سورة الفجر
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالْفَجْرِ ( 1 )
وَلَيَالٍ عَشْرٍ ( 2 )
وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ( 3 )
( وَالْفَجْرِ
) أقسم الله عز وجل بالفجر، روى أبو صالح عن ابن عباس قال: هو
انفجار الصبح كل يوم وهو قول عكرمة، وقال عطية عنه: صلاة الفجر. وقال قتادة: هو
فجر أول يوم من المحرم، تنفجر منه السَّنة. وقال الضحاك: فجر ذي الحجة لأنه [
قرنت ] به الليالي العشر.
( وَلَيَالٍ
عَشْرٍ ) روي عن ابن عباس: أنها العشر الأوَل من ذي الحجة. وهو قول
مجاهد، وقتادة، والضحاك، والسدي، والكلبي.
وقال أبو روق عن الضحاك: هي
العشر [ الأواخر ] من شهر
رمضان.
وروى أبو ظبيان عن ابن عباس
قال: هي العشر [ الأوائل ] من شهر
رمضان.
وقال يمان بن رباب: هي العشر
الأول من المحرم التي عاشِرُها يوم عاشوراء .
(
وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ) قرأ حمزة، والكسائي: «
الوِتْر » بكسر الواو، وقرأ الآخرون بفتحها، واختلفوا في الشفع والوتر.
قيل: « الشفع: الخلق » ، قال
الله تعالى: وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا و «
الوَتْر » هو الله عز وجل. روي ذلك عن [ ابن
مسعود وعن ] أبي سعيد الخدري، وهو قول عطية العوفي.
وقال مجاهد ومسروق: « الشفع
» الخلق كله، كما قال الله تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ
خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ( الذاريات- 49 ) الكفر والإيمان،
والهدى والضلالة، والسعادة والشقاوة، والليل والنهار، والسماء والأرض، والبر
والبحر، والشمس والقمر، والجن والإنس، والوتر هو الله عز وجل، قال الله تعالى:
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( الإخلاص- 1 ) .
قال الحسن وابن زيد: « الشفع
والوتر » الخلق كله، منه شفع، ومنه وتر.
وروى قتادة عن الحسن قال: هو
العدد منه شفع ومنه وتر. وقال قتادة: هما الصلوات منها شفع ومنها وتر. وروى ذلك عن
عمران بن حصين مرفوعا، وروى عطية عن ابن عباس: الشفع صلاة الغداة، والوتر صلاة
المغرب.
وعن عبد الله بن الزبير قال: « الشفع
» يوم النفر الأول، و « الوتر
» يوم النفر الأخير. روي أن رجلا سأله عن الشفع والوتر
والليالي العشر؟ فقال: أما الشفع والوتر: فقول الله عز وجل: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي
يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ (
البقرة- 203 ) فهما الشفع والوتر، وأما الليالي العشر: فالثمان وعرفة
والنحر.
وقال مقاتل بن حيان: « الشفع
» الأيام والليالي، و « الوتر
» اليوم الذي لا ليلة بعده وهو يوم القيامة.
وقال الحسين بن الفضل: « الشفع
» درجات الجنة لأنها ثمان، و « الوتر
» دركات النار لأنها سبع، كأنه أقسم بالجنة والنار.
وسئل أبو بكر الوراق عن الشفع
والوتر فقال: « الشفع » تضاد [
أخلاق ] المخلوقين من العز والذل، والقدرة والعجز، والقوة والضعف،
والعلم والجهل، والبصر والعمى، و « الوتر
» انفراد صفات الله عِزٌ بلا ذُل، وقدرة بلا عجز، وقوة بلا
ضعف، وعلم بلا جهل، وحياة بلا ممات .
وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ( 4 ) هَلْ
فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ( 5 )
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ( 6 )
إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ( 7 )
(
وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ) أي إذا سار وذهب كما قال
تعالى وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (
المدثر- 33 ) وقال قتادة: إذا جاء وأقبل، وأراد كل ليلة.
وقال مجاهد وعكرمة والكلبي: هي
ليلة المزدلفة.
