فالقناعة طريق للفلاح؛ يقول النبي ﷺ: «قد أفلح من أسْلَمَ، ورُزِقَ كفافًا، وقنَّعه الله بما آتاه»
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله الأمين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
فقد خلق الله تعالى الإنسانَ، وجَبَلَهُ على حب الخير ورغبته فيه وتعلقه به؛ فقال جل وعلا: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8]، وبيَّن الخالق تعالى أنه خلق الإنسان محبًّا لِما يسره ويرغبه طالبًا له، هاربًا من كل ما يكرهه ويسخطه؛ فقال: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 19 – 21]، فهو راغب في أن ينال السعادة الدائمة في الدنيا، وهيهات هيهات أن يتحقق له ذلك فيها؛ لأنه إن كَمَلَ في شيء، فلا بد أن يقصر في شيءٍ آخر، وكل ذلك منقطع، وهذا هو الحال في الدنيا، فمن تعلق بها بقِيَ هلوعًا جزوعًا منوعًا، إلا أن هناك خَصْلَةً مَن اتصف بها – بعد تحقيق الإيمان – نال السعادة برضاه عن الله تعالى، ورضِيَ الله جل وعلا عنه، وعاش طيِّبَ النفس مرتاح البال؛ ألا وهي: القناعة بما قسم الله تعالى وأعطى، فإن من أبرز ما يكدِّر صفو الحياة وطِيبَ العيش وراحة البال، ويُوقِع في كثير من السخط والتشكِّي من الواقع المعيش ماديًّا أو اجتماعيًّا أو صحيًّا – عدمَ الرضا بقسمة الله تعالى وقضائه وقدره، والقناعة بذلك، فإن من مَلَكَ القناعة، عاش في راحة بال، وطمأنينة نفس، وانشراح صدر، وذهابٍ للهموم والأحزان، وبذلك تطيب الحياة.
ما أحوجنا إلى القناعة! وما أحوجنا إلى الرضا بما قسم الله لنا في زمن تكالب فيه كثير من الناس على الدنيا، وانغمسوا في شهواتها، في زمن كثُر فيه التسخط والتذمُّر والتشكِّي، وضعُف فيه الرضا بما قسم وقدر رب العالمين سبحانه!
فهل فَشَا الجشعُ والطمع إلا عندما غابت القناعة؟ وهل اكتوى الأفراد والمجتمعات بنيران الحسد والكراهية والبغضاء إلا بسبب فِقْدان القناعة؟ وهل كثُرت الصراعات والنزاعات إلا بسبب غياب القناعة في المجتمع؟
ليس القانع ذلك الذي يشكو خالقه ورازقه إلى الخَلْقِ، ولا الذي يتطلع إلى ما ليس له، ولا الذي يغضب ويغتمُّ ويحزن حزنًا شديدًا إذا لم يبلغ ما تمنَّى من رُتَبِ الدنيا وزينتها الفانية.
القناعة لا تعني التواكل والكسل عن طلب معالي الأمور، وترك السعي للرزق والكسب الطيب، وتحصيل المنافع الدينية والدنيوية والتقدم في كل خير، والرضا بالدون، والتأخر عن السعي للفضائل، بل هذا مما نهى عنه الإسلام وحذر منه، وإنما القناعة: الرضا بما أعطى الله جل وعلا وكتبه وقسمه، بعد بذل الأسباب المشروعة.
القناعة: استغناء بالموجود، وترك للتشوُّف إلى المفقود.
القناعة: استغناء بالحلال الطيب عن الحرام الخبيث.
القناعة: أن يكتفي المرء بما يملك، ولا يطمع فيما لا يملك.
القناعة: امتلاء القلب بالرضا، والبعد عن التسخُّط والشكوى.
لقد بيَّنَ النبي صلى الله عليه وسلم القناعةَ وعدَّد صورها؛ ومن ذلك ما جاء في قوله: «مَن أصبح منكم آمِنًا في سِرْبِهِ، معافًى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حِيزَتْ له الدنيا».
