تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 4 من سورة الإسراء
عطف على جملة { وآتينا موسى الكتاب } [ الإسراء : 2 ] ، أي آتينا موسى الكتاب هُدى ، وبينا لبني إسرائيل في الكتاب ما يحل بهم من جراء مخالفة هدي التوراة إعلاماً لهذه الأمة بأن الله لم يدخر أولئك إرشاداً ونصحاً ، فالمناسبة ظاهرة .
والقضاء بمعنى الحكم وهو التقدير ، ومعنى كونه في الكتاب أن القضاء ذكر في الكتاب ، وتعدية قضينا بحرف ( إلى ) لتضمين قضينا معنى ( أبلغنا ) ، أي قضينا وأنهينا ، كقوله تعالى : { وقضينا إليه ذلك الأمر } في سورة [ الحجر : 66 ]. فيجوز أن يكون المراد ب ( الكتاب ) كتاب التوراة والتعريف للعهد لأنه ذكر الكتاب آنفاً ، ويوجد في مواضع ، منها ما هو قريب مما في هذه الآية لكن بإجمال ( انظر الإصحاج 26 والإصحاح 28 والإصحاح 30 ) ، فيكون العدول عن الإضمار إلى إظهار لفظ ( الكتاب ) لمجرد الاهتمام .
ويجوز أن يكون الكتاب بعض كتبهم الدينية . فتعريف ( الكتاب ) تعريف الجنس وليس تعريف العهد الذكري ، إذ ليس هو الكتابَ المذكور آنفاً في قوله : { وآتينا موسى الكتاب } [ الإسراء : 2 ] لأنه لما أظهر اسم الكتاب أشعر بأنه كتاب آخر من كتبهم ، وهو الأسفار المسماة بكتب الأنبياء : أشعياء ، وأرميا ، وحزقيال ، ودانيال ، وهي في الدرجة الثانية من التوراة . وكذلك كتاب النبي مَلاَخي .
والإفساد مرتين ذكر في كتاب أشعياء وكتاب أرمياء .
ففي كتاب أشعياء نذارات في الإصحاح الخامس والعاشر . وأولى المرتين مذكورة في كتاب أرمياء في الإصحاح الثاني والإصحاح الحادي والعشرين وغيرهما . وليس المراد بلفظ الكتاب كتاباً واحداً فإن المفرد المعرف بلام الجنس يراد به المتعدد . وعن ابن عباس الكتاب أكثر من الكتب . ويجوز أن يراد بالكتاب التوراة وكتب الأنبياء ولذلك أيضاً وقع بالإظهار دون الإضمار .
وجملة { لتفسدن في الأرض مرتين } إلى قوله { حصيرا } مبيّنة لجملة { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب }. وأيّا مّا كان فضمائر الخطاب في هذه الجملة مانعة من أن يكون المراد بالكتاب في قوله تعالى : { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب } اللوح المحفوظ أو كتاب الله ، أي علمه .
وهذه الآية تشير إلى حوادث عظيمة بين بني إسرائيل وأعدائهم من أمتين عظيمتين : حوادث بينهم وبين البابليين ، وحوادث بينهم وبين الرومانيين . فانقسمت بهذا الاعتبار إلى نوعين : نوع منهما تنْدَرج فيه حوادثهم مع البابليين ، والنوع الآخر حوادثهم مع الرومانيين ، فعبر عن النوعين بمرتين لأن كل مرة منهما تحتوي على عدة ملاحم .
فالمرة الأولى هي مجموع حوادث متسلسلة تسمى في التاريخ بالأسر البابلي وهي غزوات ( بختنصر ) مَلِك بابل وأشور بلاَد أورشليم . والغزو الأول كان سنة 606 قبل المسيح ، أسَر جماعات كثيرة من اليهود ويسمى الأسر الأول . ثم غزاهم أيضاً غزواً يسمى الأسر الثاني ، وهو أعظم من الأول ، كان سنة 598 قبل المسيح ، وأسَرَ ملكَ يهوذا وجمعاً غفيراً من الإسرائيليين وأخذ الذهب الذي في هيكل سليمان وما فيه من الآنية النفيسة .
والأسر الثالث المُبير سنة 588 قبل المسيح غزاهم «بختنصر» وسبى كل شعب يهوذا ، وأحرق هيكل سليمان ، وبقيت أورشليم خراباً يباباً . ثم أعادوا تعميرها كما سيأتي عند قوله تعالى : { ثم رددنا لكم الكرة } [ الإسراء : 6 ].
وأما المرة الثانية فهي سلسلة غزوات الرومانيين بلادَ أورشليم . وسيأتي بيانها عند قوله تعالى : { فإذا جاء وعد الآخرة } [ الإسراء : 6 ] الآية .
وإسناد الإفساد إلى ضمير بني إسرائيل مفيد أنه إفساد من جمهورهم بحيث تعد الأمة كلُّها مُفسدة وإن كانت لا تخلو من صالحين .
والعلو في قوله : { ولتعلن علوا كبيراً } مجاز في الطغيان والعصيان كقوله : { إن فرعون علا في الأرض } [ القصص : 4 ] وقوله : { إنه كان عالياً من المسرفين } [ الدخان : 31 ] وقوله : { ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين } [ النمل : 31 ] تشبيهاً للتكبر والطغيان بالعلو على الشيء لامتلاكه تشبيه معقول بمحسوس .
وأصل { ولتعلن } لتعْلُوْونَنّ . وأصل { لتفسدن } لتفسدونن .