تفسير الطبري

تفسير الآية رقم 22 من سورة النساء

القول في تأويل قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلا (22)
قال أبو جعفر: قد ذكر أن هذه الآية نـزلت في قوم كانوا يَخْلُفُون على حلائل آبائهم، فجاء الإسلام وهم على ذلك، فحرّم الله تبارك وتعالى عليهم المُقام عليهن، وعفا لهم عما كان سلف منهم في جاهليتهم وشِرْكهم من فعل ذلك، لم يؤاخذهم به، إن هم اتقوا الله في إسلامهم وأطاعوه فيه.
ذكر الأخبار التي رويت في ذلك:
8938 - حدثني محمد بن عبد الله المخرميّ قال، حدثنا قراد قال، حدثنا ابن عيينة وعمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يحرِّمون ما يَحْرُم إلا امرأة الأب، والجمع بين الأختين. قال: فأنـزل الله: " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف " = وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ (19)
8939 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء " الآية، قال: كان أهل الجاهلية يحرّمون ما حرَّم الله، إلا أنّ الرجل كان يخلُف على حَلِيلة أبيه، ويجمعون بين الأختين، فمن ثَمَّ قال الله: " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ".
8940 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة في قوله: " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف "، قال: نـزلت في أبي قيس بن الأسلت، خلفَ على أمِّ عبيد بنت صخر، (20) كانت تحت الأسلت أبيه = وفي الأسود بن خلف، وكان خَلَف على بنت أبي طلحة بن عبد العُزّى بن عثمان بن عبد الدار، (21) وكانت عند أبيه خلف = وفي فاختة بنت الأسود بن المطلب بن أسَد، وكانت عند أمية بن خلف، فخلف عليها صفوان بن أمية = وفي منظور بن زبّان، (22) وكان خلف على مُليكةِ ابنة خارجة، وكانت عند أبيه زَبَّان بن سيّار. (23)
8941 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء بن أبي رباح: الرجل ينكح المرأة، ثم لا يراها حتى يُطلقها، أتحل لابنه؟ قال: هي مُرْسَلة، (24) قال الله تعالى: " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء ". قال: قلت لعطاء: ما قوله: " إلا ما قد سلف "؟ قال: كان الأبناء ينكحون نساء آبائهم في الجاهلية. (25)
8942 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء " الآية، يقول: كل امرأة تزوجها أبوك وابنك، دخل أو لم يدخل، فهي عليك حرام.
* * *
واختلف في معنى قوله: " إلا ما قد سلف ".
فقال بعضهم: معناه: لكن ما قد سلف فدعوه. وقالوا: هو من الاستثناء المنقطع.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تنكحوا نكاح آبائكم = بمعنى: ولا تنكحوا كنكاحهم، كما نكحوا على الوجوه الفاسدة التي لا يجوز مثلها في الإسلام =" إنه كان فاحشة ومقتًا وساء سبيلا "، يعني: أن نكاح آبائكم الذي كانوا ينكحونه في جاهليتهم، كان فاحشة ومقتًا وساء سبيلا - إلا ما قد سلف منكم في جاهليتكم من نكاح، لا يجوز ابتداء مثله في الإسلام، فإنه معفوٌّ لكم عنه.
وقالوا: قوله: " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء "، كقول القائل للرجل: " لا تفعل ما فعلتُ"، و " لا تأكل كما أكلت "، بمعنى: ولا تأكل كما أكلت، ولا تفعل كما فعلتُ.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء بالنكاح الجائز كان عقده بينهم، إلا ما قد سلف منهم من وجوه الزنا عندهم، فإنّ نكاحهن لكم حلال، لأنهن لم يكن لهم حلائل، وإنما كان ما كان من آبائكم ومنهن من ذلك، (26) فاحشة ومقتًا وساء سبيلا.