فلماذا التسخط؟ ولماذا التذمر؟ ولماذا التشكي؟ وأنت آمِنٌ في سِرْبِك ومالك وأهلك، معافًى في بدنك، عندك قوت يومك، بل يزيد.
لكنه الطمع الذي استولى على القلوب، فلم تعُدْ تَقْنَع لا بالقليل ولا بالكثير، وهذا ما حذرنا منه نبينا المصطفى عليه الصلاة والسلام حين قال: «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب».
فالقناعة طريق للفلاح؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «قد أفلح من أسْلَمَ، ورُزِقَ كفافًا، وقنَّعه الله بما آتاه»؛ (رواه مسلم).
وهي الغِنى الحقيقي؛ قال صلى الله عليه وسلم: «ليس الغِنى عن كثرة العَرَضِ، ولكن الغِنى غني النفس»؛ (متفق عليه)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وارْضَ بما قسم الله لك، تَكُنْ أغنى الناس»؛ (رواه الإمام أحمد والترمذي).
قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لأبنه: “يا بنيَّ، إذا طلبت الغِنى فاطلبه بالقناعة؛ فإنها مال لا ينفَد، وإياك والطمعَ؛ فإنه فقر حاضر، وعليك باليأس، فإنك لم تيأس من شيء قط إلا أغناك الله عنه”، وقال عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: “القناعة مال لا نفاد له”.
وبالقناعة يكون العز والرِّفعة؛ قال صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني جبريل فقال: يا محمد، عِشْ ما شئت فإنك ميت، وأحْبِبْ من أحببت فإنك مفارقُه، واعمل ما شئت فإنك مجزِيٌّ به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزُّه استغناؤه عن الناس»؛ (رواه الحاكم).
وبالقناعة تتحقق الراحة والطمأنينة؛ قال أبو حاتم رحمه الله: “من أكثر مواهب الله لعباده وأعظمها القناعة، وليس شيء أروح للبدن من الرضا بالقضاء والثقة بالقِسْمِ، ولو لم يكن في القناعة خَصلةٌ تُحمَد إلا الراحة، لكان على العاقل ألَّا يفارقها على حال من الأحوال”، وقال بكر المزني رحمه الله: “يكفيك من الدنيا ما قَنَعْتَ به ولو كفَّ تمر، وشربةَ ماء، وظلَّ خِباءٍ، وكلما انفتح عليك من الدنيا شيء، ازدادت نفسك به تعبًا”.
ولنا في رسول الله قدوة حسنة في القناعة؛ فهو أعظم نموذج في القناعة والرضا بقسم الله تعالى وعطائه؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما شبِعَ من خبزٍ وزيت في يوم واحد مرتين)).
وعلى القناعة ربَّى النبي صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام، فكانوا أصحاب قناعة ورضًا بالزاد القليل في هذه الدنيا الفانية، فلم يكن تنافُسُهم فيها، وإنما تنافسهم على درجات الآخرة، تركوا ديارهم وأموالهم وأهليهم في مكة مهاجرين لله تعالى ورسوله، مبتغين بذلك الدار الآخرة، للمدينة؛ حيث لا مال ولا سكن ولا أهل، فكان منهم من يربِط الحجر على بطنه من شدة الجوع، ويلبَس الرَّثَّ من الثياب، وقلوبهم مليئة انشراحًا ورضًا وقناعة؛ قال أبو هريرة رضي الله عنه: “لقد رأيت سبعين من أصحاب الصُّفَّة ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار وإما كساء، قد ربطوا في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن تُرى عورته”، وقصصهم في هذا الباب كثيرة جدًّا، وقد سار على نهجهم التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى أن يرِث الله الأرض ومن عليها.
