الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 58 من سورة مريم
واسم الإشارة في قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ... يعود إلى الأنبياء المذكورين في هذه السورة. وهم عشرة أولهم في الذكر زكريا وآخرهم إدريس.
قال القرطبي: «قوله- تعالى- أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ يريد إدريس وحده وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ يريد إبراهيم وحده وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ يريد إسماعيل وإسحاق ويعقوب وَمن ذرية إِسْرائِيلَ يريد موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى فكان لإدريس ونوح شرف القرب من آدم، ولإبراهيم شرف القرب من نوح، ولإسماعيل وإسحاق ويعقوب، شرف القرب من إبراهيم» .
وقوله: وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا معطوف على قوله مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ ومن للتبعيض.
أى: ومن جملة من أنعم الله عليهم، أولئك الذين هديناهم إلى طريق الحق واجتبيناهم واخترناهم لحمل رسالتنا ووحينا.
فأنت ترى أن الله- تعالى- قد جمع لهؤلاء المنعم عليهم جملة من المزايا منها: أعمالهم الصالحة، ومناقبهم الحميدة التي سبق الحديث عنها، ومنها: كونهم من نسل هؤلاء المصطفين الأخيار، ومنها أنهم ممن هداهم الله- تعالى- واصطفاهم لحمل رسالته.
وقد بين- سبحانه- في سورة النساء من أنعم عليهم بصورة أكثر شمولا فقال: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً .
وقوله- تعالى-: إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا بيان لرقة مشاعرهم، وشدة تأثرهم عند سماع آيات الله- تعالى-.
فالجملة الكريمة استئناف مسوق لبيان عظم خشيتهم من الله- تعالى- أو هي خبر لاسم الإشارة أُولئِكَ وسُجَّداً وَبُكِيًّا جمع ساجد وباك.
أى: أولئك الذين أنعم الله- تعالى- عليهم، من صفاتهم أنهم إذا تتلى عليهم آيات الرحمن، المتضمنة لتمجيده وتعظيمه وحججه.. خروا على جباههم ساجدين وباكين. وسقطوا خاضعين خاشعين خوفا ورجاء، وتعظيما وتمجيدا لله رب العالمين.
وجمع- سبحانه- بين السجود والبكاء بالنسبة لهم، للإشعار بأنهم مع تعظيمهم الشديد لمقام ربهم، فهم أصحاب قلوب رقيقة، وعواطف جياشة بالخوف من الله- تعالى-.
وفي معنى هذه الجملة الكريمة وردت آيات كثيرة، منه قوله- تعالى-: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً .
وقوله- سبحانه-: وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ، يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ .
فهذه الآيات الكريمة تدل على أن من صفات المؤمنين الصادقين، أنهم يتأثرون تأثرا عظيما عند سماعهم لكلام الله- تعالى-، تأثرا يجعلهم يبكون ويسجدون وتقشعر جلودهم، وتوجل قلوبهم، وتلين نفوسهم.
قال ابن كثير- رحمه الله-: قوله- تعالى-: إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا أى: إذا سمعوا كلام الله المتضمن حججه ودلائله وبراهينه سجدوا لربهم خضوعا واستكانة وشكرا على ما هم فيه من نعم.. فلهذا أجمع العلماء على شرعية السجود هاهنا اقتداء بهم، واتباعا لمنوالهم وقرأ عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- هذه الآية فسجد وقال: هذا السجود فأين البكاء» .