قيام الليل سبيل المحبين، ووطن المجتهدين، مَن تمسَّك بقيام الليل فقد وصل لمرحلة الأتقياء، ووصل لدرجة الصابرين، مَن تلذَّذ به فقد امتلك مقاليد الحكم الإنساني، واستردَّ عافية القلب المريض…
قيام الليل سبيل المحبين، ووطن المجتهدين، مَن تمسَّك بقيام الليل فقد وصل لمرحلة الأتقياء، ووصل لدرجة الصابرين، مَن تلذَّذ به فقد امتلك مقاليد الحكم الإنساني، واستردَّ عافية القلب المريض، قيام الليل ليس صلاة تتكوَّن من ركوع وسجود، بل إنها صلاة القلوب والعقول، صلاة ليست أقوالًا وأفعالًا فقط، بل إنها صلاةٌ تُخَاطِب الأقوال والأفعال من قلبٍ لا يدَّعِي أنه يتنفَّل رغبةً في ثواب وأجرٍ، ليصل إلى منزلة عالية في جنة الرب الخالدة، القلب هنا يخاطب الأقوال والأفعال؛ ليكون سائرًا في جنة الآخرة وهو على أرض الدنيا، ويصل إلى رؤية الكريم المتعال بعد الانتقال من أرض الدنيا إلى أرض الآخرة، هذه الصلاة إن لم تكن سبيلًا للترقي إلى سماء الخلد، فقد ضاعت سبل السلامة المؤدِّية إلى أرض الحقيقة.
وحتى نستطيع قيام الليل علينا بأربعة أمور ظاهرة وباطنة:
“فأما الأمور الظاهرة:
فالأول: ألاَّ يكثر الأكل، فيُكثِر الشرب، فيغلبه النوم، ويثقل عليه القيام، كان بعض الشيوخ يقف على المائدة كل ليلة، ويقول: معاشر المريدين، لا تأكلوا كثيرًا، فتشربوا كثيرًا، فترقدوا كثيرًا، فتتحسروا عند الموت كثيرًا، وهذا هو الأصل الكبير، وهو تخفيف المَعِدَة عن ثقل الطعام.
الثاني: ألاَّ يُتعِب نفسه بالنهار في الأعمال التي تعيا بها الجوارح، وتضعف بها الأعصاب، فإن ذلك أيضًا مجلبة للنوم.
الثالث: ألا يترك القيلولة بالنهار، فإنها سنة؛ للاستعانة على قيام الليل.
الرابع: ألا يحتقب الأوزار بالنهار؛ فإن ذلك ممَّا يقسِّي القلب، ويَحُول بينه وبين أسباب الرحمة، قال رجل للحسن: يا أبا سعيد، إني أبيتُ معافىً، وأحب قيام الليل، وأعد طهوري، فما بالي لا أقوم؟ فقال: ذنوبك قيَّدتك، وكان الحسن رحمه الله إذا دخل السوق فسمع لغطهم ولغوهم، يقول: أظن أن ليل هؤلاء ليل سوء، فإنهم لا يقيلون.
وقال بعض العلماء:
إذا صُمْتَ يا مسكين، فانظر عند مَن تفطر، وعلى أي شيء تفطر، فإن العبد ليأكل أكلة، فينقلب قلبه عمَّا كان عليه، ولا يعود إلى حالته الأولى؛ فالذنوب كلها تُورِث قساوة القلب، وتمنع من قيام الليل، وأخصها بالتأثير تناولُ الحرام، وتؤثر اللقمة الحلال في تصفية القلب وتحريكه إلى الخير، ما لا يؤثر غيرها، ويعرف ذلك أهل المراقبة للقلوب بالتجربة بعد شهادة الشرع له؛ ولذلك قال بعضهم: كم من أكلة منعت قيام ليلة، وكم من نظرة منعت قراءة سورة! وإن العبد ليأكل أكلة أو يفعل فعلة فيُحرَم بها قيام سنة.
