إن الصائم يعلم أن عليه محاسِبًا سيحاسبه على المخالفات، أو يجازيه على الطاعات؛ فقائده ومعلمه، ومرشده وهاديه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم..
إن الصائم يعلم ويؤمن أن له قائدًا يقوده، ويطيع أوامره، ومُعلِّمًا يمتثل تعليماته، ويعلم أن عليه مراقبًا يراقب تحركاته وسكناته، فيسجلها عليه، ويعلم أيضًا أن عليه محاسِبًا سيحاسبه على المخالفات، أو يجازيه على الطاعات؛ فقائده ومعلمه، ومرشده وهاديه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7].
والصائم يؤمن بأن مراقبه هما الْمَلَكان الكاتبان، اللذان يكتبان عليه أفعاله: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].
ويؤمن أن المحاسِب المجازي هو الله جل جلاله؛ قال سبحانه: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [إبراهيم: 51].
لذلك مَنَعَ الصائم نفسه عن الشهوات؛ من طعام وشراب وجماع، ونحو ذلك من المفطِرات، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس؛ طاعةً لله سبحانه، دون أن يرى بعينيه أيَّ رقيب، أو يلمس بحواسه أيَّ حسيب.
فالصائم الحقيقي يترك الفحش من الكلام في الصيام؛ خشية بطلان عبادته، وطاعته لله ورسوله؛ ممتثلًا قولَ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لكل مسلم عمومًا، والصائم خصوصًا؛ فقال: «فلا يرفُث ولا يجهل»؛ ((خ) (1894)، (م) 160- (1151)).
فلا يرفث؛ أي: لا يتكلم كلامًا فاحشًا أثناء صيامه، فلا يذكر مقدمات الجماع، وما فيه فحش؛ من كذب، وغِيبة، ونميمة.
والصائم الحقيقي لا يجهل على غيره، ولا يفعل شيئًا من أفعال أهل الجهل؛ كالصياح والطيش والسَّفَه، ونحو ذلك.
والصائم الحقيقي لا يصخب؛ أي: لا يرفع صوته على من يخاطبه، ولا يُحدِث ضجةً، ولا اضطراب الأصوات للخصام؛ (النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 14)).
فلا صياح ولا جَلَبة ولا خصومة؛ ممتثلًا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فلا يرفث ولا يصخب…»؛ ((خ) (1904)، (م) 163 – (1151)).
والصائم الحقيقي لا يفسق؛ أي: لا يخرج عن أدبه وأخلاقه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «فلا يرفث، ولا يفسق…»؛ ((حم) (8674)).
وأصل الفسوق: الخروج عن الاستقامة، والجَور، وبه سُمِّيَ العاصي فاسقًا؛ (النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 446))؛ لأنه عصى الله عز وجل.
والصائم الحقيقي لا يسب أحدًا، فالسب نوع من الشتم، وفيه احتقار للآخرين، وذكر عيوبهم، الصائم لا يفعل ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تُسابَّ وأنت صائم…»؛ ((حم) (9532)، (خز) (1994)، قال الأعظمي: إسناده صحيح (حب) (3483)).
ولقوله صلى الله عليه وسلم: «فلا يرفث، ولا يجهل، ولا يؤذي أحدًا…»؛ ((حم) (10635)).
فالصائم لا يؤذي أحدًا من خلق الله جل جلاله.
والصائم الحقيقي يجتنب اللغو؛ وهو سَقْطُ الكلام، والقول الباطل؛ امتثالًا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث…»؛ ((خز) (1996)، قال الأعظمي: إسناده صحيح، (حب) (3479)).
والصائم الحقيقي يتأثر في سلوكه بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يفعل إن اعتُدِيَ عليه بالألفاظ فسُبَّ هو أو شُتِم، أو لُعِن، فلا يَرُدَّ عندما يُشتَم ويُسب؛ ممتثلًا أمر النبي صلى الله عليه وسلم القائل: «… إن قاتله أحدٌ أو شتمه أحد، فلا يكلمه…»؛ (المعجم الأوسط للطبراني (9/ 30)، ح (9042)).
فلا يشتم من شتمه، ولا يسب من سبه؛ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: «… وإنِ امْرُؤٌ جهِل عليه؛ فلا يشتمه ولا يسُبَّه»؛ (رواه النسائي (2234)).