فالتحلِّي بالقناعة دليل على قوة الإيمان بالله سبحانه وتعالى، ودليل على صدق الثقة بالله والرضا بما قدر وقسم، ودليل على قوة اليقين بما عنده سبحانه وتعالى؛ قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: “إن من ضعف يقينك أن تكون بما في يدك أوثقَ منك بما في يد الله عز وجل”.
بالقناعة يتحقق الشكر لله تعالى، فمن قَنَعَ برزقه شكر الله تعالى عليه، ومن احتقر رزقه، قصر في شكر ربه سبحانه، وربما جزع وتسخط والعياذ بالله؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كُنْ وَرِعًا تكن أعبد الناس، وكن قَنِعًا تكن أشكر الناس…»؛ (رواه ابن ماجه).
ثم إن القناعة سبيل إلى الحياة الطيبة؛ قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: “من قَنَعَ طاب عيشه، ومن طمع طال طيشه”.
في القناعة حياة طيبة؛ لأنها تريح الإنسان من اللَّهَاث وراء الدنيا وزينتها، وتريح النفس من الهمِّ والحزن والجَزَع على ما فاته منها؛ لأنه يعلم يقينًا أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه؛ وقد قال ربنا سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 22، 23].
في القناعة حياة طيبة؛ لأنها تُطَهِّر القلب وتُرِيحه من كثير من الأمراض التي تصيبه بسبب التنافس على الدنيا والتنازع عليها؛ كالحسد، والحقد، والكراهية والبغضاء، كما أنها وقاية للعبد من كثير من الذنوب والمعاصي التي تَفْتِكُ بالمجتمع، وتقوِّض بنيانه، وتمزِّق وحدته؛ كالغِيبة، والنميمة، والكذب، وشهادة الزور، والقتل، والسرقة، وغيرها من الخصال الذميمة والآثام العظيمة، التي غالبًا ما يكون الحامل على الوقوع فيها حب الدنيا والحرص عليها؛ قال بعض الحكماء: “وجدت أطول الناس غمًّا الحسود، وأهنأهم عيشًا القنوع”.
إذا أردنا أن يرزقنا الله القناعة، فلننظر إلى من أقل منا مالًا وجاهًا وصحةً وغير ذلك من متع الحياة الدنيا، فقد علَّمَنا ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انظروا إلى من أسفلَ منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر ألَّا تزدروا نعمة الله».
ومما يعين على اكتساب القناعة الإيمان الجازم بأن الله تعالى هو الرزاق، كتب الأرزاق قبل أن يخلق العباد، ولن تموت نفس حتى تستوفيَ رزقَها وأجَلَها؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس، اتقوا الله وأجْمِلُوا في الطلب؛ فإن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حَلَّ ودَعُوا ما حرُم»، فلماذا الطمع؟ ولماذا الجشع؟
ومما يعين على اكتساب القناعة تذكُّرُ العبد أن الدنيا إلى زوال، وأن متاعها إلى فناء، فالعاقل يدرك أن كل حال إلى زوال، فلا فقر يدوم، ولا غِنًى يدوم، ولا صحة تبقى ولا شباب، ولا مرض يبقى ولا حياة تستمر، فكم من فقير اغتنى! وكم غنيٍّ افتقر! وكم صحيح مرِض! وكم مريض صحَّ! فهذه هي الدنيا، متاعها قليل زائل؛ كما قال خالقها جل وعلا: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء: 77]، وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصيرٍ فقام وقد أثَّر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وِطاء، فقال: ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكبٍ استظلَّ تحت شجرة، ثم راح وتركها))؛ (رواه الترمذي)، فإذا تيَّقن المرء ذلك، زهِد فيما ليس عنده ولم يُقسَم له، عند ذلك ليهنأ بصلاح باله واطمئنان نفسه، وطِيب عيشه.
اللهم ارزقنا القناعة برزقك وعطائك وبارك لنا فيه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_____________________________________________________
الكاتب: عبدالعزيز أبو يوسف
Source link