الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 1 من سورة يوسف
تعريف بسورة يوسف- عليه السلام-
1- سورة يوسف- عليه السلام- هي السورة الثانية عشرة في ترتيب المصحف، فقد سبقها في الترتيب سور: الفاتحة، والبقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة، ويونس وهود..
أما ترتيبها في النزول، فكانت السورة الثالثة والخمسين، وكان نزولها بعد سورة هود- عليه السلام-.
وعدد آياتها إحدى عشرة ومائة آية.
وجه تسميتها بهذا الاسم ظاهر، لأنها مشتملة على قصته- عليه السلام- مع إخوته، ومع امرأة العزيز، ومع ملك مصر في ذلك الوقت..
ولم يذكر اسم يوسف- عليه السلام- في غير هذه السورة سوى مرتين: إحداهما في سورة الأنعام في قوله- تعالى- وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا، وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ ... الآية 84.
والثانية في سورة غافر في قوله- تعالى- وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ ...
الآية 34.
والقول الصحيح أن سورة يوسف جميعها مكية، ولا التفات إلى قول من قال بأن فيها آيات مدنية، لأن هذا القول لا دليل عليه.
قال الآلوسى: سورة يوسف مكية كلها على المعتمد، وروى عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا: هي مكية إلا ثلاث آيات من أولها. واستثنى بعضهم رابعة وهي قوله- تعالى-:
لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ.
2- وكل ذلك واه جدا لا يلتفت إليه، وما اعتمدناه- كغيرنا- من أنها كلها مكية- هو الثابت عن الحبر أى عن ابن عباس»
3- وقد ورد في سبب نزولها روايات متعددة، منها ما روى عن سعد بن أبى وقاص أنه قال: أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاه على أصحابه زمانا، فقالوا: يا رسول الله، لو قصصت علينا فنزلت سورة يوسف ... » .
4- طبيعة الفترة التي نزلت فيها هذه السورة: قلنا إن سورة يوسف كان نزولها بعد سورة هود، وسبق أن بينا عند تفسيرنا لسورة هود، أن هذه السورة الكريمة كان نزولها- على الراجح- في الفترة التي أعقبت حادث الإسراء والمعراج..
ويبدو أن سورة يوسف- أيضا- كان نزولها في هذه الفترة، التي تعتبر من أشق الفترات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذ تعرض خلالها للكثير من أذى المشركين، بعد أن فقد صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة عمه أبا طالب، وزوجه السيدة خديجة- رضى الله عنها.
ونزول سورة يوسف في هذه الفترة، كان من أعظم المسليات التي واسى الله- تعالى- بها نبيه صلى الله عليه وسلم فقد أخبره عما دار بين يوسف وإخوته، وعما تعرض له هذا النبي الكريم من مصائب وأذى ...
ولا شك أن في قصة يوسف وما يشبهها، تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من قومه.
5- والذي يطالع هذه السورة الكريمة بتدبر وتأمل، يراها قد اشتملت على أوضح الدلائل، وأنصع البراهين، التي تشهد بأن هذا القرآن من عند الله ...
فقد قصت علينا قصة يوسف- عليه السلام- مع إخوته ومع غيرهم بأسلوب مشوق حكيم، يهدى النفوس، ويشرح الصدور، ويكشف عن الخفايا التي لا يعلمها أحد إلا الله- تعالى-، ويصور أحوال النفس الإنسانية تصويرا بديعا معجزا ...
كما يراها قد ساقت ما ساقت من حكم وأحكام، وعبر وعظات، بأسلوب يمتاز بحسن التقسيم، وجمال العرض، حتى إننا لنستطيع أن نقسم أهم الموضوعات التي تحدثت عنها إلى عشرة أقسام.
(أ) أما القسم الأول منها، فنراها تتحدث فيه عن جانب من فضائل القرآن الكريم، وعن رؤيا يوسف- عليه السلام- وعن نصيحة أبيه له بعد أن قصها عليه ...
قال- تعالى- الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ.
(ب) وفي القسم الثاني منها نراها تحدثنا عن مكر إخوة يوسف به، وحسدهم له، وتآمرهم على الانتقام منه وإجماعهم على أن يلقوا به في الجب، وتنفيذهم لذلك بعد خداعهم لأبيهم، وزعمهم له بأنهم سيحافظون على أخيهم يوسف ...
استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى كل ذلك بأسلوبه البديع المعجز فيقول: لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ، إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ. يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ.
إلى أن يقول- سبحانه-: وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ، قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ.
(ج) ثم نراها في القسم الثالث منها تحدثنا عن انتشال السيارة ليوسف من الجب، وعن بيعهم له بثمن بخس دراهم معدودة، وعن وصية من اشتراه لامرأته بإكرام مثواه، وعن محنته مع تلك المرأة التي راودته عن نفسه وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ وعن خروجه من هذه المحنة بريئا، نقى العرض، طاهر الذيل ... بعد أن شهد ببراءته شاهد من أهلها.
قال- تعالى-: وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ، قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ، وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً....
إلى أن يقول- سبحانه-: وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ، قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ....
ثم يختم- سبحانه- هذا القسم من السورة بحكاية ما قاله الزوج لامرأته وليوسف، بعد أن تبين له صدق يوسف وكذب امرأته فيقول: فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ.
(د) ثم تحدثنا السورة بعد ذلك في القسم الرابع منها عن شيوع خبر امرأة العزيز مع فتاها، وعما فعلته تلك المرأة مع من أشاع هذا الخبر، وعن لجوء يوسف- عليه السلام- الى ربه يستجير به من كيد هؤلاء النسوة ...
قال- تعالى- حاكيا هذا المشهد بأسلوب معجز: وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ، قَدْ شَغَفَها حُبًّا، إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ. فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ، وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ، وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ، وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ، وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ.
(هـ) ثم تحدثنا السورة الكريمة بعد ذلك في القسم الخامس منها، عن يوسف السجين المظلوم، وكيف أنه لم يمنعه السجن من دعوة رفاقه فيه إلى وحدانية الله، وإلى إخلاص العبادة له- سبحانه- ...
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.
(و) ثم تحدثنا السورة الكريمة في القسم السادس منها عن الرؤيا المفزعة التي رآها ملك مصر في ذلك الوقت، وكيف أن حاشيته عجزت عن تفسيرها، ولكن يوسف الصديق فسرها تفسيرا صحيحا أعجب الملك، وحمله على دعوته للالتقاء به، إلا أن يوسف- عليه السلام-
أبى الالتقاء به إلا بعد أن يحقق الملك في قضيته بنفسه، ويعلن براءته على رءوس الأشهاد ...
وبعد أن استجاب الملك لطلب يوسف، وثبتت براءته- عليه السلام- حضر معززا مكرما وقال للملك بعزة وإباء: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ.
استمع إلى السورة الكريمة وهي تحكى هذا المشهد بأسلوبها الزاخر بالمحاورات والمفاجآت، فتقول: وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ، وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ، يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ....
وينتهى هذا المشهد ببيان سنة من سنن الله- تعالى- التي لا تتخلف، والتي تتمثل في حسن عاقبة المؤمنين حيث يقول- سبحانه-: وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ، نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ.
(ز) ثم تنتقل السورة الكريمة في القسم السابع منها إلى الحديث عن اللقاء الأول الذي تم بين يوسف وإخوته، بعد أن حضروا من بلادهم بفلسطين إلى مصر يلتمسون الزاد والطعام ... وكيف أنه عرفهم دون أن يعرفوه.. وكيف أنه- عليه السلام- طلب منهم بعد أن أكرمهم أن يحضروا إليه من بلادهم ومعهم أخوهم من أبيهم- وهو شقيقه «بنيامين» .
وكيف أن أباهم وافق على إرسال «بنيامين» معهم بعد أن أخذ عليهم العهود والمواثيق لكي يحافظوا عليه..
استمع إلى السورة الكريمة وهي تحكى كل ذلك فتقول: وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ، أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ
لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ، فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ....
(ح) ثم حدثتنا السورة الكريمة في القسم الثامن منها عن اللقاء الثاني الذي تم بين يوسف وإخوته، بعد أن حضروا إليه في هذه المرة ومعهم «بنيامين» شقيق يوسف، وكيف قام يوسف بالتعرف عليه، ثم كيف احتجزه عنده بحيلة دبرها بإلهام من الله- تعالى- وكيف رد على إخوته الذين طلبوا منه أن يأخذ أحدهم مكان «بنيامين» ...
وماذا قال «يعقوب» - عليه السلام- بعد أن عاد إليه أبناؤه، وليس معهم «بنيامين» .