وأما الميسِّرات الباطنة، فأربعة أمور:
الأول: سلامة القلب عن الحقد على المسلمين، وعن البدع، وعن فضول هموم الدنيا، فالمستغرق الهم بتدبير الدنيا، لا يتيسر له القيام، وإن قام فلا يتفكر في صلاته إلا في مهماته، ولا يجول إلا في وساوسه، وفي مثل ذلك يقال:
يخبرني البوَّابُ أنك نائم *** وأنتَ إذا استيقظتَ أيضًا فنائم
الثاني: خوف غالب يلزم القلب مع قصر الأمل، فإنه إذا تفكر في أهوال الآخرة ودركات جهنم، طار نومه وعظم حذره؛ كما قال طاوس: إن ذكرَ جهنَّم طيَّر نوم العابدين، وكما حكي أن غلامًا بالبصرة اسمه صهيب، كان يقوم الليل كله، فقالت له سيدته: إن قيامك بالليل يضر بعملك بالنهار، فقال: إن صهيبًا إذا ذكر النار لا يأتيه النوم، وقيل لغلام آخر، وهو يقوم كل الليل، فقال: إذا ذكرت النار اشتد خوفي، وإذا ذكرت الجنة اشتد شوقي، فلا أقدر أن أنام.
الثالث: أن يعرف فضل قيام الليل بسماع الآيات والأخبار والآثار، حتى يستحكم به رجاؤه وشوقه إلى ثوابه، فيهيجه الشوق لطلب المزيد، والرغبة في درجات الجنان؛ كما حكي “أن بعض الصالحين رجع من غزوته فمهَّدت امرأتُه فراشَها وجلست تنتظره، فدخل المسجد ولم يزل يصلي حتى أصبح، فقالت له زوجته: كنا ننتظرك مدة، فلما قدمت صليت إلى الصبح؟ قال: والله إني كنت أتفكر في حوراء من حور الجنة طول الليل، فنسيت الزوجة والمنزل، فقمت طول ليلتي شوقًا إليها”.
الرابع: وهو أشرف البواعث؛ الحب لله، وقوة الإيمان بأنه في قيامه لا يتكلم بحرف إلا وهو مناجٍ ربه، وهو مطلع عليه مع مشاهدة ما يخطر بقلبه، وأن تلك الخطرات من الله تعالى خطاب معه، فإذا أحب الله تعالى أحب لا محالة الخلوة به، وتلذَّذ بالمناجاة، فتحمله لذة المناجاة بالحبيب على طول القيام، ولا ينبغي أن يستبعد هذه اللذة؛ إذ يشهد لها العقل والنقل، فأما العقل، فليعتبر حال المحب لشخص بسبب جماله، أو الملك بسبب إنعامه وأمواله، أنه كيف يتلذَّذ به في الخلوة ومناجاته، حتى لا يأتيه النوم طول ليله.
فإن قلت: إن الجميل يتلذَّذ بالنظر إليه وإن الله تعالى لا يرى؟
فاعلم أنه لو كان الجميل المحبوب وراء ستر، أو كان في بيت مظلم، لكان المحب يتلذَّذ بمجاورته المجردة دون النظر ودون الطمع في أمر آخر سواه، وكان يتنعم بإظهار حبه عليه، وذكره بلسانه بمسمع منه، وإن كان ذلك أيضًا معلومًا عنده.
فإن قلت: إنه ينتظر جوابه، فليتلذَّذ بسماع جوابه وليس يسمع كلام الله تعالى؟
فاعلم أنه إن كان يعلم أنه لا يجيبه ويسكت عنه، فقد بقيت له أيضًا لذَّة في عرض أحواله عليه، ورفع سريرته إليه، كيف والموقن يسمع من الله تعالى كل ما يَرِدُ على خاطره في أثناء مناجاته فيتلذذ به؟!
