بينا نحن مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في سفرٍ ، إذ نَزَلْنَا منزلًا ، فمِنَّا مَن يَضْرِبُ خباءَه ، ومِنَّا مَن يَنْتَضَلُ ، ومِنَّا من هو في جَشْرَتِه
الحديث:
«بينا نحن مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في سفرٍ ، إذ نَزَلْنَا منزلًا ، فمِنَّا مَن يَضْرِبُ خباءَه ، ومِنَّا مَن يَنْتَضَلُ ، ومِنَّا من هو في جَشْرَتِه ، إذ نادى منادي النبيِّ صلى الله عليه وسلم : الصلاةُ جامعةٌ . فاجتَمَعْنا فقام النبيُّ صلى الله عليه وسلم فخَطَبَنَا فقال : إنه لم يَكُنْ نبيٌّ قبلي إلا كان حقًا عليه ، أن يدلَ أمتَه على ما يَعْلَمَه خيرًا لهم ، ويُنْذِرَهم ما يَعْلَمُه شرًا لهم ، وإن أمتَكم هذه جُعِلَتْ عافيتُها في أولِها ، وإن آخرَها سيُصِيبُهم بلاءٌ وأمورٌ يُنْكِرُونها ، تَجِيءُ فتنٌ فيُدَقِّقُ بعضُها لبعضٍ ، فتَجِيءُ الفتنةُ فيقولُ المؤمنُ : هذه مُهْلِكَتي . ثم تَنْكَشِفُ ، ثم تجيءُ فيقولُ : هذه مُهْلِكَتي . ثم تَنْكَشِفُ ، فمَن أحبَّ منكم أن يُزَحْزَحَ عن النارِ ، ويُدْخَلَ الجنةَ فلتُدْرِكْه موتَتُه ، وهو مؤمنٌ باللهِ واليومِ الآخرِ ، وليَأْتِ إلى الناسِ ما يُحِبُّ أن يُؤْتَى إليه ، ومَن بايع إمامًا فأعطاه صفقةَ يدِه ، وثمرةَ قلبِه ، فلْيُطِعْه ما استطاع ، فإن جاء أحدٌ يُنازِعُه فاضربوا رقبةَ الآخرِ، وذكر الحديث. »
[الراوي : عبدالله بن عمرو | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح النسائي الصفحة أو الرقم: 4202 | خلاصة حكم المحدث : صحيح]الشرح:
كان النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يجمَعُ لأصحابِه رضِيَ اللهُ عنهم المواعِظَ وجوامِعَ الوصايا؛ ولا ريبَ فقدْ أُوتِيَ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جوامعَ الكَلِمِ، وكان كثيرًا ما يُحذِّرُهم فِتَنَ آخِرِ الزَّمانِ، ويُعدِّدُها لهم.
وفي هذا الحديثِ يقولُ عبدُ اللهِ بنُ عمرٍو رضِيَ اللهُ عنه: “بيْنا نحنُ مع رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في سَفَرٍ، إذْ نزَلْنا منزِلًا”، أي: موضِعًا ومكانًا، “فمِنَّا مَن يَضرِبُ خِباءَه”، أي: ينصِبُ خَيمتَه وينشُرُها ويُجهِّزُها، “ومِنَّا مَن يَنتضِلُ”، أي: يَرمي بالسِّهامِ تدرُّبًا، “ومِنَّا مَن هو في جَشْرَتِه”، أي: في رِعايةِ الدَّوابِّ، بإخراجِها إلى المَرْعى، والجَشرُ هي الدَّوابُّ الَّتي