استمع الى السورة الكريمة وهي تحكى كل هذه المشاهد والأحداث فتقول:
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ، ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ، كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ، ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ، نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ....
وينتهى هذا القسم بقول يعقوب- عليه السلام- لأبنائه بعد أن عادوا إليه وليس معهم أخوهم بنيامين: قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ. قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ. يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ.
(ط) ثم حدثتنا السورة الكريمة بعد ذلك في القسم التاسع منها عن اللقاء الثالث والأخير بين يوسف وإخوته، فحكت لنا أن يوسف- عليه السلام- كشف لإخوته عن نفسه في هذا اللقاء. وأمرهم بأن يذهبوا بقميصه ليلقوا به على وجه أبيه ... كما أمرهم أن يعودوا إليه ومعهم جميع أهلهم.
كما حكت لنا لقاء يوسف بأبويه، وإكرامه لهما، وشكره لله- تعالى- على ما وهبه من نعم..
قال- تعالى- حاكيا ما دار بين يوسف وإخوته، وبين يوسف وأبيه في هذا اللقاء:
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ، فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً. وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ...
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ.
ثم ختم- سبحانه- قصة يوسف بهذا الدعاء الذي حكاه- سبحانه- عنه في قوله:
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ، فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ.
(ى) أما القسم العاشر والأخير من السورة الكريمة، فقد كان تعقيبا على ما جاء في تلك القصة من حكم وأحكام، ومن عبر وعظات، ومن آداب وهدايات ...
وقد بين- سبحانه- في هذا القسم ما يدل على أن القرآن من عند الله، وما يشهد بصدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه..
كما بين- سبحانه- وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم وموقف المشركين من دعوته وأنه صلى الله عليه وسلم ليس بدعا من الرسل وأن العاقبة ستكون له ولأتباعه المؤمنين.
قال تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ، وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ....
ثم يختتم- سبحانه- هذه السورة الكريمة بقوله: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
6- هذا عرض مجمل لأهم الموضوعات التي اشتملت عليها سورة يوسف- عليه السلام- ومن هذا العرض نرى أن السورة الكريمة قد اهتمت بأمور من أهمها ما يأتى:
(أ) إبراز الحقائق والهدايات، بأسلوب المحاورات والمجادلات والمناقشات ... ومن مظاهر ذلك:
المحاورات التي دارت حول إخوة يوسف في شأن الانتقام منه، والتي منها قوله- تعالى-: لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ، وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ.
والمحاورات التي دارت بينهم وبين أبيهم في شأن اصطحابهم ليوسف، والتي منها قوله- تعالى-: قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ.
والمحاورات التي دارت بين يوسف وإخوته، بعد أن عرفهم وهم له منكرون، وبعد أن ترددوا عليه ثلاث مرات للحصول على حاجتهم من الزاد ... والتي منها قوله- تعالى-:
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ، فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ. قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ، قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا، إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
وهكذا نجد السورة الكريمة زاخرة بأسلوب المحاورات والمناقشات والمجادلات. تارة بين يوسف وإخوته، وتارة بين إخوته فيما بينهم، وتارة بينهم وبين أبيهم، وتارة بين يوسف وامرأة العزيز، وتارة بينه وبين ملك مصر في ذلك الوقت.
وهذه المحاورات التي حفلت بها السورة الكريمة، قد أكسبتها لونا من العرض المشوق، الذي يجعل القارئ لها يتعجل حفظ كل موضوع من موضوعاتها، ليصل الى الموضوع الذي يليه.
وهذا الأسلوب في عرض الحقائق من أسمى الأساليب التي تعين القارئ على حفظ القرآن الكريم، وعلى تدبر معانيه، وعلى الانتفاع بهداياته..
(ب) إبرازها لجوهر الأحداث ولبابها.. أما تفاصيل هذه الأحداث. فتركت معرفتها لفهم القارئ وفطنته، وسلامة تفكيره، وحسن تدبره لكلام الله- تعالى-..
وهذا اللون من العرض للأحداث، يسمى في عرف البلغاء، بأسلوب الإيجاز بالحذف والقارئ لهذه السورة الكريمة بتدبر وتأمل، يراها على رأس السور القرآنية التي كثر فيها هذا الأسلوب البليغ.
فمثلا قوله- تعالى-: وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ، قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ... معطوف على كلام محذوف يفهم من السياق.