وكذا الذي يخلو بالملك، ويعرض عليه حاجاته في جنح الليل، يتلذَّذ به في رجاء إنعامه، والرجاء في حق الله تعالى أصدق، وما عند الله خير وأبقى، وأنفع مما عند غيره، فكيف لا يتلذَّذ بعرض الحاجات عليه في الخلوات؟” (إحياء علوم الدين للغزالي).
علاقة قيام الليل بالنصر:
قيام الليل بداية النصر، النصر على الأعداء، ومنهم بنو صهيون، فهي تربِّي القلوب والعقول؛ ولذلك تجعل الإنسان صاحب سلطة على النفس، ومَن يمتلك نفسه فقد انتصر عليها، وإن انتصر الإنسان على نفسه، فهو بالتالي قادر على النصر على عدوه، ومن هذا المنطلق فإن قيام الليل بداية النصر على الأعداء، الإنسان الذي يتحدَّى شهوة النوم التي تغلب كل البشر، وينتصر عليها؛ ليقوم مناجيًا ربه بلا جزع أو فزع، فهو صاحب قوة، لا يمكن مضاهاتها أينما وجد، هذا الإنسان لن يكون ضعيف القلب حيران، وإن كان كذلك، فلا مجال للهزيمة أمام أناس لا يمتلكون قلوبهم، بل قلوبهم تتملكهم، وعليه فإن مواجهتهم سهلة المنال، لن يكون فيها خوف أو جبن، وسيكون النصر بإذن الله تعالى واقعًا.
الإنسان الذي يتغلَّب على شهوة الفرج، ويترك زوجته على فراش الزوجية، ويناديه الفراش، ويقول: كيف تترك زوجتك هكذا، ولا تتمتع بها في هذا الوقت؟ ليصلي ركعات يُرضِي ربه، فهو قادر على مواجهة العدو بكل قوته المادية والمعنوية، ومغرياته الدنيوية، هذا الإنسان قادر على تتبع بؤر العدو والقضاء عليها.
الإنسان الذي يستطيع التغلُّب على ضعف بدنه، بسبب عمله بالنهار، ويقوم للصلاة في الليل، فهو مستعدٌّ للتغلُّب على العدو، ولو كان ضعيف البدن بسبب قوة العدو عدة وعتادًا حين القتال.
الإنسان الذي يتغلَّب على برودة الليل، ويقوم مناجيًا ربه، فهو قادر على النصر على مَن تسوِّل له نفسه ضرب الدين والوطن، كما هو معهود على الصهاينة الذين يحاولون ضرب الإسلام والوطن للقضاء عليهما.
وعلى كل ذلك؛ فإن قيام الليل مدرسةٌ لمَن يُرِيد تعلُّم مواجهة العدو بكل مؤامراته، قيام الليل أرضٌ خصبة لتربية الرجال، قيام الليل سبيل مهم للنصر على الأعداء، وكما قيل: إن القادة في الحروب إذا مرُّوا على الجنود ورأوهم يقيمون الليل، يقولون: من هنا يأتي النصر، وإذا وجدوا الجنود نائمين ولاهين يقولون: من هنا تأتي الهزيمة.
ثواب قيام الليل:
لقيام الليل ثواب عظيم، لا يعلمه إلا الله تعالى هذا الثواب ليس فقط النصر على الأعداء، بل هناك ثواب آخر، ولن أجد أفضل من الأخبار الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم للحديث عن هذا الثواب:
• في الصحيح عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن من الليل ساعة لا يُوَافِقها عبد مسلم يسأل الله تعالى خيرًا إلا أعطاه إياه»، وفي رواية: «يسأل الله تعالى خيرًا من الدنيا والآخرة، وذلك في كل ليلة».
• قال المُغِيرة بن شُعْبة: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تفطَّرت قدماه، فقيل له: “أما قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخَّر؟”، فقال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا»، ويظهر من معناه أن ذلك كناية عن زيادة الرتبة، فإن الشكر سبب المزيد؛ قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم من الآية:7].
• قال صلى الله عليه وسلم: «ما من امرئ تكون له صلاة بالليل فيَغْلبه عليها النوم إلا كتب له أجرُ صلاته، وكان نومه صدقةً عليه» (رواه الإمام مالك).
• قال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه: «لو أردت سفرًا أعددت له عدة؟»، قال: نعم، قال: «فكيف سفر طريق القيامة؟ ألا أنبئك يا أبا ذر بما ينفعك ذلك اليوم؟»، قال: بلى، بأبي أنت وأمي، قال: «صم يومًا شديد الحر ليوم النشور، وصلِّ ركعتين في ظلمة الليل لوحشة القبور، وحُجَّ حجة لعظائم الأمور، وتصدَّق بصدقة على مسكين، أو كلمة حتى تقولها أو كلمة شر تسكت عنها» (مرسل؛ من رواية السري بن مخلد).
• يروى أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم: نِعْمَ الرجل ابن عمر لو كان يصلِّي بالليل، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فكان رضي الله عنه يداوم بعده على قيام الليل، قال نافع: “كان يصلي بالليل، ثم يقول: يا نافع، أسحرنا؟ فأقول: لا، فيقوم لصلاته، ثم يقول: يا نافع، أسحرنا؟ فأقول: نعم، فيقعد، فيستغفر الله تعالى حتى يطلع الفجر“.
• قال صلى الله عليه وسلم: «رحم الله رجلًا قام من الليل فصلَّى، ثم أيقظ امرأته فصلَّت، فإن أبت نضح في وجهها الماء» (رواه أصحاب السنن).
• قال صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل» (رواه مسلم والترمذي وغيرهما).
• قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نام عن حِزبِه، أو عن شيٍء منه، فقرأَه فيما بين صلاةِ الفجرِ وصلاةِ الظهرِ، كُتِبَ له كأنما قرأَه من الليلِ» (رواه مسلم).
• عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم “كان يصلي حتى تَرِمَ قدماه”.
• عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تبارك وتعالى إذا مضى ثلث الليل، -أو قال-: نصف الليل؛ نزل إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من داعٍ أستجيب له؟ هل من مستغفرٍ أغفر له؟ هل من تائب أتوب عليه؟ حتى يطلع الفجر» (الدارقطني).
• عن عائشة رضي الله عنها قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يصلي افتتح صلاته بركعتين خفيفتين”.
• قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضلُ الصلاةِ، بعد الصلاةِ المكتوبةِ، الصلاةُ في جوفِ الليل، وأفضلُ الصيامِ، بعد شهرِ رمضانَ، صيامُ شهرِ اللهِ المُحرَّمِ» (رواه مسلم).
• عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن استيقظ من الليل وأيقظ امرأته فصلَّيا ركعتين جميعًا، كُتِبا من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات» (رواه النسائي).
• عن سالم ٍعن أبيه رضي الله تعالى عنه قال: “كان الرجل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصَّها على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتمنَّيت أن أرى رؤيا فأقصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنتُ غلامًا شابًّا، وكنتُ أنام في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيتُ في النوم كأن مَلَكينِ أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا لها قرنان، وإذا فيها أناس قد عَرَفتُهم، فجعلتُ أقول: أعوذ بالله من النار، قال فلقينا ملك آخر، فقال لي: لم تُرَعْ، فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «نِعْمَ الرجل عبدالله لو كان يصلي من الليل، فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلًا» (رواه البخاري).
• عن بلال رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بقيامِ الليلِ، فإنه دأْبُ الصالحينَ قبلكُم، وقُرْبَةٌُ لكم إلى ربكم، ومكفرةٌ، للسيئاتِ، ومَنْهاةُ عن الإثمِ» (رواه البغوي).
• عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكمْ بقيامِ الليلِ فإنَّه دأبُ الصالحينَ قبلكمْ، و قربةٌ إلى اللهِ تعالى، و منهاةٌ عنِ الإثمِ، و تكفيرٌ للسيئاتِ، و مطردةٌ للداءِ عنِ الجسدِ» (رواه السيوطي).
قصص لها عبرة من قيام الليل:
قوَّام الليل من السلف الصالح كان لهم قصص عجيبة من قيام الليل، هذه القصص لها من العبر التي تحث المسلمين على قيام الليل، مَن أخذها وعَلِم فحواها، فقد استمسك بخير ما فيها، ومَن لم يهتمَّ بهذه العبر، فلا يلومنَّ إلا نفسه، هذه القصص والروايات من أقوال وأفعال العلماء:
• روي أن عمر رضي الله عنه كان يمرُّ بالآية من ورده بالليل فيسقط حتى يعاد منها أيامًا كثيرة كما يعاد المريض.
• كان ابن مسعود رضي الله عنه إذا هدأت العيون، قام فيُسْمَع له دَوِيٌّ كدَوِي النحل حتى يُصِبح.
• كان طاوس رحمه الله إذا اضطجع على فراشه يتقلى عليه كما تتقلى الحبة على المقلاة، ثم يثب ويصلي إلى الصباح، ثم يقول: “طيَّر ذكرُ جهنم نومَ العابدين”.
• قال الحسن رحمه الله: “ما نعلم عملًا أشد من مكابدة الليل، ونفقة هذا المال، فقيل له: ما بال المتهجِّدين من أحسن الناس وجوهًا؟ قال: لأنهم خَلَوا بالرحمن فألبسهم نورًا من نوره، وقال الحسن: إن الرجل ليذنب الذنب فيُحرَم به قيام الليل”.
• قَدِم بعض الصالحين من سفره فمهِّد له فراش، فنام عليه حتى فاته وِرْده، فحلف ألا ينام بعدها على فراش أبدًا.
• كان عبد العزيز بن رواد إذا جنَّ عليه الليل يأتي فراشه فيمد يده عليه، ويقول: “إنك لَلَيِّن، ووالله إن في الجنة لألين منك، ولا يزال يصلي الليل كله”.
• قال الفضيل بن عياض: “إني لأستقبل الليل من أوله، فيهولني طوله، فأفتتح القرآن، فأصبح وما قضيت نهمتي”.
وقال أيضًا: “إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار، فاعلم أنك محروم وقد كثرت خطيئتك”.
وقال أيضا: “إذا غَرَبت الشمس فَرِحتُ بالظلام لخلوتي بربي، وإذا طلعت حزنت لدخول الناس عليَّ”.
• قال أبو سليمان: “أهل الليل في ليلهم ألذُّ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا”.
وقال أيضًا: “لو عوَّض الله أهل الليل من ثواب أعمالهم ما يجدونه من اللذة، لكان ذلك أكثر من ثواب أعمالهم”.
وكان صلة بن أشيم رحمه الله يصلِّي الليل كله، فإذا كان في السحر، قال: “إلهي، ليس مثلي يطلب الجنة، ولكن أجرني برحمتك من النار”.
• كان للحسن بن صالح جاريةٌ، فباعها من قوم، فلما كان في جوف الليل قامت الجارية فقالت: “يا أهل الدار، الصلاة الصلاة! فقالوا: أصبحنا، أطلع الفجر؟ فقالت: وما تصلُّون إلا المكتوبة؟ قالوا: نعم، فرجعت إلى الحسن، فقالت: يا مولاي، بعتنِي إلى قومٍ لا يصلُّون إلا المكتوبة؟ رُدَّني، فردها”.
• قال الربيع: “بتُّ في منزل الشافعي رضي الله عنه لياليَ كثيرة، فلم يكن ينام من الليل إلا يسيرًا”.
• قال أبو الجويرية: “لقد صحبتُ أبا حنيفة رضي الله عنه ستة أشهر، فما فيها ليلة وضع جنبه على الأرض”.
