في حياة المسلم لا بُدَّ من الصبر، فيصبر حين البلوى على مر المصيبة، ويصبر حين النعمة على القيام بحق الشكر، وأمر المؤمن لا يخرج عن الصبر أبدًا، وحياة الإنسان دائمة النقلة من حالٍ إلى حالٍ،
في حياة المسلم لا بُدَّ من الصبر، فيصبر حين البلوى على مر المصيبة، ويصبر حين النعمة على القيام بحق الشكر، وأمر المؤمن لا يخرج عن الصبر أبدًا، وحياة الإنسان دائمة النقلة من حالٍ إلى حالٍ، ولا بُدَّ أن يمضي عليه القدر، والمصائب من قدر الله {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22]، وقد سمعتُ –أيها الكرام- قصص كثير من الرجال في صبرهم على البلاء، لكني لم أقف على قصة كهذه القصة، لسان حال صاحبها:
وَتُحيطُ بِي لُجَجُ الصَّرُو ** فِ فَمِنْ بَلاءٍ فِي بَلاء
وإليكم خبره، تزوج هذا الرجل، ثم رزق بولد، فلم يتم هذا الطفل عامه الثاني حتى توفاه الله، ثم رزقه الله بعد هذا الولد بأربع بنات متتابعات ليس بينهن ولد، ثم بعد عشر سنوات رزقه الله بولد ذكر، فلم يتم الولد الثاني عامه الثاني حتى قبضه الله إليه، ولما بلغت البنت الأولى سن الزواج، زوَّجها أبوها، فلم تبلغ ثمانٍ وعشرين سنة حتى توفَّاها ربُّها، ثم تزوَّجت البنت الثانية بعد أختها، فلم تكد تبلغ الواحدة والعشرين من عمرها حتى توفَّاها الله، فتزوَّجت بعد ذلك أختها الثالثة، ولما بلغت سبعًا وعشرين سنة قبض الله روحها، فتوفاها إليه -وربنا أحكم وأرحم- وقبل أن تتوفى البنت الثالثة، رزق هذا الرجل بطفل، فلم يكمل الطفل عامًا ونصف العام حتى توفَّاه الله! فصار مجموع من توفي من ذريته ثلاثة أولاد، وثلاث بنات!
بالله أي قلب يحتمل هذا كله؟! فلم يبق له سوى بنت واحدة من مجموع ذريته، لقد دفن بناته الثلاث وهن في أجمل أعمارهن، ودفن أبناءه الثلاثة ولم يتمتع بابن واحد يخدمه ويلاطفه! ليس هذا فحسب! بل إن بنته الأولى قبل وفاتها رزق منها بحفيدٍ، فلم يمض على ذلك الحفيد سوى أربع سنوات حتى قبضه الله إليه، هذا الأب والجد المكلوم لم أسمع بقصة أكثر حزنًا من قصته
إذ من الناس من تكون له ذرية كثيرة، فتذهب ذريته كلها أمامه مرة واحدة، فيفجع فجيعة واحدة، لكن هذا الرجل لا يكاد ينسى حزنه السابق، حتى يتبعه حزن لاحق، فحق له أن يكون مدرسة في الصبر، وحق له أن يلقن الناس دروس الصبر عند نزول المصائب، لسان حاله:
فلم أرَ أوفى للبلاء مِن التُّقَى ** ولم أرَ للمكروه أشفَى مِن الصبرِ
أيها الكرام، أتدرون من هذا الرجل؟ إنه محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم.
بلاءُ الأنبياءِ هو البلاءُ ** وقد عانتْ عناه الأولياءُ
لقد كان يُعلِّم أصحابه فنَّ الصبر قولًا وعملًا، ويُعلِّمهم أن المؤمن محل للبلاء فيقول: «من يرد الله به خيرًا يصب منه»، فيصيب منه في المرض المؤثر في صحته، ويأخذ منه المال المؤثر في غناه، ويصيبه بالحزن المؤثر في سروره، فإذا صبر واحتسب كان ذلك سببًا لما أراده الله له من الخير.
أيها الكرام، كان صلى الله عليه وسلم يدعو للمصاب، ويحزن لحزنه، بل ربما بكى -بأبي هو وأمي- فعن أُسَامَة بْن زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: أَرْسَلَتِ ابْنَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ أنَّ ابْنًا لِي قُبِضَ، فَأْتِنَا، فَأَرْسَلَ يُقْرِئُ السَّلامَ، وَيَقُولُ: «إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَلْتَصْبِرْ، وَلْتَحْتَسِبْ»، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ لَيَأْتِيَنَّهَا، فَقَامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمَعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَرِجَالٌ، فَرُفِعَ إلى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّبِيُّ وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا؟ فَقَالَ: «هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ».
أيها المسلمون، بل كان يُعلِّم أصحابه كيفية الصبر، وأن الصبر يكون عند صدمة المصيبة الأولى، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: مَرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر، فقال: «اتقي الله واصبري»، قالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم، فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم، فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: «إنما الصبرُ عند الصدمة الأولى»، وكان صلى الله عليه وسلم يبين للمصاب أجر المصيبة والصبر عليها، عن معاوية بن قرة عن أبيه قال: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس يجلس إليه نفر من أصحابه وفيهم رجل له ابن صغير يأتيه من خلف ظهره فيقعده بين يديه، فهلك؛ فامتنع الرجل أن يحضر الحلقة؛ لذكر ابنه، فحزن عليه، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «ما لي لا أرى فلانًا»، قالوا: يا رسول الله، بُنَيُّه الذي رأيته هلك، فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله عن بنيه فأخبره أنه هلك فعزَّاه عليه، ثم قال: «يا فلان، أيما كان أحب إليك؛ أن تمتع به عمرك، أو لا تأتي غدًا إلى باب من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه، يفتحه لك»؟ قال: يا نبي الله، بل يسبقني إلى باب الجنة فيفتحها لي، لهو أحَبُّ إلي، قال: «فذاك لك»، فقال رجل: أله خاصة أم لكلنا؟ فقال: «بل لكلكم»؛ بل إنه صلى الله عليه وسلم يلتفت إلى أدنى المصائب، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: «مَا يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِنْ نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ، وَلا هَمٍّ وَلا حُزْنٍ وَلا أَذًى وَلا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ»، فهل هناك كرم إلهي أعظم من هذا؟
ولقد كان صلى الله عليه وسلم ينهاهم عن الدعاء على أنفسهم عند المصيبة، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه ثم قال: «إن الروح إذا قبض تبعه البصر»، فضج ناس من أهله، فقال: «لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير؛ فإن الملائكة يُؤمِّنون على ما تقولون» ثم قال: «اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغامرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره، ونور له فيه»، هذا جزء من تعليمه صلى الله عليه وسلم لأمته كيفية الصبر، فاللهم جنِّبْنا شرَّ ما قضيت، وأعِنَّا على الإيمان بك وبقضائك وقدرك، إنك بنا وبالمسلمين رؤوف رحيم.
__________________________________________
الكاتب: الشيخ مشاري بن عيسى المبلع
Source link