ها نحن في آخر ليلة من شهر رمضان، وها نحن نودع شهر رمضان، شهر القرآن، والصيام، والقيام، شهر الرحمات، والبركات، والغفران، والعتق من النار.
أيها المسلم الكريم: ها نحن في آخر ليلة من شهر رمضان، وها نحن نودع شهر رمضان، شهر القرآن، والصيام، والقيام، شهر الرحمات، والبركات، والغفران، والعتق من النار.
لقد انقضى شهر رمضان وانصرمت أيامه ولياليه، وربح فيه الرابحون، وخسر فيه الخاسرون، فهنيئًا لمن صامه وقامه إيمانًا واحتسابًا، ويا خيبة من ليس له من صومه إلا الجوع والعطش، وليس له من قيامه إلا السهر والتعب، وتعسًا لكل من أفطر في نهار رمضان وجاهر بإفطاره، وهنيئًا للصائمين القائمين المقبولين، وجبر الله كسر المحرومين، وخَفَّفَ مصاب المغبونين.
كان الإمام علي رضي الله عنه ينادي في آخر ليلة من شهر رمضان: (يا ليت شعري، من هذا المقبول فنُهنِّيه؟ ومن هذا المحروم فنعزيه؟)، وكان سيدنا ابن مسعود رضي الله عنه يقول: (من هذا المقبول منَّا فنُهنيه، ومن هذا المحروم منا فنعزيه، أيها المقبول هنيئًا لك، أيها المردود جبر الله مصيبتك)[1].
ونحن نقول كذلك يا ترى: من المقبول منا فنُهنيه، ومن المردود فنعزيه، أيها المقبول: هنيئا لك فافرح بعفو الله واسعد بالعيد فهو عيدك، ويا أيها المردود جبر الله مصيبتك، فأنت أحق الناس بالعزاء.
وهذا سيدنا عمر بن عبدالعزيز (رحمه الله) خرَج في يوم عيد فطر، فقال في خطبته: (أيها الناس، إنكم صمتم لله ثلاثين يومًا، وقمتم ثلاثين ليلة، وخرجتم اليوم تطلبون من الله أن يتقبل منكم)، وكان بعض السلف يظهر عليه الحزن يوم عيد الفطر، فيقال له: إنه يوم فرح وسرور، فيقـول: صدقتـم ولكني عبد أمرني مولاي أن أعمـل له عملًا، فلا أدري أيقبله مني أم لا؟[2].
أيها المسلم، أن عيدنا الحقيقي ليس بلبس الملابس الجديدة، وليس بأن نجتمع لنأكل ما لذا وما طاب من الطعام والشراب، وليس أن نذهب هنا وهناك، بل عيدنا الحقيقي هو يوم أن نعود عودة حقيقية إلى الله تعالى، وإلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، عيدنا الحقيقي يوم أن نقيم في بيوتنا منهج القرآن الكريم، عيدنا الحقيقي يوم أن نصل من قطعنا، ونعطي من منعنا، ونعفو عمن ظلمنا، عيدنا الحقيقي يوم أن نُخْرِجَ البغضاء من قلوبنا، ونُدْخِلَ الطمأنينة في قلوب المسلمين، عيدنا الحقيقي يوم لا نعصي الله عز وجل.
هذا سيدنا عمر بن عبدِ العزيزِ رضي الله عنه، كان له ولدٌ صغيرٌ، فرآهُ في يومِ العيدِ، وعليهِ ثوبٌ خَلِقٌ قديمٌ مُتَمَزقٌ؛ فَدَمَعَتْ عَينَاهُ، لأنه لا يستطيعُ أن يكسوَ ابنَهُ ثوبًا جديدًا للعيدِ، فلمَّا دمعتْ عيناهُ رآهُ ولدُهُ، فقالَ: ما يُبكِيكَ يَا أميرَ المؤمنينَ؟ يَسألُ الوَلَدُ أباهُ! قالَ: يا بُني، أَخشَى أن يَنكَسِرَ قلبُكَ إذا رآكَ الصبيانُ، بهذا الثوبِ الخلقِ؟ قالَ: يا أميرَ المؤمنينَ: إنَّما يَنكَسِرُ قلبُ مَن أَعدَمَهُ اللهُ رضَاهُ، أو عَقَّ أمَّهُ وأباهُ، وإني لأرجو أن يكونَ اللهُ راضيًا عني برضاكَ.
نعم هذا هو المفهوم الحقيقي للعيد: ليس العيد لمن لبس الجديد، إنما العيد لمن طاعته تزيد، ليس العيد لمن تجمَّل باللباس والمركوب، إنما العيد لمن غفرت له الذنوب، ليس العيد لمن حاز الدرهم والدينار، إنما العيد لمن أطاع العزيز الغفار.
نسأل الله أن يتقبل منا جميعًا صيامنا وقيامنا، وأن يغفر ذنوبنا وزلاتنا، ونسأله تعالى لنا ولكم الثبات على الطاعات، والحفظ، والسلامة، والعافية من كل داء، وحسن الختام، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] لطائف المعارف لابن رجب: (ص: 210).
[2] المصدر السابق: (ص: 209).
____________________________________________________
الكاتب: د. محمد جمعة الحلبوسي
Source link