والتقدير: وبعد أن ألقى إخوة يوسف به في الجب وانصرفوا لشئونهم «جاءوا على قميصه بدم كذب» لكي يخدعوا أباهم، فلما أخبروه بأن الذئب قد أكله قال: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ....
وكذلك قوله- تعالى-: قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ... مترتب على كلام محذوف يفهم من سياق الآيات.
والتقدير: وبعد أن سمع ما قالته النسوة بشأنه عند ما دخل عليهن بأمر من امرأة العزيز، وسمع تهديد هذه المرأة له بقولها: قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ.
بعد أن سمع يوسف كل ذلك، وتيقن من مكرهن به، لجأ إلى ربه مستجيرا به من كيدهن فقال: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ....
وأيضا قوله- تعالى-: وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ.... يعتبر من بديع أسلوب الإيجاز بالحذف، إذ تقدير الكلام:
وبعد أن عجز الملأ عن تفسير رؤيا الملك، وقالوا له: إن رؤياك أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين، قال الذي نجا منهما، أى: من صاحبي يوسف في السجن وهو الساقي وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أى وتذكر بعد نسيان طويل أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ إلى من عنده تفسير هذه الرؤيا تفسيرا صحيحا- وهو يوسف- فاستجابوا له وأرسلوه إلى يوسف، فذهب إليه في السجن، فلما دخل عليه قال له: يا يوسف يا أيها الصديق، أفتنا في سبع بقرات سمان ... إلخ.
وهذا الأسلوب الذي زخرت به السورة الكريمة، وهو أسلوب الإيجاز بالحذف، من شأنه أنه ينشط العقول، ويبعثها على التأمل والتدبر فيما تقرؤه، ويعينها على الاتعاظ والاعتبار..
وهو أسلوب أيضا تقتضيه هذه السورة الكريمة، لأنها تتحدث عن قصة نبي من أنبياء الله- تعالى-. والحديث عن ذلك يستلزم إبراز جوهر الأحداث ولبابها، لا إبراز تفاصيلها وما لا فائدة من ذكره.
فاشتمال السورة الكريمة على هذا الأسلوب البليغ، هو من باب رعاية الكلام لمقتضى الحال، وهو أصل البلاغة وركنها الركين.
(ج) السورة الكريمة اهتمت اهتماما واضحا بشرح أحوال النفس البشرية وتحليل ما يصدر عنها في حال رضاها وغضبها، وفي حال صلاحها وانحرافها، وفي حال غناها وفقرها، وفي حال عسرها ويسرها، وفي حال صفائها وحقدها..
وقد حدثتنا عن الشخصيات التي وردت فيها حديثا صادقا أمينا، كشفت لنا فيه عن جوانب متعددة من أخلاقهم، وسلوكهم، وميولهم، وأفكارهم ... وأعطت كل واحد منهم حقه في الحديث عنه.
(ا) فيوسف- عليه السلام- وهو الشخصية الرئيسية في القصة- حدثتنا عنه حديثا مستفيضا نستطيع من خلاله، أن نرى له- عليه السلام- مناقب ومزايا متنوعة من أهمها ما يأتى:
1- امتلاكه لنفسه ولشهوته مهما كانت المغريات، بسبب خوفه لمقام ربه، ونهيه لنفسه عن الهوى ...
ولا أدل على ذلك من قوله- تعالى-: وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ، قالَ مَعاذَ اللَّهِ، إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ...
قال الشيخ القاسمى: قال الإمام ابن القيم ما ملخصه: «لقد كانت دواعي متعددة تدعو يوسف إلى الاستجابة لطلب امرأة العزيز منها: ما ركبه الله في طبع الرجل من ميله إلى المرأة ...
ومنها: أنه كان شابا غير متزوج.. ومنها: أنها كانت ذات منصب وجمال.. وأنها كانت غير آبية ولا ممتنعة ... بل هي التي طلبت وأرادت وبذلت الجهد..
ومنها: أنه كان في دارها وتحت سلطانها.. فلا يخشى أن تنم عليه..
ومنها: أنها استعانت عليه بأئمة المكر والاحتيال فأرته إياهن، وشكت حالها إليهن ...
ومنها: أنها توعدته بالسجن والصغار إن لم يفعل ما تأمره به..