*ذكر من قال ذلك:
8943 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف " الآية، قال: الزنا =" إنه كان فاحشة ومقتًا وساء سبيلا " = فزاد ههنا " المقت ". (27)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، على ما قاله أهل التأويل في تأويله، أن يكون معناه: ولا تنكحوا من النساء نكاحَ آبائكم، إلا ما قد سلف منكم فَمَضى في الجاهلية، فإنه كان فاحشة ومقتًا وساء سبيلا = فيكون قوله: " من النساء " من صلة قوله: " ولا تنكحوا "، ويكون قوله: " ما نكح آباؤكم " بمعنى المصدر، ويكون قوله: " إلا ما قد سلف " بمعنى الاستثناء المنقطع، لأنه يحسن في موضعه: " لكن ما قد سلف فمضى " =" إنه كان فاحشة ومقتًا وساء سبيلا ".
* * *
فإن قال قائل: وكيف يكون هذا القول موافقًا قولَ من ذكرت قولَه من أهل التأويل، وقد علمتَ أن الذين ذكرتَ قولهم في ذلك، إنما قالوا: أنـزلت هذه الآية في النَّهي عن نكاح حلائل الآباء، وأنت تذكر أنهم إنما نهوا أن ينكحوا نكاحَهم؟
قيل له: إنما قلنا إن ذلك هو التأويل الموافق لظاهر التنـزيل، (28) إذ كانت " ما " في كلام العرب لغير بني آدم، وأنه لو كان المقصودَ بذلك النهيُ عن حلائل الآباء، دون سائر ما كان من مَناكح آبائِهم حرامًا ابتداءُ مثله في الإسلام بِنَهْي الله جل ثناؤه عنه، (29) لقيل: " ولا تنكحوا مَنْ نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف "، لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب، إذ كان " مَنْ" لبني آدم، و " ما " لغيرهم = ولم يُقَلْ: " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء ". (30) [وأما قوله تعالى ذكره: " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء "]، فإنه يدخل في" ما "، (31) ما كان من مناكح آبائهم التي كانوا يتناكحونها في جاهليتهم. فحرَّم عليهم في الإسلام بهذه الآية، نكاحَ حلائل الآباء وكلَّ نكاح سواه نهى الله تعالى ذكره [عن] ابتداء مثله في الإسلام، (32) مما كان أهل الجاهلية يتناكحونه في شِرْكهم.
* * *
ومعنى قوله: " إلا ما قد سلف "، إلا ما قد مضى (33) =" إنه كان فاحشة "، يقول: إن نكاحكم الذي سلف منكم كنكاح آبائكم المحرَّم عليكم ابتداءُ مثله في الإسلام بعد تحريمي ذلك عليكم =" فاحشة "، يقول: معصية (34) =" ومقتًا وساء سبيلا "، (35) أي: بئس طريقًا ومنهجًا، (36) ما كنتم تفعلون في جاهليتكم من المناكح التي كنتم تناكحونها. (37)
-----------------
الهوامش :
(19) الأثر: 8938 -"محمد بن عبد الله المخرمي" ، سلفت ترجمته برقم: 3730 ، 4929 ، 5447.
و"قراد" ، لقب ، وهو: "عبد الرحمن بن غزوان" ، سلفت ترجمته برقم: 555.
(20) في المخطوطة والمطبوعة: "بنت ضمرة" ، والصواب من المراجع فيها تخريج الأثر. وانظر التعليق على الأثر في آخره ، ففيه ذكر الاختلاف في اسمها.
(21) اسمها"حمينة بنت أبي طلحة" تصغير"حمنة" ، كما جاء في ترجمتها في المراجع.
(22) في المطبوعة: "رباب" في الموضعين ، وهي المخطوطة غير منقوطة ، وصوابه من المراجع بعد ، بالزاي المفتوحة ، وباء مشددة.
(23) الأثر: 8940 - روى ابن الأثير هذا الخبر ، في ترجمة أم عبيد بنت صخر ، ثم أشار إليها في تراجم أصحابها ، ونسب رواية الخبر إلى أبي موسى محمد بن أبي بكر بن أبي عيسى الأصفهاني ، في مستدركة على ابن منده. وأشار إليها أيضًا الحافظ ابن حجر في الإصابة ، في تراجم المذكورين في هذا الخبر.
