بين الرجاء والخوف – خالد بن منصور الدريس

منذ حوالي ساعة

عبادة الأحرار أم طاعة العبيد؟ أيهما أفضل للمؤمن أن يقدم الخوف أو الرجاء أو يحيا بهما معاً؟

فيما خلى من أيام الصبا سكنتني بعض الأسئلة وشغلتني لحد التطلب والتقصي.. ومن تلك الأسئلة سؤال الخوف والرجاء: أيهما أفضل للمؤمن أن يقدم الخوف أو الرجاء أو يحيا بهما معاً؟
لأن مثل هذا السؤال يرسم رؤية تقود الحياة والخيارات فيها.. بمعنى أنه بمثابة التوجه الذهني أو الإطار الكلي للمنظور العام في الحياة.

وكان مثار السؤال قد جرى بعد محاضرة لمدرس الدين في المرحلة المتوسطة حيث أكد وجزم بأن المؤمن عليه أن يغلب الخوف حتى إذا اقترب موته غلب الرجاء..
وقد كان هذا الجواب غير مقنع لي حينها، لأن من عاش على شيء وتعود عليه يصعب عليه جداً أن يغيره في لحظات أو أيام، ثم ما يدريه متى تحين لحظة اليقين ومقابلة رب العالمين.. فالموت لا يستأذن وهو أقرب لأحدنا من شِراك نعله.. 

ولأن الحياة ليست سوى عالم من الأسئلة لم تفتر همتي عن تدوير هذا السؤال والعيش به ومعه وتقليبه وموازنته بغيره من المسائل القريبة والتفكر في لوازمه وامتدادته.. 

وكنت كحال غيري من طلبة العلم يصحو السؤال في فكري حيناً ويتوارى حيناً.. حتى وقفت على موضع للإمام النووي فاجأني وأدهشني.. فما فتئت أعيده وأتدبره وأقرأه بعيون المعجب والناقد والقاضي، ذلكم الموضع هو قوله في كتابه الفخم الفاخر ( المجموع ):

📌 وَقَدْ تَتَبَّعْت الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الْوَارِدَةَ فِي الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَجَمَعْتُهَا فِي كِتَابِ رِيَاضِ الصَّالِحِينَ فَوَجَدْت أَحَادِيثَ الرَّجَاءِ أَضْعَافَ الْخَوْفِ مَعَ ظُهُورِ الرَّجَاءِ فِيهَا وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ

فهجس في ظني أن الإمام رحمه الله قد شغله ما شغلني ولذا استقرأ واعتنى وجمع فتوصل بمعيار علمي سابر فاحص أن أحاديث الرجاء أضعاف الخوف.. وقد رجعت لرياض الصالحين فوجدت الأمر كما قرره وحققه.

📌ثم وقفتُ على نص مطرب خفاق يأسر القلوب للملا علي قارئ في شرحه على مشكاة المصابيح، قال فيه معلقاً على كلام النووي: 

لَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا حَدِيثٌ وَاحِدٌ وَهُوَ سَبَقَتْ أَوْ غَلَبَتْ رَحْمَتِي عَلَى غَضَبِي لَكَفَى دَلِيلًا عَلَى تَرْجِيحِ الرَّجَاءِ 
وَيُعَضِّدُهُ آيَةُ: { {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} } [الأعراف: 156] 
👈🏻بَلْ هُوَ أَمْرٌ مُشَاهَدٌ فِي عَالَمِ الْوُجُودِ مِنْ غَلَبَةِ آثَارِ الرَّجَاءِ عَلَى آثَارِ الْخَوْفِ، 
وَاتَّفَقَ الصُّوفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ عَلَى وَجْهِ الرَّجَاءِ أَفْضَلُ مِنَ الطَّاعَةِ عَلَى طَرِيقِ الْخَوْفِ، 

👈🏻وَأَنَّ الْأَوَّلَ عِبَادَةُ الْأَحْرَارِ، وَالثَّانِي طَاعَةُ الْعَبِيدِ، 

وَلِذَا قَالَ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: « {أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا} ».

كان هذا النص بألقه وبريقه اللماع قد قدح في ذهني معنى كان يضطرب في وجداني ولكن لم يجد لبوساً يناسبه.. بعض النفوس قد لا تستقيم طاعتها إلا بتغليب الرجاء فيخرج منها أجود ما فيها وأجمل خصالها وأقوى مناقبها.. والبعض قد تصلح حاله بتغليب الخوف.. أما التوازن كجناحي طائر بين الخوف والرجاء فيصعب تصوره وتحققه في الواقع ولكن ربما يسهل تصوره إذا فُهم على أن المسلم يغلب رجاءه عند إحسانه ويغلب خوفه عند معصيته فتتغير الحالة بحسب الفعل والله أعلم.

وَمَعْنَى الرجاء كما عبر عنه النووي أن يُحْسِنُ المؤمن الظَّنَّ بِاَللَّهِ تَعَالَى وأَنْ يَظُنَّ أن الله تعالي يرحمه ويرجو ذَلِكَ 
وَيَتَدَبَّرُ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي كَرَمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَعَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ وَمَا وَعَدَ بِهِ أَهْلَ التَّوْحِيدِ وَمَا يَنْشُرُهُ مِنْ الرَّحْمَةِ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ بي».

ومع جزم النووي رحمه الله بكثرة أحاديث الرجاء وإلماحه إلى ترجيحه فإنه رجح كما فعل المحققين من أهل العلم التوازن بين الرجاء والخوف حيث قال في مجموعه:

* وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا – يعني الشافعية- وَغَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمَرِيضِ وَمَنْ حَضَرَتْهُ أَسْبَابُ الْمَوْتِ وَمُعَانَاتُهُ أَنْ يَكُونَ حَسَنَ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ رَاجِيًا رَحْمَتَهُ

👈🏻 وَأَمَّا فِي حَالِ الصِّحَّةِ ففيه وجهان لأصحابنا:
 (أحدها) يَكُونُ خَوْفُهُ وَرَجَاؤُهُ سَوَاءً
(وَالثَّانِي)يَكُونُ خَوْفُهُ أَرْجَحَ
(وَالْأَظْهَرُ) أَنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ وَدَلِيلُهُ ظَوَاهِرُ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ فَإِنَّ الْغَالِبَ فِيهِ ذِكْرُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ مَقْرُونَيْنِ 
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تبيض وجوه وتسود وجوه} )
و {إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ لَفِی نَعِیمࣲ (١٣) وَإِنَّ ٱلۡفُجَّارَ لَفِی جَحِیمࣲ (١٤)}


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

آداب اللباس – عبد الله بن جار الله الجار الله

منذ حوالي ساعة بيَّن النبي ﷺ ما يجوز منه، وما لا يجوز، وما يُستحبُّ لُبسه، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *