تفسير القرطبي
تفسير الآية رقم 19 من سورة الحج
قوله تعالى : هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم
قوله تعالى : هذان خصمان اختصموا في ربهم خرج مسلم ، عن قيس بن عباد ، قال : سمعت أبا ذر يقسم قسما إن هذان خصمان اختصموا في ربهم إنها نزلت في الذين برزوا يوم بدر : حمزة ، وعلي ، وعبيدة بن الحارث - رضي الله عنهم - وعتبة ، وشيبة ابنا ربيعة ، والوليد بن عتبة . وبهذا الحديث ختم مسلم رحمه الله كتابه . وقال ابن عباس : ( نزلت هذه الآيات الثلاث على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة في ثلاثة نفر من المؤمنين وثلاثة نفر كافرين ) ، وسماهم ، كما ذكر أبو ذر . وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : ( إني لأول من يجثو للخصومة بين يدي الله يوم القيامة ؛ يريد قصته في مبارزته هو وصاحباه ) ؛ ذكره البخاري . وإلى هذا القول ذهب هلال بن يساف ، وعطاء بن يسار ، وغيرهما . وقال عكرمة : المراد بالخصمين الجنة والنار ؛ اختصمتا فقالت النار : خلقني لعقوبته . وقالت الجنة خلقني لرحمته .
قلت : وقد ورد بتخاصم الجنة والنار حديث عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : احتجت الجنة والنار ، فقالت هذه : يدخلني الجبارون والمتكبرون ، وقالت هذه : يدخلني الضعفاء والمساكين ، فقال الله تعالى : لهذه أنت عذابي أعذب بك من أشاء ، وقال لهذه : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء ، ولكل واحدة منكما ملؤها . خرجه البخاري ، ومسلم ، والترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح . وقال ابن عباس أيضا : هم أهل الكتاب قالوا للمؤمنين نحن أولى بالله منكم ، وأقدم منكم كتابا ، ونبينا قبل نبيكم . وقال المؤمنون : نحن أحق بالله منكم ، آمنا بمحمد ، وآمنا بنبيكم ، وبما أنزل إليه من كتاب ، وأنتم تعرفون نبينا ، وتركتموه ، وكفرتم به حسدا ؛ فكانت هذه خصومتهم ، وأنزلت فيهم هذه الآية . وهذا قول قتادة ، والقول الأول أصح رواه البخاري ، عن حجاج بن منهال ، عن هشيم ، عن أبي هاشم ، عن أبي مجلز ، عن قيس بن عباد ، عن أبي ذر . ومسلم ، عن عمرو بن زرارة ، عن هشيم ، ورواه سليمان التيمي ، عن أبي مجلز ، عن قيس بن عباد ، عن علي ، قال : فينا نزلت هذه الآية وفي مبارزتنا يوم بدر هذان خصمان اختصموا في ربهم إلى قوله عذاب الحريق . وقرأ ابن كثير ( هذان خصمان ) بتشديد النون من هذان . وتأول الفراء الخصمين على أنهما فريقان ، أهل دينين ، وزعم أن الخصم الواحد المسلمون ، والآخر اليهود ، والنصارى ، اختصموا في دين ربهم ؛ قال : فقال ( اختصموا ) لأنهم جمع ، قال : ولو قال اختصما لجاز . قال النحاس : وهذا تأويل من لا دراية له بالحديث ، ولا بكتب أهل التفسير ؛ لأن الحديث في هذه الآية مشهور ، رواه سفيان الثوري ، وغيره ، عن أبي هاشم ، عن أبي مجلز ، عن قيس بن عباد قال : سمعت أبا ذر يقسم قسما إن هذه الآية نزلت في حمزة ، وعلي ، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ، وعتبة ، وشيبة ابني ربيعة ، والوليد بن عتبة . وهكذا روى أبو عمرو بن العلاء ، عن مجاهد ، عن ابن عباس . وفيه قول رابع ( أنهم المؤمنون كلهم والكافرون كلهم من أي ملة كانوا ) ؛ قاله مجاهد ، والحسن ، وعطاء بن أبي رباح ، وعاصم بن أبي النجود ، والكلبي . وهذا القول بالعموم يجمع المنزل فيهم وغيرهم . وقيل : نزلت في الخصومة في البعث والجزاء ؛ إذ قال به قوم وأنكره قوم .
فالذين كفروا يعني من الفرق الذين تقدم ذكرهم . قطعت لهم ثياب من نار أي خيطت وسويت ؛ وشبهت النار بالثياب لأنها لباس لهم كالثياب . وقوله : ( قطعت ) أي تقطع لهم في الآخرة ثياب من نار ؛ وذكر بلفظ الماضي لأن ما كان من أخبار الآخرة فالموعود منه كالواقع المحقق ؛ قال الله تعالى : وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس أي يقول الله تعالى . ويحتمل أن يقال قد أعدت الآن تلك الثياب لهم ليلبسوها إذا صاروا إلى النار . وقال سعيد بن جبير : من نار من نحاس ؛ فتلك الثياب من نحاس قد أذيبت وهي السرابيل المذكورة في ( قطران ) وليس في الآنية شيء إذا حمي يكون أشد حرا منه . وقيل : المعنى أن النار قد أحاطت بهم كإحاطة الثياب المقطوعة إذا لبسوها عليهم ؛ فصارت من هذا الوجه ثيابا لأنها بالإحاطة كالثياب ؛ مثل ( وجعلنا الليل لباسا ) . يصب من فوق رءوسهم الحميم أي الماء الحار المغلى بنار جهنم . وروى الترمذي ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الحميم ليصب على رءوسهم فينفذ الحميم حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه ، وهو الصهر ، ثم يعاد كما كان . قال : حديث حسن صحيح غريب .