هذا ، ومضى الخبر رقم: 8873 ، وفيه أن أبا قيس بن الأسلت جنح على كبيشة بنت معن بن عاصم امرأة أبيه ، فأخشى أن يكون الخبر السالف وهذا الخبر ، مجتمعين على أنه جنح على امرأتين من نساء أبيه ، كبيشة بنت معن ، وعلى أم عبيد بنت صخر. ولكن الواحدي في أسباب النزول: 109 قال إنها نزلت في حصن بن أبي قيس ، تزوج امرأة أبيه كبيشة بن معن ، وهو ما ذكره الثعلبي في تفسيره. ورواه الحافظ في الإصابة في ترجمة"قيس بن صيفي بن الأسلت" (5: 257) عن الفريابي وابن أبي حاتم من طريق عدي بن ثابت. ثم قال: "وفي سنده قيس بن الربيع ، عن أشعث بن سوار ، وهما ضعيفان. والخبر مع ذلك منقطع" وقال: "وقد تقدم في ترجمة حصن بن أبي قيس بن الأسلت أن القصة وقعت مع امرأة أبيه كبيشة بنت معن. هكذا سماها ابن الكلبي ، وخالفه مقاتل ، فجعل القصة لقيس. وعند أبي الفرج الأصفهاني (15: 154) ما يوهم أن قيسًا قتل في الجاهلية ، فإنه ذكر أن يزيد بن مرداس السلمي قتل قيس بن أبي قيس بن الأسلت في بعض حروبهم".
وهذا أمر يحتاج إلى تحقيق طويل كما ترى ، اكتفيت بهذه الإشارة إليه ، وقد مضى في التعليق على اسم"أم عبيد بنت صخر" ، أنه كان في المطبوعة والمخطوطة"أم عبيد بنت ضمرة" ، وقد تابعت ما جاء في ترجمتها في كتب التراجم ، واستأنست بتسمية أخيه: "جرول بن مالك بن عمرو بن عزيز" (جمهرة الأنساب: 315) وأم عبيد هي: (أم عبيد بنت صخر بن مالك بن عمرو بن عزيز" ، و"الجرول": الحجر يكون ملء كف الرجل ، فكأن أباه سماه جرولا ، وسمى أخاه صخرًا ، على عادة العرب في ذلك. والأنصار أيضًا ، يكثر في أنسابهم"صخر" ، ولم أجد منهم من تسمى"ضمرة" ، فلذلك رجحت ما أثبت. ولكن ابن كثير نقل هذا الأثر في تفسيره 2: 388 ، وفيه"أم عبيد الله بنت ضمرة" ، ولكن الثقة بنقل ابن كثير في مثل هذا غير صحيحة. أما الحافظ ابن حجر فقد ذكرها في ترجمة"قيس بن صيفي بن الأسلت" ، فنقل عن سيف من تفسيره ، وسماها"ضمرة أم عبيد الله" ، ثم ترجم"ضمرة زوج أبي قيس بن الأسلت" (الإصابة 8: 134) ، وقال: "ذكرها الطبري فيمن نزلت فيه: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء" ، وهذا خلط وعجب من العجب ، ولم أجد من ذكر"ضمرة" هذه ، ولا ذكرها الطبري كما سها الحافظ في ذكرها وإفراد ترجمتها ، وأخطأ. وهو من الأدلة على عجلة الحافظ في تأليفه كتاب الإصابة ، وصحة ما قيل من أنه لم يكن إلا مسودة لم يبيضها ، فيمحصها.
وهذا الاختلاف محتاج إلى إطالة ، اقتصرت منه على هذا القدر.
وأما "الأسود بن خلف" ، فهو"الأسود بن خلف بن أسعد بن عامر بن بياضة الخزاعي" ، وهو غير"الأسود بن خلف بن عبد يغوث" ، كما ذكره الحافظ في الإصابة ، وابن سعد 5: 339 فإن يكن ذلك ، فهو أخو"عبد الله بن خلف بن أسعد" والد"طلحة الطلحات". ولم أجد ابن حجر قد أشار في الإصابة إلى خبر خلفه على امرأة أبيه ، مع أنه ذكره في تراجم النساء المذكورات في الخبر ، وفي ترجمة امرأة أبيه"حمينة بنت أبي طلحة" ، وكذلك لم يذكره بتة ، ابن الأثير ، مع أنه ذكره في ترجمته"حمينة". وفي الإصابة وابن الأثير: "خلف بن أسد بن عاصم بن بياضة" ، وهو تصحيف ، بل هو"أسعد بن عامر".
وهذا أيضًا يحتاج إلى تحقيق أوفى ، ليس هذا مكانه. وأما خبر"منظور بن زبان بن سيار المازني" ، وفي شأن قصته اختلاف ذكره الحافظ ابن حجر في ترجمته وترجمة"مليكة" ، ورجح أن هذه القصة كانت على عهد عمر بن الخطاب ، وأن عمر فرق بينهما ، فاشتد ذلك عليه ، وكان يحبها ، فقال فيها شعرًا منه: لَعَمْــرُ أبِــي دِيـنٍ يُفَـرِّقُ بَيْننَـا
وَبيْنَــكِ قَسْــرًا، إِنّــهُ لَعَظِيــمُ
وقصته في الأغاني 12: 194 (دار الكتب)
(24) هكذا جاءت في المخطوطة والمطبوعة هنا ، وفي رقم: 8957 فيما يلي والدر المنثور ، 2: 134 ، "مرسلة" ، والذي جاء في كتب اللغة"امرأة مراسل" ، قالوا: هي التي فارقها زوجها بأي وجه كان ، مات أو طلقها. وقيل: هي التي يموت زوجها ، أو أحست منه أنه يريد تطليقها ، فهي تزين لآخر. وقيل: هي التي طلقت مرات. وقيل: هي التي تراسل الخطاب. وذلك كله قريب بعضه من بعض ، فإن المرأة إذا مات زوجها أو طلقها ، كانت خليقة أن تراسل الخطاب وتلتمس الطريق إلى زواج. وفي الحديث: "أن رجلا من الأنصار تزوج امرأة مراسلا يعني: ثيبًا = فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فهلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك!!" ، فقال أصحاب اللغة: "المراسل: التي قد أسنت وفيها بقية شباب". وكأن شرح هذا اللفظ يقتضي الجمع بين هذه الأقوال جميعًا فيقال: إنها التي قد فارقت الشباب فمات عنها زوجها أو طلقها ، فهي أحوج من ذات الشباب إلى طلب الزينة ومراسلة الخطاب ، لقلة رغبتهم فيها ، كرغبتهم في الأبكار الجميلات الشواب.
و أما في هذا الخبر ، فإن صح أن اللفظ"مرسلة" على الصواب ، كان تفسيره: أنها التي أرسلها زوجها ، أي أطلقها ، وإنما عنى به: البكر المطلقة التي تنزل في الحكم منزلة الثيب. وإن كان الصواب"هي مراسل" ، فينبغي أن يزاد في معنى"مراسل" أنها البكر التي طلقت ، فهي بمنزلة الثيب. وانظر الأثر التالي.
(25) سيأتي هذا الأثر برقم: 8957 ، مع اختلاف في لفظه ، انظر التعليق عليه هناك.
(26) في المطبوعة: "من آبائكم منهن" بإسقاط الواو ، وهو خطأ ، صوابه من المخطوطة.
(27) يعني بقوله: "زاد هاهنا" ، زاد على ما جاء في"سورة الإسراء: 32": { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا } .
(28) في المطبوعة والمخطوطة: "وإن قلنا إن ذلك هو التأويل" ، وهو كلام لا يستقيم مع الذي بعده ، والصواب الموافق للسياق هو ما أثبت.
(29) في المطبوعة: "... حرامًا ابتدئ مثله في الإسلام" ، ولم يحسن قراءة المخطوطة"ابتدا" فبدلها إلى ما أفسد الكلام إفسادًا.
(30) في المخطوطة والمطبوعة: "إذ كان من لبني آدم ، وما لغيرهم ولا تقل: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء" ، وهو كلام لا يستقيم البتة ، وصواب قوله"ولا تقل""ولم يقل" (بالبناء للمجهول) ، وهو معطوف على قوله آنفًا: "لقيل: ولا تنكحوا من نكح آباؤكم". واختلط على الناسخ تكرار الآية مرتين فسبق بصره ، فأسقط من الكلام ما أثبته بعد بين القوسين ، مما لا يتم الكلام ولا يستقيم إلا بإثباته ، واجتهدت فيه استظهارًا من كلامه وحجته ، كما ترى.