قرأ أهل الحجاز، والبصرة: « يسري » بالياء
في الوصل، ويقف ابن كثير ويعقوب بالياء أيضًا، والباقون يحذفونها في الحالين، فمن
حذف فلِوِفَاق رءوس الآي، ومن أثبت فلأنها لام الفعل، والفعل لا يحذف منه في
الوقف، نحو قوله: هو يقضي وأنا أقضي. وسئل الأخفش عن العلة في سقوط الياء؟ فقال:
الليل لا يسري، ولكن يسرى فيه، فهو مصروف، فلما صرفه بخسه حقه من الإعراب، كقوله:
وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ولم يقل: « بغية » لأنها
صرفت من باغية.
( هَلْ
فِي ذَلِكَ ) أي فيما ذكرت ( قَسَم
) أي: مقنع ومكتفى في القسم ( لِذِي
حِجْرٍ ) لذي عقل سمي بذلك لأنه يحجر صاحبه عمّا لا يحل ولا ينبغي، [ كما
يسمى عقلا لأنه يعقله عن القبائح، ونُهى لأنه ينهى عما لا ينبغي ] وأصل «
الحَجْر » المنع: وجواب القسم قوله: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ
واعترض بين القسم وجوابه قوله عز وجل: (
أَلَمْ تَرَ ) قال الفَّراء: ألم تُخْبرَ؟ وقال الزجاج: ألم تعلم؟ ومعناه
التعجب. ( كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَم ) يخوف
أهل مكة، يعني: كيف أهلكهم، وهم كانوا أطول أعمارًا وأشد قوة من هؤلاء. واختلفوا
في إرم ذات العماد، فقال سعيد بن المسيب: « إرم
ذات العماد » دمشق، وبه قال عكرمة.
وقال القرظي هي الإسكندرية،
وقال مجاهد: هي أمَّة. وقيل: معناها: القديمة.
وقال قتادة، ومقاتل: هم قبيلة
من عاد قال مقاتل: كان فيهم الملك، وكانوا [
بمَهَرَة ] وكان عاد أباهم، فنسبهم إليه، وهو إرم بن عاد بن إرم بن سام
بن نوح.
وقال محمد بن إسحاق: هو جد عاد،
وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح .
وقال الكلبي: « إرم » هو الذي
يجتمع إليه نسب عاد وثمود وأهل الجزيرة، كان يقال: عاد إرم، وثمود إرم، فأهلك الله
عادًا ثم ثمود، وبقي أهل السواد والجزيرة، وكانوا أهل عُمُدٍ وخيام وماشية سيارة
في الربيع، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم، وكانوا أهل جنان وزروع، ومنازلهم
بوادي القرى، وهي التي يقول الله فيها:
الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ
مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ ( 8 )
وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ( 9 )
وَفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتَادِ ( 10 )
(
الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ ) وسموا
ذات العماد [ لهذا ] لأنهم كانوا أهل عمد سيارة،
وهو قول قتادة ومجاهد والكلبي، ورواية عطاء عن ابن عباس، وقال بعضهم: سموا ذات
العماد لطول قامتهم. قال ابن عباس: يعني طولهم مثل العماد. وقال مقاتل: كان طول
أحدهم اثني عشر ذراعًا. وقوله ( لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي
الْبِلادِ ) أي لم يخلق مثل تلك القبيلة في الطول والقوة، وهم الذين
قالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً .
وقيل: سموا ذات العماد لبناء
بناه بعضهم فشيد [ عنده ] ورفع
بناءه، يقال: بناه شداد بن عاد على صفة لم يخلق في الدنيا مثله، وسار إليه في
قومه، فلما كان منه على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليه وعلى من معه صيحة من السماء
فأهلكتهم جميعا.
(
وَثَمُودَ ) أي: وبثمود، (
الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ ) قطعوا الحجر، واحدتها: صخرة،
( بِالْوَادِ ) يعني [
وادي القُرى ] كانوا يقطعون الجبال فيجعلون فيها بيوتًا. وأثبت ابن كثير
ويعقوب الياء في الوادي وصلا ووقفًا على الأصل، وأثبتها ورش وصلا والآخرون بحذفها
في الحالين على وفق رءوس الآي.