ومنها: أن الزوج لم يظهر من الغيرة والقوة ما يجعله يفرق بينه وبينها ...
ومع كل هذه الدواعي، فقد آثر يوسف مرضاة الله ومراقبته، وحمله خوفه من خالقه على أن يختار السجن على ارتكاب ما يغضبه ... » .
2- صبره الجميل على المحن والبلايا، ولجوؤه إلى ربه ليستجير به من كيد امرأة العزيز وصواحبها: قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ ...
3- نشره للدين الحق، ودعوته لعبادة الله وحده، حتى وهو بين جدران السجن، فهو القائل لمن معه في السجن: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ، أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ....
4- حسن تدبيره للأمور، وتوصله إلى ما يريده بأحكم الأساليب، وحرصه الشديد على إنقاذ الأمة مما يضرها ويعرضها للهلاك، قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ...
5- عزة نفسه، وسمو خلقه، فقد أبى أن يذهب لمقابلة الملك إلا بعد إعلان براءته وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ، فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ...
6- تحدثه بنعمة الله، ومعرفته لنفسه قدرها، وطلبه المنصب الذي يناسبه، ويثق بقدرته على القيام بحقوقه قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ.
7- ذكاؤه وفطنته، فقد تعرف على إخوته مع طول فراقه لهم: وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ....
8- عفوه وصفحه عمن أساء إليه قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ...
9- وفاؤه لأسرته ولعشيرته اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ.
10- شكر الله- تعالى- على نعمه ومننه رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ.
هذا جانب من حديث السورة الكريمة عن يوسف- عليه السلام-، وهو حديث يدل على أنه كان في الذروة العليا من مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم..
(د) وتحدثت السورة الكريمة عن يعقوب- عليه السلام- فذكرت من بين ما ذكرت عنه، صفات الصبر الجميل، والأمل في رحمة الله مهما اشتدت الخطوب، والحرص على سلامة أبنائه من كل ما يؤذيهم حتى ولو أساءوا إليه، والنظر إلى الأمور بعين تختلف عن عيون أبنائه، والحكم عليها بحكم يختلف عن أحكامهم ...
يدل على ذلك قوله- تعالى- وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ.
وقوله- تعالى-: قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً....
وقوله- تعالى-: وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ....
وقوله- تعالى-: وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ. قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ. فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ.
(هـ) وتحدثت عن إخوة يوسف حديثا مستفيضا، تبدو فيه غيرتهم من يوسف، وحسدهم له، وتآمرهم على حياته، وحقدهم عليه حتى وهو بعيد عنهم ... ثم ندمهم في النهاية على ما فرط منهم في حقه بعد أن مكن الله له في الأرض ...
نرى ذلك في مثل قوله- تعالى-: اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ...
وفي قوله: قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ.
وفي قوله- سبحانه-: قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ....
وفي قوله- تعالى-: قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ.
(و) وتحدثت عن امرأة العزيز حديثا يكشف عن حال المرأة عند ما تحب.. وكيف أنها في سبيل الحصول على رغبتها تحطم كل الموانع النفسية والاجتماعية ... وتستخدم كل الوسائل التي تظن أنها ستوصلها إلى مرادها. حتى ولو كانت هذه الوسائل تخالف ما عرف عن المرأة من أنها حريصة على أن تكون مطلوبة من الرجل لا طالبة له..
(ز) وتحدثت عن العزيز حديثا قصيرا يناسب حجمه وسلوكه وتبلد شعوره، فهو مع إيقانه بخطإ امرأته لم يزد على أن قال ليوسف ولها يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ.
(ح) وتحدثت عن ملك مصر في ذلك الوقت ... وعن البيئة التي وصل الحال بها أن تزج بيوسف البريء في السجن، إرضاء لشهوات النفوس الجامحة ...
قال- تعالى-: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ.
وهكذا نجد السورة الكريمة تحدثنا عن نماذج من البشر، فتصف كل نموذج بما يناسبه من صفات، بصدق وأمانة، وتحكم عليه بالحكم الذي يناسبه.
قال صاحب الظلال ما ملخصه: والسورة كلها لحمة واحدة عليها الطابع المكي واضحا في موضوعها وفي جوها وفي ظلالها وإيحاءاتها، بل إن عليها طابع هذه الفترة الحرجة الموحشة بصفة خاصة ...