(31) في المخطوطة: "فإنه يدخل فيما كان من مناكح آبائهم" ، وهو سهو وخطأ من الناسخ لما اختلط عليه الكلام ، والصواب هو الذي استظهره ناشر المطبوعة الأولى ، كما أثبتها.
(32) ما بين القوسين زيادة لا بد منها ، ساقطة من المخطوطة والمطبوعة.
(33) انظر تفسير"سلف" فيما سلف 6: 14.
(34) انظر تفسير"فاحشة" فيما سلف: 115 تعليق: 2 والمراجع هناك.
(35) لم يفسر أبو جعفر هنا"المقت" في هذا الموضع ، ولا في سائر المواضع التي جاء فيها ذكر"المقت" ، إلا تضمينًا. و"المقت": أشد البغض ، ثم سمى هذا النكاح الذي كانوا يتناكحونه في الجاهلية"نكاح المقت" ، وسمي المولود عليه"المقتى" على النسبة.
(36) انظر تفسير"السبيل" فيما سلف: 37 ، تعليق: 6 ، والمراجع هناك. وأما "ساء" ، فإن أبا جعفر لم يبين معناها ، ولم يذكر أن أصحاب العربية يعدونها فعلا جامدًا يجري مجرى"نعم" و"بئس" ، وإن كان تفسيره قد تضمن ذلك. وهذا من الأدلة على أنه اختصر هذا التفسير في مواضع كثيرة.
(37) حجة أبي جعفر في هذا الموضع ، حجة رجل بصير عارف بالكلام ومنازله ، متمكن من أصول الاستنباط ، قادر على ضبط ما ينتشر من المعاني ، متابع لسياق الأحكام والأخبار في كتاب ربه ، خبير بما كان عليه العرب في جاهليتهم.
وقد رد العلماء على أبي جعفر قوله ، وقال بعضهم: هو قول غير وجيه. وذكروا أن"ما" تقع على أنواع من يعقل ، وإن كانت لا تقع على آحاد من يعقل ، عند من يذهب إلى المذهب. فجعلوا قول الطبري أن"ما" مصدرية باقية على معنى المصدر ، قولا ضعيفًا. بيد أن مذهب أبي جعفر صحيح مستقيم لا ينال منه احتجاجهم عليه. وإنما ساقهم إلى ذلك ، ترك أبي جعفر البيان عن حجته ، وأنا قائل في ذلك ما يشفي إن شاء الله.
وذلك أن الذين ردوا مقالة أبي جعفر ، أرادوا أن هذه الآية نص في تحريم نكاح حلائل الآباء وحده ، وكأنهم حسبوا أن لو جعلوا"ما" مصدرية ، لم يكن في الآيات نص صريح في تحريم حلائل الآباء غيرها. والصواب غير ذلك. فإن الله سبحانه وتعالى قد حرم نكاح حلائل الآباء الذي كان أهل الجاهلية يرتكبونه بقوله في الآية التاسعة عشرة من سورة النساء فيما مضى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا } وقال أبو جعفر في تفسيرها: "لا يحل لكم أن ترثوا نكاح نساء أقاربكم وآبائكم كرهًا" ، وساق هناك الآثار المبينة عن صورة نكاح حلائل الآباء والأقارب جميعًا. وهذا الذي ساق هناك فيه البيان عن صورة نكاح حلائل الآباء والأقارب بالوراثة ، كما كان أهل الجاهلية يعرفونه. فكانت هذه الآية نصًا قاطعًا بينًا في تحريم نكاح حلائل الآباء والأقارب بالوراثة ، كما عرفه أهل الجاهلية ، لأنهم لم يعرفوا نكاح حلائل الآباء إلا على هذه الصورة التي بينها الله في كتابه ، والتي أجمعت الأخبار على صفتها ، أن يخلف الرجل على امرأة أبيه.