(
وَفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتَادِ ) سمي بذلك لأنه كان يعذب الناس
بالأوتاد، وقد ذكرناه في سورة ( ص ) .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي،
أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا مخلد بن جعفر، حدثنا الحسين
بن علويه، حدثنا إسماعيل بن عيسى، حدثنا إسحاق بن بشر عن ابن سمعان عن عطاء عن ابن
عباس: أن فرعون إنما سُمي « ذي الأوتاد » لأنه
كانت امرأة، وهي امرأة خازن فرعون حزبيل، وكان مؤمنًا كتم إيمانه مائة سنة، وكانت
امرأته ماشطة بنت فرعون، فبينما هي ذات يوم تمشط رأس بنت فرعون إذ سقط المشط من
يدها، فقالت: تعس مَنْ كفر بالله، فقالت بنت فرعون: وهل لك من إلهٍ غير أبي؟
فقالت: إلهي وإله أبيك وإله السماوات والأرض واحد لا شريك له، فقامت فدخلت على
أبيها وهي تبكي، فقال: ما يبكيك؟ قالت: الماشطة امرأة خازنك تزعم أن إلهك وإلهها
وإله السماوات والأرض واحد لا شريك له. فأرسل إليها فسألها عن ذلك، فقالت: صدقتْ،
فقال لها: ويحك اكفري بإلهك وأقري بأني إلهك، قالت: لا أفعل فمدَّها بين أربعة
أوتاد، ثم أرسل عليها الحيات والعقارب، وقال لها: اكفري بإلهك وإلا عذبتك بهذا
العذاب شهرين، فقالت له: ولو عذبتني سبعين شهرًا ما كفرت بالله. وكان لها ابنتان
فجاء بابنتها الكبرى فذبحها على قرب منها. وقال لها: اكفري بالله وإلا ذبحت الصغرى
على قلبك، وكانت رضيعًا، فقالت: لو ذبحت من على وجه الأرض على فيَّ ما كفرت بالله
عز وجل، فأتى بابنتها الصغرى فلما أضجعت على صدرها وأرادوا ذبحها جزعت المرأة،
فأطلق الله لسان ابنتها فتكلمت، وهي من الأربعة الذين تكلموا أطفالا وقالت: يا
أماه لا تجزعي فإن الله قد بنى لك بيتا في الجنة. اصبري فإنك تُفْضِين إلى رحمة
الله وكرامته، فذبحت فلم تلبث أن ماتت فأسكنها الله الجنة، قال: وبعث في طلب زوجها
حزبيل فلم يقدروا عليه، فقيل لفرعون: إنه قد رئي في موضع كذا وكذا في جبل كذا،
فبعث رجلين في طلبه فانتهيا إليه وهو يصلي ويليه صفوف من الوحوش خلفه يصلون، فلما
رأيا ذلك انصرفا، فقال حزبيل: اللهم إنك تعلم أني كتمت إيماني مائة سنة، ولم يظهر
عليَّ أحد، فأيما هذان الرجلين كتم علي فاهده إلى دينك وأعطه من الدنيا سُؤْله،
وأيما هذين الرجلين أظهر عليَّ فعجل عقوبته في الدنيا واجعل مصيره في الآخرة إلى
النار، فانصرف الرجلان إلى فرعون فأما أحدهما فاعتبر وآمن، وأما الآخر فأخبر فرعون
بالقصة على رءوس الملأ فقال له فرعون: وهل كان معك غيرك؟ قال: نعم فلان، فدعا به
فقال: أحق ما يقول هذا؟ قال: لا ما رأيت مما قال شيئا فأعطاه فرعون وأجزل، وأما
الآخر فقتله، ثم صلبه.