بل يتذكر صومه عند ذلك، فعندما يُسَب ويُشتَم، يتكلم بما علِم وتعلَّم، ويقول مذكرًا نفسه: (إني صائم)؛ ويتذكر أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: «الصيام جُنَّة، فلا يرفُث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه، فليقل: إني صائم» ؛ مرتين))؛ ((خ) (1894))، كرِّرها – يا أخي – مرتين أو ثلاثًا، يذهب ما عندك من غضب إن شاء الله، وقوله: «فليقل: إني صائم»؛ قال الفيروزآبادي: “للعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال:
قال بعضهم: السُّنَّة أن يقول في جوابه هذا اللفظ بلسانه – يُسمِع نفسه ويُسمِع من أغضبه وشتمه وسبه، يقول له: إني صائم – وذا أظهر الأقوال.
وقال بعضهم: يقول بقلبه، ويذكِّر نفسه أنه صائم؛ لئلا يشتغل بالجواب.
وقال بعضهم: إن كان صومه فرضًا يقول بلسانه، ويُسمِع غيره، وإن كان سنةً يقول بقلبه؛ ليكون أبعدَ عن الرياء“؛ (سفر السعادة للفيروزآبادي (ص131)).
هذه أقوال العلماء في معنى: إني صائم، والأولَى أن يقولها في قلبه وبلسانه ويُسمِع غيره.
لقد أثَّرت في الصائمين حقًّا، من صام حقًّا أثَّرت فيه عبادة الصوم، فهم يغتنمون الفرص كلما سنحت، فلا يُضيِّعون شهرًا – كرمضان – فيَدَعُونه يذهب كبقية الشهور، بل إن كانوا يعبدون الله كل الشهور، فإنهم في رمضان يضاعفون عباداتهم وطاعاتهم، ويزيدون في اجتهادهم، خاصة في العشر الأواخر؛ حيث يقتدون برسول الله صلى الله عليه وسلم كما قالت عائشة رضي الله عنها: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر، أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجدَّ، وشدَّ الْمِئْزَر))؛ ((خ) (2024)، (م) 7- (1174)، واللفظ لمسلم).
فالصائم الحقيقي يعلم أن هذا الشهر هو شهر القرآن؛ فيتلو كتاب الله عز وجل في صلاة القيام وفي غيرها.
الصائم الحقيقي يصلي صلاة القيام في هذا الشهر جماعاتٍ أو فُرادى؛ رجاءَ أن يكون ممن قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا؛ غُفِر له ما تقدم من ذنبه»؛ (رواه البخاري).
الصائم الحقيقي تراه في هذا الشهر يزيد من إنفاقه في سبيل الله عز وجل، مقتديًا بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد ((كان أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيُدارِسه القرآن، فلَرسولُ الله صلى الله عليه وسلم أجودُ بالخير من الريح المرسَلة))؛ (رواه البخاري).
أجود من الريح المرسلة المحمَّلة بالأمطار التي لا تبخل على أرض، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجودَ منها؛ فاقتدوا به يا عباد الله.
الصائم الحقيقي يعكُفُ على العبادة؛ طاعةً لله عز وجل، طيلة شهر رمضان، ويخص العشر الأواخر بالقيام والتهجد، والتلاوة والدعاء، والذكر والاستغفار.
ألَا واعلموا أن من آثار الصوم التربوية على المؤمنين أنهم يصوِّمون جوارحهم وحواسَّهم عن المحرمات، كما صوَّموا بطونهم عن الطعام والشراب، وفروجَهم عن الجماع؛ ويتضح ذلك فيما يلي:
أما ألسنتهم، فهي صائمة عن الكذب والغِيبة والنميمة، والغمز والهمز واللمز، وسقط الكلام طيلة العمر؛ قال الله عز وجل في وصف المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3].
وأما أنوفهم، فهي صائمة عن شمِّ العطور والطِّيب المنبعث من النساء والفتيات، الغاديات والرائحات، إلى الأسواق والمدارس والجامعات، أو في الطرقات والسيارات، وعن شم المحرمات؛ من السموم البيضاء من المخدِّرات، وعن سائر المشروبات المحرمات، وغير ذلك.
وأما أعينهم، فصائمةٌ عن النظر إلى العَوْرَات، في البيوت ومن فوق الأسطح والشرفات، أو في الشوارع والسيارات.
ويمنعون أنفسهم من التمتع بالنظر إلى صور العاريات، في الجرائد والمجلات، والكتب الجنسية وفي الفيديوهات، و”المفسديونات”، وسائر وسائل الاتصال والمعلومات.
وأما آذانهم، فصائمة عن الاستماع إلى حديث الجيران، من وراء الحيطان والجدران، وعن آلات اللهو والطرب من الفنانة والفنان، وعن سماع الغناء والأفلام الوضيعة، والتمثيليات الخليعة، والمقاطع الرقيعة، التي تفتك بالدين والأخلاق، فتضيع الشِّيب والشباب، وتهدم الشعوب والأمم، وتجعلهم في خسران وتَبَابٍ.
وأما أيديهم، فصائمة عن البطش الحرام، وضرب المظلومين والأبرياء، وصائمة عن اختلاس أموال الناس، وانتهابها والسرقات، ويصوِّمون أيديهم عن مصافحة غير المحارم والزوجات، من النساء الأجنبيات، ويصومونها عن الإشارة إلى بريء بتهمة، أو إلى تقيٍّ بجريمة، ويصومونها عن اللهو واللعب بالورق و”الشدة”، والسيجة، وسائر الألعاب المحرمة، والألعاب المعاصرة في هذا الزمان؛ كالشِّطْرَنْج ونحوه.
ولا يعذِّبون بأيديهم خلق الله عز وجل دون اقتراف جرم، ولا يكتبون بأيديهم ما يؤذي مسلمًا أو مظلومًا بريئًا.
وأما أرجلهم، فصائمة عن المشي إلى ما حرَّم الله عز وجل؛ فلا يمشون إلى أماكن الفجور والدعارة والخمارات، أو إلى أفراح تُقام فيها الموسيقى، وتصدَح فيها الأغاني الهابطة، والاختلاط وسائر المنكرات، ولا يمشون مع رفقاء السوء، ولا يصاحبون خونة الدين والأهل، والعباد والبلاد، ولا يرافقون إخوان اللعين إبليس، من عملاء الوطن والجواسيس، ولا يمشون إلى الكهنة والعرَّافين، ولا إلى السَّحَرة والدَّجَّالين.
وأما صدورهم، فصائمة عن الحقد والضغينة لأيِّ مسلم، أو البغض لأي مؤمن، فصدورهم صافية نقية، سليمة تقية.
وأما قلوبهم، فصائمة عن كل ما يُغضِب الله من شرك في الألوهية أو الربوبية، أو الأسماء والصفات؛ فلا يعتقدون في كهانة كاهن، ولا في سحر ساحر، ولا يعتقدون في حلقة أو عقدة في خيط، أو تميمة أو ودعة، أو خرزة زرقاء أو حمراء، أو حجاب يُعلَّق لحفظ الأولاد أو الدواب كما يزعمون، أو في السيارات كما في هذا الزمان، وما شابه ذلك، فلا يعتقدون في أي من ذلك أنه ينفع أو يضر.
ولا يعتقدون في خالق مدبر رازق مُحْيٍ مميت غير الله عز وجل، ولا يعتقدون أن أحدًا يشابه الله عز وجل في صفة من صفاته، أو في اسم من أسمائه، أو في فعل من أفعاله؛ فــ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، سبحانه وتعالى.
فمعتقداتهم صائمة عن الأفكار الدخيلة؛ الغربية منها والشرقية، والإباحية الرأسمالية، أو الاشتراكية الشيوعية، والماركسية والشرائع الباطلة الردية، البائدة منها والسائرة.
فالصيام أدَّب الصائمين، وقوَّم سلوكهم بأن يكونوا كلهم لله رب العالمين؛ أجسادهم، وأرواحهم، وجوارحهم، وحياتهم، ومماتهم، وعباداتهم؛ كما قال الله عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163].
فالصائم الحقيقي هو الصابر على حفظ جوارحه من أن يُخدَش صيامه، أو يتناقص أجر قيامه، فقد تعلم الصبر من شهر الصبر؛ قال سبحانه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
هكذا يؤثر الصيام في الصائمين حقيقِي الصيام أخلاقيًّا وتربويًّا وسلوكيًّا، فصلُّوا على هادي البشرية، الهادي البشير، والسراج المنير؛ محمدِ بنِ عبدالله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ فقد صلى الله عليه في كتابه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الفاتحة: 56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة أجمعين، وارضَ اللهم عنا معهم بمنِّك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
________________________________________________
الكاتب: الشيخ فؤاد بن يوسف أبو سعيد
Source link