وأنا أرجح أن الله تبارك وتعالى إنما قال: "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا" ، فذكر وراثتهن كرهًا ، ثم أتبع ذلك بالنهي عن عضل النساء عامة ، وبالبيان عن مقصدهم من عضل النساء ، وهو الذهاب ببعض ما أوتين من صدقاتهن = لأن أهل الجاهلية ، إنما تورطوا في نكاح حلائل الآباء ، لشيء واحد: هو أخذ ما آتاهن الآباء من المال ، ولئلا تذهب المرأة بما عندها من مال آبائهم ، فلذلك أتبعه بالنهي عن العضل عامة ، لأن فعلهم بحلائل آبائهم عضل أيضًا ، ومقصدهم منه هو مقصدهم من عضل نسائهم.
وأيضًا ، فإن أهل الجاهلية لم يرتكبوا نكاح العمات والخالات والأخوات ، كما سترى بعد ، بل استنكروه ، فاستنكارهم نكاح حلائل الآباء - وهن بمنزلة أمهاتهن في حياة آبائهن - كان خليقًا أن يكون من فعلهم وعادتهم ، ولكن حملهم حب المال على مخالفة ذلك.
ثم أتبع الله ذلك - كما قال أبو جعفر -"بالنهي عن مناكح آبائهم التي كانوا يتناكحوها في الجاهلية ، فحرم عليهم بهذه الآية نكاح حلائل الآباء وكل نكاح سواه ، نهى الله عن ابتداء مثله في الإسلام ، مما كان أهل الجاهلية يتناكحونه". وقد ذكرت عائشة رضي الله عنها في حديث البخاري (الفتح 9: 158) أن نكاح الجاهلية كان على أربعة أنحاء ، منها: "نكاح الناس اليوم" ، ثم عددت ضروب النكاح ووصفتها ، فأقر الإسلام منها نكاحًا واحدًا: يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته ، فيصدقها ، ثم ينكحها.
فهذه الآية مبطلة ضروب نكاح الجاهلية جميعًا ، ما كان منها نكاحًا فاسدًا ، كالاستبضاع ، ونكاح البغايا ، ونكاح البدل ، والشغار ، فكل ذلك كان: فاحشة ومقتًا وساء سبيلا ، كما تعرفه من صفته في حديث عائشة ، ويدخل فيه ، كما قال أبو جعفر ، نكاح حلائل الآباء.
ثم أتبع الله سبحانه وتعالى هذه الآية التي حرمت جميع نكاح الجاهلية ، آية أخرى حرمت كل نكاح كان معروفًا في الأمم الأخرى ، غير العرب ، أو في الملل الأخرى غير ملة الإسلام فقال: "حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم" إلى آخر الآية. والعرب لم تعرف قط نكاح الأمهات ، أو البنات أو الأخوات أو العمات أو الخالات ، بل كان ذلك في غيرهم كالمصريين واليهود وأشباههم ، ينكح الرجل أخته أو عمته أو خالته. ومن الدليل على أن العرب لم تعرف نكاح الأخوات ، ولا نكاح العمات أو الخالات ، أنهم كانوا في جاهليتهم ، يقسمون على طلاق نسائهم أو تحريمهن على أنفسهم ، أو هجرانهن ، بقولهم للزوجة: "أنت علي كظهر أختي ، أو كظهر عمتي ، أو كظهر خالتي" ، فكان ذلك عندهم تحريمًا على أنفسهم غشيان الزوجة. وهذا باب لم أجد أحدًا وفاه حقه ، فعسى أن أوفق في موضع آخر إلى استيعابه إن شاء الله. وهو باب مهم في تفسير هذه الآيات ، والله المستعان.
وإذن فهذه الآية الأخيرة ، غير خاصة في نكاح أهل الجاهلية ، بل هي تحريم لكل نكاح كرهه الله للمؤمنين ، مما كان عند الأمم قبلهم جائزًا أو مرتكبًا ، أو كان بعضه عندهم قليلا غير مشهور شهرة أنكحة الجاهلية التي ذكرها الله في وراثة حلائل الآباء والأقارب ، والتي ذكرتها عائشة في حديثها ، والتي جاء تحريمها عامًا في قوله: "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء" بمعنى"ما" المصدرية ، كما ذهب إليه أبو جعفر. وكتبه: محمود محمد شاكر.