قال: وكان فرعون قد تزوج امرأة
من نساء بني إسرائيل يقال لها « آسية بنت مزاحم » فرأت ما
صنع فرعون بالماشطة، فقالت: وكيف يسعني أن أصبر على ما يأتي به فرعون، وأنا مسلمة
وهو كافر؟ فبينما هي كذلك تؤامر نفسها إذ دخل عليها فرعون فجلس قريبًا منها،
فقالت: يا فرعون أنت شرّ، الخلق وأخبثهم عمدت إلى الماشطة فقتلتها، قال: فلعل بك
الجنون الذي كان بها قالت: ما بي من جنون، وإن إلهي وإلهها وإلهك وإله السماوات
والأرض واحد لا شريك له، فمزق عليها ثيابها وضربها وأرسل إلى أبويها فدعاهما، فقال
لهما: ألا تريان أن الجنون الذي كان بالماشطة أصابها؟ قالت: أعوذ بالله من ذلك،
إني أشهد أن ربي وربَّك ورب السماوات والأرض واحدٌ لا شريك له، فقال لها أبوها: يا
آسية ألست من خير نساء [ العماليق ] وزوجك
إله العماليق؟ قالت أعوذ بالله من ذلك، إن كان ما يقول حقا فقولا له أن يتوجني
تاجًا تكون الشمس أمامه والقمر خلفه والكواكب حوله، فقال لهما فرعون: اخرجا عني،
فمدَّها بين أربعة أوتاد يعذبها، ففتح الله لها بابا إلى الجنة ليهون عليها ما
يصنع بها فرعون، فعند ذلك قالت: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ
وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (
التحريم- 11 ) فقبض الله روحها وأسكنها الجنة .
الَّذِينَ طَغَوْا فِي
الْبِلادِ ( 11 )
فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ( 12 )
فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ( 13 )
إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ( 14 )
(
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ ) يعني
عادا وثمود وفرعون، عملوا في الأرض بالمعاصي وتجبروا. (
فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ) قال
قتادة: يعني لونًا من العذاب صبه عليهم، قال أهل المعاني: هذا على الاستعارة، لأن
السوط عندهم غاية العذاب، فجرى ذلك لكل نوع من العذاب. وقال الزجاج: جعل سوطه الذي
ضربهم به العذاب.
( إِنَّ
رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ) قال ابن عباس: يعني بحيث يرى
ويسمع ويبصر.
قال الكلبي: عليه طريق العباد
لا يفوته أحد. قال مقاتل: ممر الناس عليه، والمرصاد، والمرصد: الطريق.
وقيل: مرجع الخلق إلى حكمه
وأمره وإليه مصيرهم.
وقال الحسن وعكرمة: يرصد أعمال بني
آدم.
والمعنى: أنه لا يفوته شيء من
أعمال العباد، كما لا يفوت من هو بالمرصاد.
وقال السدي: أرصد الله النار
على طريقهم حتى يهلكهم.
فَأَمَّا الإنْسَانُ إِذَا
مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ( 15 )
وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي
أَهَانَنِ ( 16 ) كَلا
بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ( 17 ) وَلا
تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ( 18 )
(
فَأَمَّا الإنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ ) امتحنه
( رَبُّهُ ) بالنعمة (
فَأَكْرَمَه ) بالمال ( وَنَعَّمَه ) بما
وسع عليه ( فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) بما
أعطاني.
(
وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ ) بالفقر (
فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ) قرأ أبو جعفر وابن عامر « فقدَّر
» بتشديد الدال، وقرأ الآخرون بالتخفيف، وهما لغتان، أي ضيق
عليه رزقه. وقيل: « قدر » بمعنى
قتر وأعطاه قدر ما يكفيه. ( فَيَقُول، رَبِّي أَهَانَنِ )
أذلَّني بالفقر. وهذا يعني به الكافر، تكون الكرامة والهوان عنده بكثرة المال
والحظ في الدنيا وقلَّتِه. قال الكلبي ومقاتل: نـزلت في أمية بن خلف الجمحي الكافر،
فردَّ الله على من ظن أن سعة الرزق إكرام وأن الفقر إهانة، فقال ( كَلا ) لم
أَبْتَلِه بالغنى لكرامته، ولم أبتله بالفقر لهوانه، فأخبر أن الإكرام والإهانة لا
تدور على المال وسعة الرزق، ولكن الفقر والغنى بتقديره، فيوسع على الكافر لا
لكرامته، ويقدر على المؤمن لا لهوانه، إنما يكرم المرء بطاعته ويهينه بمعصيته.