تُرْعى، وتَبيتُ مكانَها، “إذ نادَى مُنادِي النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: الصَّلاةُ جامعةٌ”، كأنَّه قال: اجتَمِعوا للصَّلاةِ، وكأنَّه كان وقتَ صَلاةٍ، فلمَّا جاؤوا صَلَّوا معه، “فاجتَمَعْنا، فقام النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فخطَبَنا فقال: إنَّه”، أي: إنَّ الأمْرَ أو الشَّأنَ، “لم يكُنْ نَبيٌّ قبْلي إلَّا كان حقًّا عليه”، أي: واجبًا عليه؛ لأنَّ ذلك منْ طريقِ النَّصيحةِ والاجتهادِ في التَّبليغِ والبَيانِ، “أنْ يدُلَّ أُمَّتَه على ما يَعلَمُه خيرًا لهم”، أي: بما أعلَمَه اللهُ وعلَّمَه، “ويُنذِرَهم ما يَعلَمُه شَرًّا لهم، وإنَّ أُمَّتَكم هذه جُعِلَت عافيتُها في أوَّلِها”، أي: جُعِلَ خلاصُها وتماسُكها وقُوَّتُها عمَّا يضُرُّ في الدِّينِ في أوَّلِها، وقيل: يعني بأوَّلِ الأُمَّةِ زمانَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وزَمانَ الخُلفاءِ الثَّلاثةِ إلى قَتْلِ عُثمانَ؛ فهذه الأزمنةُ كانتْ أزمنةَ اتِّفاقِ هذه الأُمَّةِ، واستِقامةِ أمْرِها، وعافيةِ دِينِها، فلمَّا قُتِلَ عُثمانُ رضِيَ اللهُ تعالى عنه ماجَتِ الفِتنُ كموجِ البحرِ، وتتابَعَت كقطَعِ اللَّيلِ المُظلِمِ، ثمَّ لم تزَلْ، ولا تزالُ مُتواليةً إلى يَومِ القِيامةِ.
قال: “وإنَّ آخِرَها سيُصيبُهم بَلاءٌ وأُمورٌ تُنكِرونها”، أي: سيظهَرُ فيهم أُمورٌ مُستحدثَةٌ لو رأيتُموها لأنْكَرتموها، والخِطابُ لأصحابِه؛ فدَلَّ على أنَّ منهم منْ يُدرِكُ أوَّلَ ما سمَّاهُ آخِرًا، ولعلَّ بِدايةَ ذلك الفِتنةُ في زمنِ عُثمانَ بنِ عفَّانَ رضِيَ اللهُ عنه، “تَجيءُ فِتنٌ، فيُدقِّقُ بعضُها لبعضٍ”، أي: يجعَلُ بعضُها بعضًا دقيقًا وخفيفًا، فكأنَّ كلَّ فِتنةٍ تكونُ أصعَبَ ممَّا قبْلَها، حتَّى يَرى النَّاسُ الفتنةَ الأُولى أنَّها خَفيفةٌ بالنِّسبةِ للَّتي بعدها. وهذه اللَّفظةُ رُوِيت على أوجُهٍ أُخرى غيرِ ما سبَقَ، وفُسِّرَت بتفسيراتٍ مُتعدِّدةٍ: أحدِها: “يُرَقِّق”، أي: يَصِيرُ بعضُها رقيقًا، أي: خفيفًا؛ لعِظَمِ ما بعدَه، فالثَّاني يجعَلُ الأوَّلَ رقيقًا، وقيل: معناه: يُشبِهُ بعضُها بعضًا، وقيل: يدورُ بعضُها في بعضٍ، ويذهَبُ ويَجيءُ، وقيل: معناه: يسوقُ بعضُها إلى بعضٍ بتحسينِها وتَسويلِها. والوجْهُ الثَّاني: “فيَرْفُقُ”، والثَّالثُ: “فيَدْفِقُ”، أي: يدفَعُ، ويصُبُّ، والدَّفقُ: الصَّبُّ.
