تعامل الإسلام مع المخالفين – محمد جلال القصاص

يُمكِننا النقدُ الفكري من وضع المخالف في إطاره (هيئته ومكانته) الصحيح، فيراه الناس على صورته الحقيقية وفي مكانه المناسب.

{بسم الله الرحمن الرحيم }

لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

يُمكِننا النقدُ الفكري من وضع المخالف في إطاره (هيئته ومكانته) الصحيح، فيراه الناس على صورته الحقيقية وفي مكانه المناسب. ومن خلال التأطير نستطيع إزاحة كمًا كبيرًا من المعلومات التي تأتينا من كل مكان، تحاول خلط الحق بالباطل وصدَّ الناس عن الحق بعد إذ جاءهم. والسؤال: أين يعمل النقد الفكري وصولًا لفائدة قصوى في تنقية ما ألم بالفكر الإسلامي من شوائب؟

نستطيع الإجابة على هذا التساؤل من خلال منهجية القرآن الكريم في تفنيد أباطيل الذين في قلوبهم مرض والكافرين. وتتكون هذه المنهجية من ثلاثة محاور رئيسية:
 أولها: بيان أن قولهم  كذب صريح، كما في قوله تعالى:”
{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} ” (الكهف: آية5)، أو كذب مفتعل، كما في قوله تعالى:” يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ”(آل عمران:71).
وثانيها: كشف الأسباب الحقيقية وراء صد الناس عن الهدى بعد إذ جاءهم، وهما سببان رئيسيان: 
كراهية اتباع الحق، وذلك لما في النفوس من كبر واستعلاء وحبٍ للدنيا وما فيها من شهوات
{“أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ”} (المؤمنون: 70)؛ والسبب الثاني: غياب الإيمان باليوم الآخر وما فيه من نعيم مقيم وعذابٍ أليم عظيم مهين “أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ” (سبأ: 8).
والمحور الثالث: 
معالجة هؤلاء وما يقولون ويفعلون في سياق بيان الحق، بمعنى التعامل مع المخالف ضمن سياق خاص، وهو موضوع هذا المقال.

صناعة سياق مستقل وتناول المخالف، بكل ما عنده من ضار ونافع، داخل هذا السياق الخاص مقولة مضطردة في المستوى النظري والمستوى العملي، عند المسلمين وعند غيرهم. ومن خلالها يمكن تفسير كثير من عوامل الصعود والتراجع لدى الأمم؛ ومن خلالها، أيضًا، يمكننا فك الاشتباك المعرفي الثائر حول عديد من القضايا الثائرة في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر، وخاصة تلك التي تثير غبارًا على نشأة الأمة الإسلامية وعلاقتها بغيرها من الأمم.

  بدأت البعثة بخطاب مستقل عالج قضايا لم تكن معروفة في أم القرى ومن حولها، فكان إرسالُ رسولٍ وتنزيل كتاب، يُعرِّفهم بالله خالقهم وخالق كل شيء، وحق الله عليهم من عبادته وحده لا شريك له واتباع أمره واجتناب نهيه، وحقهم عليه إن هم فعلوا؛ ويحدثهم عن خلق الإنسان.. كيف بدأ أول مرة وكيف يحدث في الأرحام كل مرة. وبيان فساد عقائدهم فيما يعبدون من دون الله؛ ويعلّمهم ما يُصلح دنياهم ويلقون ثوابه في آخرتهم إن التزموا به إيمانًا واحتسابًا، فأمرهم بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا، وأحلَّ لهم الطيبات وحرّم عليهم الخبائث، ونظم شئون حياتهم على منهاجٍ لم يكن لهم به سابق معرفة من قبل. وعلّمهم أن الله استخلفهم في الأرض وطلب منهم عمارتها بما شرعه لهم على لسان رسوله r. وأن أعمالهم تحصى عليهم، وأنهم مبعوثون من بعد الموت، وبعد البعث حساب، وبعد الحساب جنة أو نار؛ وقص عليهم أنباء السابقين: كيف نجّى الله من أطاعوا، وكيف أهلك الله من عصوا رسل ربهم؟ بحديث لم يكن له r ولا لهم علم به؛ فكشف عن سياقٍ متصلٍ لرسل الله ومن آمن بهم في مواجهة الشيطان ومن استجاب لغوايته. فاستقر أن التاريخ صراع بين الحق والباطل؛ وصحح انحرافات اليهود والنصارى في حديثهم عن الله ورسله وما ابتدعوه في الشعائر والشرائع.
وفي هذا السياق بدأ تناول المخالفين، أولئك الذين حاولوا تلبيس الحق بالباطل، فاتهموه r، كذبًا، بالجنون، والسحر، والتعلم على يد غيره من الأعجمين،،، إلخ، كما مرّ في المحورين الأولين.
وفي المدينة كانت البداية من صناعة سياق عملي (واقعي) خاص بالمسلمين مع أنهم لم يكونوا الأكثرية (مقارنة بمن لم يسلموا مضافًا إليهم يهود قينقاع والنضير وقريظة ومن حول المدينة من الأعراب ويهود خيبر ووادي القرى وفَدَك): فكان المسجد، والمؤاخاة، والسوق، وفرض واقع جديد على ساكني المدينة من غير المسلمين، فكانت القيادة للمسلمين والتبعية لغيرهم ومن خالف عوقب وتم إخراجه من هذا السياق.
 وبدأ ببعث السرايا حول المدينة لفرض سياق جديد على قريش ومن دخل معها في الإيلاف وشاركها عداوة المسلمين.