قرأ أهل الحجاز والبصرة « أكرمني
وأهانني » بإثبات الياء في الوصل، ويقف ابن كثير ويعقوب بالياء أيضا،
والآخرون يحذفونها وصلا ووقفًا.
( بَل
لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ) قرأ أهل البصرة: «
يكرمون، ويحضون، ويأكلون، ويحبون » بالياء
فيهن، وقرأ الآخرون بالتاء، « لا تكرمون اليتيم » لا
تحسنون إليه. وقيل: لا تعطونه حقه.
قال مقاتل: كان قدامة بن مظعون
يتيمًا في حجر أمية بن خلف وكان يدفعه عن حقه.
( وَلا
تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ) أي لا
تأمرون بإطعامه، وقرأ أبو جعفر وأهل الكوفة: «
تحاضُّون » بفتح الحاء وألف بعدها، أي لا يحض بعضكم بعضًا عليه .
وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ
أَكْلا لَمًّا ( 19 )
وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ( 20 ) كَلا
إِذَا دُكَّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا ( 21 )
وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ( 22 )
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ
الذِّكْرَى ( 23 )
( وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ ) أي
الميراث ( أَكْلا لَمًّا ) شديدًا
وهو أن يأكل نصيبه ونصيب غيره، وذلك أنهم كانوا لا يورثون النساء ولا الصبيان،
ويأكلون نصيبهم.
قال ابن زيد: الأكل اللَّمُ: الذي يأكل كل شيء يجده، لا يسأل
عنه أحلال هو أم حرام؟ ويأكل الذي له ولغيره، يقال: لممت ما على الخِوان إذا أتيت
ما عليه فأكلته.
( وَتُحِبُّونَ الْمَالَ
حُبًّا جَمًّا ) أي كثيرًا، يعني: تحبون جمع
المال وتولعون به، يقال: جم الماء في الحوض، إذا كثر واجتمع.
( كَلا ) ما
هكذا ينبغي أن يكون الأمر. وقال مقاتل: أي لا يفعلون ما أمروا به في اليتيم،
وإطعام المسكين، ثم أخبر عن تلهفهم على ما سلف منهم حين لا ينفعهم، فقال عز من
قائل: ( إِذَا دُكَّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا ) مرة
بعد مرة، وكسر كل شيء على ظهرها من جبل وبناء وشجر، فلم يبق على ظهرها شيء.
( وَجَاءَ رَبُّكَ ) قال
الحسن: جاء أمره وقضاؤه وقال الكلبي: ينـزل (
وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) قال عطاء: يريد صفوف
الملائكة، وأهل كل سماء صف على حدة. قال الضحاك: أهل كل سماء إذا نـزلوا يوم
القيامة كانوا صفًا مختلطين بالأرض ومن فيها فيكون سبع صفوف .
( وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ
بِجَهَنَّمَ ) قال عبد الله بن مسعود، ومقاتل في هذه الآية: [ جيء
بها تقاد بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يقودونها ] لها
تغيظ وزفير حتى تنصب على يسار العرش (
يَوْمَئِذٍ ) يعني يوم يجاء بجهنم (
يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ ) يتعظ ويتوب الكافر (
وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ) قال الزجاج: يظهر التوبة ومن
أين له التوبة؟
يَقُولُ يَا لَيْتَنِي
قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ( 24 )
فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ( 25 ) وَلا
يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ( 26 ) يَا
أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ( 27 )
ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ( 28 )
(
يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ) أي
قدمت الخير والعمل الصالح لحياتي في الآخرة، أي لآخرتي التي لا موت فيها.
( فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ
عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ) قرأ
الكسائي ويعقوب « لا يُعذَّب » « ولا
يُوثقَ » بفتح الذال والثاء على معنى لا يعذب أحدٌ [ في
الدنيا ] كعذاب الله يومئذ، ولا يوثق كوثاقه [ أحد
] يومئذ.
وقيل: هو رجل بعينه، وهو أمية
بن خلف، يعني لا يعذب كعذاب هذا الكافر أحد، ولا يوثق كوثاقه أحد.