• كان أبو حنيفة يُحْيِي نصف الليل، فمرَّ بقوم، فقالوا: “إن هذا يحيي الليل كله، فقال: إني أستحيي أن أوصف بما لا أفعل، فكان بعد ذلك يُحْيِي الليل كله، ويروى أنه ما كان له فراش بالليل”.
• يقال: إن مالك بن دينار رضي الله عنه بات يردِّد هذه الآية ليلةً حتى أصبح: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21].
وقال المغيرة بن حبيب: “رمقت مالك بن دينار فتوضَّأ بعد العشاء، ثم قام إلى مصلاه فقبض على لحيته فخنقتْه العَبْرة، فجعل يقول: حَرِّم شيبةَ مالكٍ على النار، إلهي، قد علمت ساكن الجنة من ساكن النار، فأي الرجلين مالك؟ وأي الدارين دار مالك؟ فلم يزل ذلك قولَه حتى طلع الفجر”.
وقال مالك بن دينار: “سهوتُ ليلة عن وِرْدي ونمتُ، فإذا أنا في المنام بجارية كأحسن ما يكون، وفي يدها رقعة، فقالت لي: أتحسن تقرأ؟ فقلت: نعم”، فدفعت إليَّ الرقعة فإذا فيها:
أألهتْكَ اللذائذُ والأماني *** عن البِيضِ الأوانس في الجنانِ
تعيشُ مخلَّدًا لا موتَ فيها *** وتلهو في الجنانِ مع الحِسَانِ
تنبّه من منامِك إن خيرًا *** من النومِ التهجُّد بالقُرانِ
• يروى عن أزهر بن مغيث -وكان من القوَّامين- أنه قال: “رأيتُ في المنام امرأة لا تشبه نساء أهل الدنيا، فقلت لها: من أنت؟ قالت: حوراء؛ فقلت: زوجيني نفسك، فقالت: اخطبني إلى سيدي وأمهرني؛ فقلت: وما مهرك؟ قالت: طول التهجُّد”.
• قيل: إن وهب بن منبه اليماني ما وضع جنبه إلى الأرض ثلاثين سنة، وكان يقول: “لأن أرى في بيتي شيطانًا أحب إليَّ من أن أرى في بيتي وسادة؛ لأنها تدعو إلى النوم، وكانت له مسورة من أدم، إذا غلبه النوم وضع صدره عليها، وخفق خفقات ثم يفزع إلى الصلاة”.
قال وهب بن منبه: “قيام الليل يشرف به الوضيع، ويعز به الذليل، وصيام النهار يقطع عن صاحبه الشهوات، وليس للمؤمن راحة دون دخول الجنة”.
• عن معاوية بن قرة، أنه حدَّث القوم، فقرأ هذه الآية: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} [المزمل:6]، فقال: “أتدرون ما ناشئة الليل؟ قال: قيام الليل”.
• كان رجلٌ من العبَّاد قلما ينام من الليل، فغلبتْه عينه ذات ليلة، فنام عن جزئه، فرأى فيما يرى النائم كأن جارية وقفت عليه كأن وجهها القمر المستَتِم، ومعها رَقٌّ فيه كتاب، فقالت: “أتقرأُ أيها الشيخ؟ قال: نعم، قالت: فاقرأ لي هذا الكتاب”، قال: “فأخذته من يدها، ففتحته فإذا فيه مكتوب: أألهتْك لذَّة نوم عن خير عيش مع الخيرات، في غرف الجنان، تعيش مخلدًا لا موت فيها، وتنعم في الخيام مع الحسان، تيقظ من منامك إن خيرًا من النوم التهجد بالقرآن، قال: فوالله ما ذكرتها قط إلا ذهب عني النوم”.
• عن الأجلح قال: “رأيت سلمة بن كهيل في النوم”، فقلت: “أي الأعمال وجدت أفضل؟ قال: قيام الليل”.
• عن الضحاك قال: “أدركتُ أقوامًا يَسْتَحْيُون من الله في سواد الليل أن يناموا من طول الضجعة”.