“فتَجيءُ الفِتنةُ، فيقولُ المُؤمِنُ: هذه مُهْلِكتي”، أي: هذه الفتنةُ مَحلُّ هَلاكي، أو زَمانُه، “ثمَّ تنكشِفُ”، أي: تزولُ تلك الفتنةُ عنه، “ثمَّ تَجيءُ”، أي: فِتنةٌ أُخرى، “فيقولُ: هذه مُهْلِكتي، ثمَّ تنكشِفُ، فمَن أحَبَّ منكم أنْ يُزحزَحَ عن النَّارِ”، أي: لا يَرْجو دُخولَها، “ويدخُلَ الجنَّةَ”، أي: وأرادَ أنْ يُدخِلَه اللهُ الجنَّةَ، “فلْتُدْرِكُه موتتُه وهو مُؤمِنٌ باللهِ واليومِ الآخِرِ، ولْيأْتِ إلى النَّاسِ ما يحِبُّ أنْ يُؤتَى إليه”، أي: فلْيُؤدِّ إليهم، ويفعَلْ بهم ما يُحِبُّ أنْ يُفعَلَ به من الخيرِ، ولْيَأتِ إلى النَّاسِ بحُقوقِهم من النُّصحِ والنِّيَّةِ الحَسنةِ بمثْلِ الَّذي يُحِبُّ أنْ يُجاءَ إليه به، وقيل: المقصودُ بالنَّاسِ هنا: الأئمَّةُ والأُمراءُ، فيجِبُ عليه لهم من السَّمعِ والطَّاعةِ والنُّصرةِ والنَّصيحةِ، مثلُ ما لو كان هو الأميرَ لكان يُحِبُّ أنْ يُجاءَ له به.
“ومَن بايَعَ إمامًا، فأعطاهُ صَفقةَ يَدِه”، أي: صافحَه بيَدِه وبايعَه، وسُمِّيت بالصَّفقةِ لأنَّها تُعقَدُ باليدِ، “وثَمرةَ قلْبِه”، أي: وعقَدَ له البيعةَ بقلْبِه صادقًا ومُخلِصًا لها، “فلْيُطِعْه ما استطاعَ”، أي: ما استَطاع وقدَرَ على طاعتِه في المعروفِ؛ إذْ لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالقِ، “فإنْ جاء أحدٌ يُنازِعُه فاضْرِبوا رقبةَ الآخرِ”، والمعنى: أنَّ الإمامَ إذا بايعَه النَّاسُ ورَضُوا به، ثمَّ جاء آخرُ يُنازِعُه في الحكمِ، فادْفَعوا الثَّانيَ؛ فإنَّه خارجٌ على الإمامِ، فإنْ لم يندفِعْ إلَّا بحرْبٍ وقتالٍ، فقاتِلُوه، فإنْ دعَتِ المُقاتَلةُ إلى قتْلِه، جاز قتْلُه، ولا ضمانَ فيه؛ لأنَّه ظالمٌ مُعتدٍ في قتالِه.
قال: “وذكَرَ الحديثَ”، وباقي الحديثِ عندَ مُسلمٍ، وفيه: أنَّ عبدَ الرَّحمنِ بنَ عبْدِ ربِّ الكعبةِ، راوي الحديثِ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما، قال: فدنَوْتُ منه، فقلْتُ له: أنشدُكَ اللهَ، آنتَ سمِعْتَ هذا من رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ فأهوى إلى أُذُنيْه وقلْبِه بيدَيْه، وقال: سمِعَتْه أُذنايَ، ووعاهُ قلْبي، فقلْتُ له: هذا ابنُ عمِّك مُعاويةُ يأمُرُنا أنْ نأكُلَ أموالَنا بيننا بالباطلِ، ونقتُلَ أنفُسَنا، واللهُ يقولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]؟ قال: فسكَتَ ساعةً، ثمَّ قال: أطِعْه في طاعةِ اللهِ، واعْصِه في معصيةِ اللهِ”.
وفي الحديثِ: بَيانُ لُزومِ الطَّاعةِ للحُكَّامِ الَّذين تمَّتْ لهم البيعةُ ومُعاونتِهم في طاعةِ اللهِ.
وفيه: بَيانُ ما أوجَبَ اللهُ تعالى على أنبيائِه تُجاهَ أُمَمِهم، وهو إخلاصُ النَّصيحةِ لهم.
وفيه: بَيانُ كَمالِ شَفقةِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على أُمَّتِه ببَيانِ الخيرِ والشَّرِّ لها.
وفيه: أنَّ سَببَ النَّجاةِ من النَّارِ ودُخولِ الجنَّةِ التَّمسُّكُ بالإيمانِ باللهِ وباليومِ الآخرِ، إلى أنْ يأتِيَه الأجلُ.
الدرر السنية
Source link