وقرأ الآخرون بكسر الذال
والثاء، أي: لا يعذب أحد في الدنيا كعذاب الله الكافر يومئذ، ولا يوثق كوثاقه أحد،
يعني لا يبلغ أحد من الخلق كبلاغ الله في العذاب، والوثاق: هو الإسار في السلاسل
والأغلال.
قوله عز وجل: ( يَا
أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ) إلى ما
وعد الله عز وجل المصدقة بما قال الله. وقال مجاهد: «
المطمئنة » التي أيقنت أن الله تعالى ربها وصَبرت جأشًا لأمره وطاعته.
وقال الحسن: المؤمنة الموقنة، وقال
عطية: الراضية بقضاء الله تعالى. وقال الكلبي: الآمنة من عذاب الله.
وقيل: المطمئنة بذكر الله،
بيانه: قوله وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ .
واختلفوا في وقت هذه المقالة،
فقال قوم: يقال لها ذلك عند الموت فيقال لها: (
ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ ) إلى الله (
رَاضِيَة ) بالثواب ( مَرْضِيَّةً ) عنك.
وقال الحسن: إذا أراد الله
قبضها اطمأنت إلى الله ورضيت عن الله ورضي الله عنها.
قال عبد الله بن عمرو: إذا توفي
العبد المؤمن أرسل الله عز وجل ملكين إليه وأرسل إليه بتحفة من الجنة، فيقال لها: اخرجي
يا أيتها النفس المطمئنة، اخرجي إلى رَوْح وريحان وربك عنك راض، فتخرج كأطيب ريح
مسك وجده أحد في أنفه، والملائكة على أرجاء السماء يقولون: قد جاء من الأرض روح
طيبة ونسمة طيبة. فلا تمر بباب إلا فتح لها ولا بِمَلَك إلا صلَّى عليها، حتى يؤتى
بها الرحمن فتسجد، ثم يقال لميكائيل: اذهب بهذه فاجعلها مع أنفس المؤمنين، ثم يؤمر
فيوسع عليه قبره، سبعون ذراعًا عرضه، وسبعون ذراعًا طوله، وينبذ له فيه الريحان
فإن كان معه شيء من القرآن كفاه نوره.
وإن لم يكن جعل له نوره مثل
الشمس في قبره، ويكون مثله مثل العروس، ينام فلا يوقظه إلا أحب أهله إليه. وإذا
توفي الكافر أرسل الله إليه ملكين وأرسل قطعة من بجاد أنتن من كل نتن وأخشن من كل
خشن، فيقال: يا أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى جهنم وعذاب أليم وربك عليك غضبان .
وقال أبو صالح في قوله: « ارجعي
إلى ربك راضية مرضية » قال: هذا عند خروجها من
الدنيا، فإذا كان يوم القيامة قيل: « ادخلي
في عبادي وادخلي جنتي » .
وقال آخرون: إنما يقال لها ذلك
عند البعث يقال: ارجعي [ إلى ربك ] أي إلى
صاحبك وجسدك، فيأمر الله الأرواح أن ترجع إلى الأجساد، وهذا قول عكرمة، وعطاء،
والضحاك، ورواية العوفي عن ابن عباس.
وقال الحسن: معناه: ارجعي إلى
ثواب ربك وكرامته، راضيةً عن الله بما أعد لك، مرضيةً، رضي عنك ربك.
فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ( 29 )
(
فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ) أي مع عبادي في جنتي. وقيل:
في جملة عبادي الصالحين المطيعين المصطفين، نظيره: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي
عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ .
وَادْخُلِي جَنَّتِي ( 30 )
(
وَادْخُلِي جَنَّتِي ) وقال بعض أهل الإشارة: يا
أيتها النفس المطمئنة إلى الدنيا ارجعي إلى الله بتركها، والرجوع إلى الله هو سلوك
سبيل الآخرة.
وقال سعيد بن جبير: مات ابن
عباس رضي الله عنهما بالطائف فشهدت جنازته، فجاء طائر لم [ نر ] على
صورة خلقه فدخل نعشه، ثم لم [ نر ] خارجًا
منه، فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر، ولم ندر من قرأها: « يا
أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي وادخلي جنتي » .