ففي الوقت الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعانى من الوحشة والغربة والانقطاع في جاهلية قريش- منذ عام الحزن- كان الله- تعالى- يقص عليه قصة أخ له كريم هو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وهو يعانى صنوفا من المحن والابتلاءات..
محنة كيد الإخوة، ومحنة الجب، ومحنة الرق، ومحنة كيد امرأة العزيز، ومحنة السجن، ثم محنة الرخاء والجاه والسلطان..
فلا عجب أن تكون هذه السورة بما احتوته من قصة ذلك النبي الكريم، ومن التعقيبات عليها بعد ذلك ... تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ولأصحابه عما أصابهم من أعدائهم، وتسرية لقلوبهم وتطمينا لنفوسهم.
ولكأن الله- تعالى- يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: كما أخرج يوسف من حضن أبيه ليواجه هذه الابتلاءات كلها، ثم لينتهى بعد ذلك إلى النصر والتمكين..
كذلك أنت يا محمد ستخرج من بلدك مكة مهاجرا ... ثم تعود إليها في الوقت الذي يشاؤه الله ظافرا منتصرا .
وبعد: فهذا تعريف لسورة يوسف، رأينا أن نسوقه قبل البدء في تفسيرها، لعله يعين على فهم ما اشتملت عليه من حكم وأحكام. ومن عبر وعظات..
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
افتتحت سورة يوسف- عليه السلام- ببعض الحروف المقطعة. وقد سبق أن تكلمنا عن آراء العلماء في هذه الحروف في سورة البقرة، وآل عمران، والأعراف، ويونس، وهود.
وقلنا ما ملخصه: لعل أقرب الأقوال إلى الصواب، أن هذه الحروف المقطعة، قد وردت في افتتاح بعض السور على سبيل الإيقاظ والتنبيه إلى إعجاز القرآن الكريم.
فكأن الله- تعالى- يقول لأولئك المعارضين في أن القرآن من عند الله- تعالى-: هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون منه كلامكم، ومنظوما من حروف هي من جنس الحروف الهجائية التي تنظمون منها حروفكم.. فإن كنتم في شك من كونه منزلا من عند الله فهاتوا مثله، وادعوا من شئتم من الخلق لكي يعاونكم في ذلك.
ومما يشهد لصحة هذا الرأى: أن الآيات التي تلى هذه الحروف المقطعة تراها تتحدث- صراحة أو ضمنا- عن القرآن الكريم وعن كونه من عند الله- تعالى- وعن كونه معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم ففي مطلع سورة البقرة: الم، ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ....
وفي مطلع سورة آل عمران: الم، اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ ...
وفي أول سورة الأعراف: المص. كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ ...
وفي أول سورة يونس: الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ. أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ....
وفي أول سورة هود: الر. كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ....
وهكذا نجد أن معظم الآيات التي تلى الحروف المقطعة، منها ما يتحدث عن أن هذا الكتاب من عند الله- سبحانه- ومنها ما يتحدث عن وحدانية الله- تعالى-، ومنها ما يتحدث عن صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته..
وهذا كله لتنبيه الغافلين إلى أن هذا القرآن من عند الله، وأنه المعجزة الخالدة للرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم قال- تعالى-: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ.
و «تلك» اسم إشارة، المشار إليه الآيات، والمراد بها آيات القرآن الكريم ويندرج فيها آيات السورة التي معنا.
والكتاب: مصدر كتب كالكتب. وأصل الكتب ضم أديم الى آخر بالخياطة. واستعمل عرفا في ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط، والمراد به القرآن الكريم.
والمبين: أى الواضح الظاهر من أبان بمعنى بان أى ظهر.
والمعنى: تلك الآيات التي نتلوها عليك- أيها الرسول الكريم- في هذه السورة وفي غيرها، هي آيات الكتاب الظاهر أمره، الواضح إعجازه، بحيث لا تشتبه على العقلاء حقائقه، ولا تلتبس عليهم هداياته.
وصحت الإشارة إلى آيات الكتاب الكريم، مع أنها لم تكن قد نزلت جميعها، لأن الإشارة إلى بعضها كالإشارة إلى جميعها، حيث كانت بصدد الإنزال، ولأن الله- تعالى- قد وعد رسوله صلى الله عليه وسلم بنزول القرآن عليه، كما في قوله إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ووعد الله- تعالى- لا يتخلف.