تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 48 من سورة مريم
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)
وجملة وأعتزلكم عطف على جملة سأستغفر لك ربي ، أي يقع الاستغفار في المستقبل ويقع اعتزالي إياكم الآن ، لأن المضارع غالب في الحال . أظهر إبراهيم العزم على اعتزالهم وأنه لا يتوانى في ذلك ولا يأسف له إذا كان في ذات الله تعالى ، وهو المحكي بقوله تعالى : { وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين } [ الصافات : 99 ] ، وقد خرج من بَلد الكلدان عازماً على الالتحاق بالشام حسب أمر الله تعالى .
رأى إبراهيم أن هجرانه أباه غير مغن ، لأن بقية القوم هم على رأي أبيه فرأى أن يهجرهم جميعاً ، ولذلك قال له { وأعتزلكم .
وضمير جماعة المخاطبين عائد إلى أبي إبراهيم وقومه تنزيلاً لهم منزلة الحضور في ذلك المجلس ، لأن أباه واحد منهم وأمرهم سواء ، أو كان هذا المقال جرى بمحضر جماعة منهم .
وعُطف على ضمير القوم أصنامُهم للإشارة إلى عداوته لتلك الأصنام إعلاناً بتغيير المنكر .
وعبر عن الأصنام بطريق الموصولية بقوله ما تدعون من دون الله للإيماء إلى وجه بناء الخبر وعلّة اعتزاله إياهم وأصنامَهم : بأن تلك الأصنام تعبد من دون الله وأن القوم يعبدونها ، فذلك وجه اعتزاله إياهم وأصنامهم .
والدعاء : العبادة ، لأنها تستلزم دعاء المعبود .
وزاد على الإعلان باعتزال أصنامهم الإعلان بأنه يدعو الله احتراساً من أن يحسبوا أنه نوى مجرد اعتزال عبادة أصنامهم فربما اقتنعوا بإمساكه عنهم ، ولذا بيّن لهم أنه بعكس ذلك يدعو الله الذي لا يعبدونه .
وعبّر عن الله بوصف الربوبية المضاف إلى ضمير نفسه للإشارة إلى انفراده من بينهم بعبادة الله تعالى فهو ربّه وحده من بينهم ، فالإضافة هنا تفيد معنى القصر الإضافي ، مع ما تتضمنه الإضافة من الاعتزاز بربوبية الله إياه والتشريف لنفسه بذلك .
وجملة وعسى ألا أكون بدعاء ربي شقياً في موضع الحال من ضمير وأدعوا أي راجياً أن لا أكون بدعاء ربي شقياً . وتقدم معناه عند قوله { ولم أكن بدعائك رب شقياً } في هذه السورة ( 4 ). وفي إعلانه هذا الرجاء بين ظهرانيهم تعريض بأنهم أشقياء بدعاء آلهتهم .