الفقر- ( فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ ) أي:يقع في ذهنه أنه لا يتهيأ له بعد هذا خير.

( وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي ) أي:إذا أصابه خير ورزق بعد ما كان في شدة ليقولن:هذا لي، إني كنت أستحقه عند ربي، ( وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ) أي:يكفر بقيام الساعة، أي:لأجل أنه خُوِّل نعمة يفخر، ويبطر، ويكفر، كما قال تعالى: كَلا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [ العلق:6، 7 ] .

( وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى ) أي:ولئن كان ثَمّ معاد فليُحسنَنّ إلي ربي، كما أحسن إلي في هذه الدار، يتمنى على الله، عز وجل، مع إساءته العمل وعدم اليقين. قال تعالى: ( فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ) يتهدد تعالى من كان هذا عمله واعتقاده بالعقاب والنكال.

ثم قال: ( وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ ) أي:أعرض عن الطاعة، واستكبر عن الانقياد لأوامر الله، عز وجل، كقوله تعالى: فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ [ الذاريات:39 ] .

( وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ ) أي:الشدة، ( فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ) أي:يطيل المسألة في الشيء الواحد فالكلام العريض:ما طال لفظه وقل معناه، والوجيز:عكسه، وهو:ما قل ودل. وقد قال تعالى: وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ [ يونس:12 ] .

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ( 52 ) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( 53 ) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ ( 54 )

يقول تعالى:قل يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين بالقرآن: ( أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ ) هَذَا الْقُرْآنُ ( مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ ) أي:كيف تُرَون حالكم عند الذي أنـزله على رسوله؟ ولهذا قال: ( مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ) ؟ أي:في كفر وعناد ومشاقة للحق، ومَسْلَك بعيد من الهدى.

ثم قال: ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ) أي:سنظهر لهم دلالاتنا وحُجَجنا على كون القرآن حقا منـزلا من عند الله، عز وجل، على رسوله صلى الله عليه وسلم بدلائل خارجية ( فِي الآفَاقِ ) ، من الفتوحات وظهور الإسلام على الأقاليم وسائر الأديان.

قال مجاهد، والحسن، والسدي:ودلائل في أنفسهم، قالوا:وقعة بَدْر ، وفتح مكة، ونحو ذلك من الوقائع التي حَلّت بهم، نصر الله فيها محمدا وصحبه، وخذل فيها الباطل وحِزْبَه.

ويحتمل أن يكون المراد من ذلك ما الإنسان مركب منه وفيه وعليه من المواد والأخلاط والهيئات العجيبة، كما هو مبسوط في علم التشريح الدال على حكمة الصانع تبارك وتعالى. وكذلك ما هو مجبول عليه من الأخلاق المتباينة، من حسن وقبيح وبين ذلك، وما هو متصرف فيه تحت الأقدار التي لا يقدر بحوله، وقوته، وحِيَله، وحذره أن يجوزها، ولا يتعداها، كما أنشده ابن أبي الدنيا في كتابه « التفكر والاعتبار » ، عن شيخه أبي جعفر القرشي:

وَإذَا نَظَـــرْتَ تُريــدُ مُعْتَـــبَرا فَــانظُـرْ إليْــكَ فَفِيــكَ مُعْتَـبَرُ

أنــتَ الـذي يُمْسِـي وَيُصْبـحُ فـي الدنيــا وكُــلّ أمُـــوره عـبَـرُ

أنـتَ المصـرّفُ كــانَ فـي صِغَـرٍ ثُــمّ اســتَقَلَّ بِشَــخْصِكَ الكِــبَرُ

أنــتَ الـــذي تَنْعَــاه خـلْقَتُـه يَنْعــاه منــه الشَّـــعْرُ والبَشَـرُ

أنــتَ الــذي تُعْطَـى وَتُـسْـلَب لا يُنْجيــه مــن أنْ يُسْــلَبَ الحَـذَرُ

أنْــتَ الــذي لا شَـيءَ منْـه لَـهُ وَأحَــقُّ منـْــه بـِمَالــه القَـدَرُ

وقوله تعالى: ( حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ؟ أي:كفى بالله شهيدا على أفعال عباده وأقوالهم، وهو يشهد أن محمدًا صادق فيما أخبر به عنه، كما قال: لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ [ النساء:166 ] .

وقوله: ( أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ ) أي:في شك من قيام الساعة؛ ولهذا لا يتفكرون فيه، ولا يعملون له، ولا يحذرون منه، بل هو عندهم هَدَرٌ لا يعبئون به وهو واقع لا ريب فيه وكائن لا محالة.

قال ابن أبي الدنيا:حدثنا أحمد بن إبراهيم، حدثنا خلف بن تميم، حدثنا عبد الله بن محمد بن سعيد الأنصاري:أن عمر بن عبد العزيز صَعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:أما بعد، أيها الناس، فإني لم أجمعكم لأمر أحدثه فيكم، ولكن فكرت في هذا الأمر الذي أنتم إليه صائرون، فعلمت أن المصدق بهذا الأمر أحمق، والمكذب به هالك ثم نـزل.

ومعنى قوله، رضي الله عنه: « أن المصدق به أحمق » أي:لأنه لا يعمل له عمل مثله، ولا يحذر منه ولا يخاف من هوله، وهو مع ذلك مصدق به موقن بوقوعه، وهو مع ذلك يتمادى في لعبه وغفلته وشهواته وذنوبه، فهو أحمق بهذا الاعتبار، والأحمق في اللغة:ضعيف العقل.

وقوله: « والمكذب به هالك » هذا واضح، والله أعلم.

ثم قال تعالى - مقررا على أنه على كل شيء قدير، وبكل شيء محيط، وإقامة الساعة لديه يسير سهل عليه تبارك وتعالى- : ( أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ ) أي:المخلوقات كلها تحت قهره وفي قبضته، وتحت طي علمه، وهو المتصرف فيها كلها بحكمه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

[ آخر تفسير سورة فصلت ] .

 

أعلى