• قال أبو غالب: “صَحِبَنا شيخٌ في بعض المغازي، وكان يحيي الليل حيث كان، على ظهر دابته، أو على الأرض، وكان إذا نظر إلى الفجر قد سطع ضوؤه نادى: يا إخوتاه، عند بلوغ الماء يفرح الواردون بتعجيل الرواح، هنالك تنقطع كل همة”.
• قال أبو مدرك عثمان بن وكيع العبدي: “جاء رجل إلى بيت المقدس فمدَّ كساءه من ناحية المسجد، وكان فيه الليل والنهار له طعيمة خلف ذلك الكساء الذي قد مدَّه”، قال: “فيبيت ليلته أجمع يصلي فإذا طلع الفجر مد بصوت له: عند الصباح يغبط القوم السرى”، قال: وكان يقال له: ألا ترفق بنفسك؟ فيقول: “إنما هي نفس أُبَادِرها أن تخرج”.
• عن مولًى لعبد الله بن حنظلة يقال له سعد، قال: “لم يكن لعبد الله بن حنظلة فراش ينام عليه، إنما كان يلقي نفسه هكذا، إذا أعيا من الصلاة توسَّد رداءه وذراعه يهجع شيئًا”.
• قال عبد الله بن أبي زينب: قالت لي أمي: “يا بني، ما توسد أبوك فراشًا منذ أربعين سنة في بيتي”، قلت: أما كان ينام؟ قالت: “بلى، هجعة خفيفة وهو قاعد قبل الفجر”؛ الهجعة: النومة في وقت من الليل.
• كانت معاذة العدوية تحيي الليل صلاةً، فإذا غلبها النوم قامتْ فجالت في الدار، وهي تقول: “يا نفس، النوم أمامك، لو قدمت لطالت رقدتك في القبر على حسرة أو سرور”، قالت: فهي كذلك حتى الصبح.
وقيل: “إن معاذة العدوية لم تتوسد فراشًا بعد أبي الصهباء حتى ماتت”.
وعن معاذة العدوية قالت: “كان صلة بن أشيم يقوم من الليل حتى يفتر، فما يجيء إلى فراشه إلا حبوًا”.
• قال الهيثم أبو علي المفلوج: “صلى سليمان التَّيْمِي الغداةَ بوضوء العتمة أربعين سنة”؛ يعني: كان يصلي الصبح بوضوء العشاء، وهذا دليل على أنه كان لا ينام الليل.
• قال أبو إسحاق السَّبِيعي: “ذهبت الصلاة مني، وضعفتُ ورقَّ عظمي، إني اليوم أقوم في الصلاة فما أقرأ إلا البقرة وآل عمران”.
• قال سفيان بن عُيَينة: “كان أبو إسحاق يقوم ليلة الصيف كله، فأما الشتاء فأوله وآخره وبين ذلك هجعة”.
عن سفيان قال: “قال عون بن عبد الله: يا أبا إسحاق، ما الذي بقي منك؟ قال: أقوم فأقرأ البقرة في ركعة وأنا قائم”، قال: “بقي فيك الخير وذهب منك الشر”.
• عن عبد السلام بن حرب قال: “ما رأيتُ أحدًا قط أصبر على سهر بليل مِن خلف بن حوشب، سافرتُ معه إلى مكة فما رأيته نائمًا بليل حتى رجعنا إلى الكوفة”.
• كان منصور بن المُعتَمِر إذا صلى الغداة أظهر النشاط لأصحابه فيحدِّثهم ويكثر إليهم، ولعله إنما بات قائمًا على أطرافه، كل ذلك ليخفي عنهم العمل.
• كان الحارث بن يزيد الحضرمي يصلِّي في اليوم والليلة ستمائة ركعة.
• كان لرياح القيسي غلٌّ من حديد قد اتَّخذه، فكان إذا جنَّه الليل وضعه في عنقه، وجعل يبكي ويتضرع حتى يُصبِح.
_________________________________
الكاتب: فتحي حمادة
Source link