 وإن حاولنا النظر لمساحة أكبر، وهي حركة الأمة (الحضارة) الإسلامية فسنجد أن الأمة الإسلامية نشأت من الوحيين (الكتاب والسنة)، ولم يتلق جيل التأسيس (الصحابة رضوان الله عليهم) شيئًا غيرهما، وقد نُهر من حاول المطالعة في صحيفةٍ لليهود «“أَمُتَهَوِّكون أنتُم كما تَهَوَّكَتِ اليهودُ والنَّصارى؟ أمَا والذي نَفْسُ مُحمَّدٍ بِيَدِه لقد جِئتُكُم بها بَيضاءَ نَقيَّةً”» ([1]).

وما تم أخذه من علوم الآخرين إنما جاء متأخرًا بعد التأسيس والفتوحات واستقرار المجتمع المسلم) وجاء في سياق خدمة الأمة الناهضة، بمعنى أن المسلمين أخذوا ما يحتاجون إليه لا كل ما وجدوه، وسيتضح هذا بعد قليل إن شاء الله وجاء في التدابير العملية لا في منظومة العقائد المؤسسة للأمة المسلمة. مثال ذلك: البريد، والعسس، والدواوين، وصك العملة في عهد عبد الملك بن مروان[2]، وأخذوا بعض ما استحسنوه من الفرس في إدارة شئون الحياة اليومية، مثل إسقاط الضرائب عن فقراء المزارعين، وإعطاءهم البذور الجيدة دون مقابل.

لم يتم نقل ما عند المخالف إلا بعد إنشاء سياق خاص من الكتاب والسنة، وتم النقل بانتقائية حيث مارس المسلمون النقد على ما وجدوه، فراجعوا وصححوا وأخذوا ما يخدم مشروعهم[3].
وكان نقلًا لما يحتاجونه، لا نقلًا لما في أيدي الأمم القوية كونها قوية. فقد سعوا لتعلم 
الفَلَك بحثًا عن طريقة لضبط مواقيت الصلاة في البلاد التي لا تنتظم فيها حركة الشمس نهارًا وخاصة في الشتاء[4]؛ وحين انتشرت تجارتهم ووجدوا أن طريقة الحساب التقليدية لا تكفي لحساب عملياتهم التجارية جدّوا في تعلم الرياضيات، فكان الخوارزمي والبحث عن “الصفر”، وهكذا[5].

 ولم يكن تتلمذًا على يد علماء الأمم السابقة، فما حصّلهُ المسلمون من غيرهم كان شيئًا مُهملًا تلقُّوه بالوجادة (وجدوا وثائق عامتها مهمل)، ولولا أنها وُضعتْ في سياقٍ جادٍ ناهضٍ لما تطورتْ.
لم نتعلم من هؤلاء بالمعنى المعاصر للتعلم (التتلمذ)، بل أخذنا منهم ما نراه نافعًا لنا وأعدنا صياغته ليناسب منظومتنا العقدية. 
ومن يتتبع سيرة أوائل علماء الطبيعة المسلمين، كالخوارزمي والبيروني وابن سيناء وابن الهيثم، يرى بوضوح أنهم متأخرين عن فترة التأسيس وأنهم أخذوا مخطوطات لغيرهم وقاموا بتنقيحها وتطويرها، وأنهم لم يتتلمذوا على أيدي علماء أمة أخرى متقدمة، وإنما أفادوا من كتابات (مخطوطات) وجدوها مهملة في الغالب[6].

 وإن الاتصال الثقافي (الفلسفة وعلم الكلام والفلسفة) جاء متأخرًا كما الاتصال في العلوم الطبيعية، وارتبط بنهاية الصعود وبداية التراجع، ولم يكن أبدًا من عوامل النهوض[7].
لم يكن الأمر كما يدعي هؤلاء حضارة تسلمت من حضارة. وإنما وحي أغاث الله به الأرض بعد موتها. أحيا الله به قومًا وأحيا به وبهم آخرون “
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ” (الشورى: من الآية52).

وفعلت العلمانية المعاصرة ذات الشيء: أنشأت سياقًا خاصًا يرفض الدين كمصدر للمعرفة ويتبنى الوضعية (Positivism) منهجًا للحياة، ثم اقتبست منا ما يخدم سياقها، أو أعادت صياغة ما أخذته منا ومن غيرنا ليتناسب مع سياقهم الجديد (الإلحاد الكلي أو النسبي). وفرضوا علينا قضاياهم هم، مثل: التبرج، والسفور، وتفتيت الأمة لكيانات صغيرة (دول) بدعوى التحرر والاستقلال، ونموذجهم في الحكم (الدولة القومية الحديثة)، أو تنحية الشريعة، بل وما في التفاصيل من قضايا فرعية تتعلق بحياة الفرد العادي.

إن كثرة الشوائب التي خالطتنا وكدرت صفو عقيدتنا ومجتمعاتنا، من أهم أسبابها أننا فقدنا السياق الخاص بنا.. أننا في سياق غيرنا، ولذا فإن أفضل الطرق لتنقية شوائب الآخر تتمثل في الخروج من سياق المخالف وإنشاء سياق خاص بنا كما كان أول مرة. وهنا يثور سؤال: كيف نبني سياقًا خاصًا ونحن غرقى في الشوائب وتائهون حيث يراد لنا وبنا، لا حيث نريد نحن (أتحدث عن المجموع لا عن الجميع)؟

محمد جلال القصاص
 

 


([1])ينظر: “شعب الإيمان ” للإمام أحمد بن الحسين البيهقي، (الرياض، مكتبة الراشدين، 1423هـ /2003م)، ج7، ص171.

[2] حدث ذلك بعد أن تهدده الرومان بمنع العملة الذهبية، واستعان بخالد بن يزيد بن معاوية، وكانت لديه نزعة معرفية تجاه العلوم الطبيعية؛ ولم يكن يترجم أو ينقل علوم الآخرين. والذين يقولون بالتأثر المبكر يتحدثون عن القرن الثاني من الهجرة، وعن حالة أو حالتين، وعن وريقات وجدت وترجمت في نطاق ضيق جدًا. وظهور الترجمة وانتشارها جاء مع بداية الانحدار (القرن الثالث الهجري).

[4] من أفضل من تحدث عن جهد المسلمين في العلوم التقنية الدكتور جورج صليبا وله عديد من الكتب واللقاءات المتلفزة يتحدث فيها شارحًا ومدافعًا عند دور المسلمين في التقدم التقني، كان أخرها وأشملها لقاء في “بودكاست ثمانية”. وينظر: “الفكر العربي: نشأته وتطوره”، لجورج صليبا، (لبنان، منشورات جامعة البلمند،1998م).

[5] ينظر: “الأعلام” لخير الدين بن محمود الزركلي الدمشقي، (بيروت، دار العلم للملايين، 2002م)، ج7، ص116.

[6] ينظر: “العلوم والهندسة في الحضارة الإسلامية”، لـ دونالد هيل، ترجمة أحمد فؤاد الباشا، (الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2004). وذكر ابن خلدون في مقدمته أن المسلمين لم يستفيدوا من علوم الفرس، وذكر، أيضًا، أن أول اتصال معرفي بعلوم الرومان كان في عهد العباسيين (أواخر القرن الثاني الهجري)، ينظر: “ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر”، لعبد الرحمن بن محمد بن محمد بن خلدون، (بيروت، دار الفكر، 1408ه/1988م)، ج1/631.


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

شرح ما يفعل من رأى الرؤيا أو الحلم

منذ حوالي ساعة الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان؛ فإذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه؛ فلينفث …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *