التصعيد الإسرائيلي في الضفة.. دوافع معروفة ومآلات مجهولة

لقد كان الهجوم على حوارة قاسيًا لدرجة أن زعيمة حزب العمل المعارض، ميراف ميخائيلي، وصفت الهجوم على القرية بالمذبحة، وكان لافتًا أن هجمات المستوطنين قد وقعت تحت حماية جيش الاحتلال

لم يكن المستوطنون الصهاينة المتأهبون لإشعال النيران في قرية حوارة الفلسطينية بالضفة الغربية في حاجة إلى ضوء أخضر كي يرتكبوا أفعالهم الشنيعة بحق سكان القرية؛ إذ يكفي أن تكون هناك حكومة يمينية متطرّفة على رأس سلطة الاحتلال، تشاركهم نفس الأفكار المتطرّفة ونفس العنف والعداء للفلسطينيين، لا سيما في ظلّ وجود وزراء متطرفين مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، فهذا وحده لا يُبشِّر بأيّ تهدئة في الأوضاع بل يشي بتطرفٍ لا تُعرَف نهايته، خاصةً وأن الأول لديه سجلّ طويل من جرائم دَعْم الإرهاب والتحريض على العنف والعنصرية وكراهية دفينة للعرب والفلسطينيين، والثاني هو زعيم المستوطنين اليهود المتطرفين في الضفة الغربية، وسبق أن قال علنًا: إنه ينوي تغيير خريطتها عبر إضافة المزيد من المستوطنات والبؤر الاستيطانية.

وفيما يستمر عنف المستوطنين تحت حماية قوات الاحتلال يتصاعد الوضع المتأزم في الضفة الغربية وصولًا إلى نقطة الغليان، صحيح أنه قد يكون من السابق لأوانه الحديث الآن عن انتفاضة ثالثة، بَيْدَ أنَّ الوضع قد يتدهور بشكل خطير ومتسارع في ظل وجود دوافع معروفة تؤهّله لذلك، فتتلاشى على الفور التفاهمات التي تعوّل عليها السلطتان؛ سلطة الاحتلال والسلطة الفلسطينية، وتصبح مآلاته مجهولة ورهينة مجريات ردة فعل الفلسطينيين الثائرين لوطنهم.

عنف متأصل

بينما كانت الأنباء تتوارد عن إجراء السلطتين الفلسطينية والإسرائيلية، في العقبة بالأردن محادثات سرية -بحضور ممثلين من مصر والأردن والولايات المتحدة- لتهدئة التوترات، كانت هناك محاولة أيضًا لتحريك الأمور صوب إجراء مفاوضات فلسطينية إسرائيلية فعلية تجاه إقامة دولة فلسطينية في المستقبل، وهي مفاوضات لم تحدث منذ نهاية عهد إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، كانت المفاوضات الأخيرة تحمل احتمالًا ضئيلًا لحدوث أيّ تقدُّم دبلوماسي، لكنها في النهاية خرجت ببيان يتضمَّن 8 التزامات؛ أوّلها إعادة التأكيد على ضرورة الالتزام بخفض التصعيد على الأرض ومنع المزيد من العنف، لكنَّ هذا الالتزام لم يصمد حتى مساء يوم صدور البيان، فقد ترك المستوطنون حطامًا مشتعلًا في أنحاء قرية حوارة، كالذئاب الشاردة أضرم المئات من المستوطنين الصهاينة النيران في منازل 30 فلسطينيًّا على الأقل، وكذلك في نحو 100 سيارة، وأسقطوا شهيدًا إلى جانب مئات الإصابات بين صفوف سكان القرية، كان المستوطنون بحاجة إلى شرارةٍ لتشعل ثورتهم الهوجاء، وقد منحهم إياها وزير المالية بتسلئيل سموتريتش الذي دعا إلى محو هذه القرية من الوجود، لم تكن تصريحاته جديدة، فهناك ما هو أسوأ منها على مرّ تاريخ الاحتلال، إلا أنها تأتي وسط تزايد هجمات المستوطنين والتي تتفاقم منذ مارس 2022م، واستمرت منذ ذلك الحين بوتيرة متصاعدة بإيعاز مُعلَن من المسؤولين الإسرائيليين.

وفقًا لتتبُّع أجراه مكتب تابع للأمم المتحدة؛ فقد وقع أكثر من 660 هجومًا للمستوطنين على فلسطينيين في عام 2022م، على الرغم من أن المراقبين يقولون: إن العدد قد يكون أكبر بكثير في ظل عدم الإبلاغ عن كل الحوادث من باب أنها أصبحت روتينية إلى حدّ كبير، وقد تسبَّبت هذه الهجمات في سقوط مئات الشهداء الفلسطينيين في القدس والضفة الغربية، وتدمير وتخريب العديد من المنازل والمتاجر ومساحات واسعة من المحاصيل، ولا شك أن وصول حكومة تنتمي إلى أقصى اليمين المتطرف إلى سدة الحكم، يعني تصاعد الغارات العسكرية وتزايد اعتداءات المستوطنين.

هجوم مريع:

على الرغم من أن حجم المجزرة في حوارة كان مقلقًا للغاية؛ إلا أن رد فعل مسؤولي الحكومة الصهيونية -التي تُعدّ هي الأكثر يمينية في تاريخ الكيان الإسرائيلي- كان مريعًا أيضًا؛ فبعض هؤلاء المسؤولين أشادوا بالهجوم، وآخرون أبدوا عدم رفضهم لما فعله المستوطنون خلال هذا الهجوم المروع، منهم على سبيل المثال عضو الكنيست زفيكا فوغل -المنتمي للحزب اليميني المتطرف عوتسما يهوديت، وهو جزء من الائتلاف الحاكم لنتنياهو-؛ حيث صرح عقب الهجوم على حوارة قائلًا: «حوارة مغلقة ومحترقة الآن، هذا كل ما أريد أن أراه»، مضيفًا: «هذه هي الطريقة الوحيدة لتحقيق الردع».

لقد كان الهجوم على حوارة قاسيًا لدرجة أن زعيمة حزب العمل المعارض، ميراف ميخائيلي، وصفت الهجوم على القرية بالمذبحة، وكان لافتًا أن هجمات المستوطنين قد وقعت تحت حماية جيش الاحتلال الذي وقف كشريك صامت في الجريمة من خلال عمله على حماية المهاجمين الإسرائيليين، وليس الدفاع عن الأبرياء الفلسطينيين.

 وبشكل عام فإن التحقيقات ضد المستوطنين الذين ارتكبوا جرائم منذ عام 2005م كانت صورية، وانتهت في معظمها دون توجيه اتهامات لأحدٍ، لكنَّ الأمر المختلف مع بداية عام 2023م هو أن المستوطنين المتطرفين قد باتوا موجودين الآن في الحكومة ويديرون الوزارات، وهو ما يزيد من جرأة المستوطنين الآخرين على الأرض في ظل قانون واحد لليهود ليفعلوا ما يحلو لهم، وقانون آخر للفلسطينيين ليفعلوا ما يُطلب منهم.

وضع متأزم:

في خضم أسوأ التوترات على الأرض كان هناك دائمًا أُفق سياسي للتفاوض، حتى وإن كان الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي إلى جانب الأطراف الدولية يدركون جيدًا أنه لا يوجد أيّ بصيص أمل في الوصول إلى حلّ حقيقي للقضية، الجديد الآن هو أن مجرد التظاهر لدى الطرف الإسرائيلي بأنه ملتزم بالتفاوض قد بات مستحيلًا، فقد هاجم كلّ من سموتريتش وبن غفير رئيسهم (بنيامين نتنياهو) علنًا، لمجرد أنه أرسل وفدًا إلى الأردن، ولأنه استجاب للمطالب الأمريكية الرامية إلى إبطاء بناء المستوطنات، فلم يعد الوزراء الإسرائيليون يتورّعون في انتقاد رؤية نظرائهم الأمريكيين علنًا، وذلك على الرغم من دعم الولايات المتحدة اللامحدود لإسرائيل، فلطالما وقفت واشنطن لمنع قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ضد إسرائيل، كما عرقلت محاولات الفلسطينيين لإحالة سلطات الاحتلال إلى المحكمة الجنائية الدولية، ولم يتوقف هذا الدعم المباشر وغير المباشر من قبل مطلقًا، لدرجة أن بعض نواب الكونغرس -وفي ظل حالة الجفاف بين الإدارة الأمريكية وحكومة نتنياهو- قد تقدّموا قبل أيام قليلة بمشروع قانون لتقليل مساهمة بلادهم في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين «أونروا» عبر اقتصار تعريف اللاجئين على الجيل الأول الذي تعرَّض للتهجير المباشر وأبنائهم القُصّر وأزواجهم، وهو ما سيُمهِّد لنزع صفة لاجئ عن الكثيرين، وبالتالي تقليص عدد اللاجئين من نحو 6 ملايين إلى عشرات الآلاف، وسيقود في النهاية إلى إلغاء وضع اللجوء، وإعادة تعريف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي عبر تقديم رواية مشوّهة ومزورة للتاريخ.

على مدى العقدين الماضيين توسعت المستوطنات الإسرائيلية المبنية على أراضٍ في الضفة الغربية المحتلة والقدس الشرقية، والتي يعتبرها المجتمع الدولي غير قانونية، وأصبح اليوم هناك أكثر من 685 ألف مستوطن صهيوني يعيشون في تلك البؤر السرطانية التي تلتهم أرض فلسطين، وهو ما يُشكِّل عائقًا رئيسيًّا أمام إقامة دولة فلسطينية مستقلة، إضافةً إلى حملة القمع الإسرائيلية غير المتناسبة والتي تجعل الوضع الراهن في الأراضي الفلسطينية المحتلة والمحاصرة لا يُطاق ولا يمكن تحمُّله، لا سيما وأن النهج الإسرائيلي في إدارة التحديات الأمنية من الفلسطينيين يقوم على مبدأ استعمال القوة المفرطة وعدم تقديم التنازلات، وكان من اللافت خلال الأيام القليلة الماضية إصدار بن غفير أوامره لشرطة الاحتلال بمواصلة تنفيذ أوامر هدم منازل الفلسطينيين في القدس حتى خلال فترة شهر رمضان المبارك، ولا شك أن هذه الخطوة ستكون بمثابة إشعال عود ثقاب ورميه في برميل من البارود، وستزيد من الضغوط على حكومة نتنياهو التي تعاني منها بالفعل.

كل هذه العوامل أيضًا ستجعل الفلسطينيين يلجؤون إلى إجراءات وردود فعل مختلفة؛ لأن التهديد أصبح أكثر حضورًا وخطورةً، فظهرت مجموعات مقاومة جديدة لديها إحباط مكبوت من القيادات الفلسطينية الموجودة وجماعات المقاومة التقليدية، مثل جماعة عرين الأسود في الضفة الغربية، وكتائب جنين وجماعات أخرى في بعض المناطق التي يكون فيها عنف المستوطنين أشد حدة، وقد نفَّذت هذه الجماعات بالفعل هجمات على المستوطنين والجنود الإسرائيليين، صحيح أن بعض الهجمات الفلسطينية على المستوطنين قد لا ينتمي مُنفّذها إلى أيٍّ من هذه الجماعات، ولكنّها تعكس هذا اللجوء المتزايد إلى المقاومة المسلحة.

أزمة السلطتين:

تأتي التوترات الأخيرة في وقتٍ تعاني فيه حكومة نتنياهو من عاصفة تجمع بين الاضطرابات الاقتصادية والمخاوف الأمنية والاحتجاجات الشعبية بسبب تعديلاتها المقترحة على النظام القضائي، فحتى الآن يتظاهر عشرات الآلاف من المحتجين ضد ما يعتبرونه انقلابًا من نتنياهو على القضاء الإسرائيلي في محاولة لإلغاء استقلاليته، ويُضاف إلى كل ذلك الانتقادات الدولية المتزايدة بسبب طموح وزراء الحكومة الصهيونية الحالية في حرمان الفلسطينيين من دولتهم الخاصة وعرقلة أيّ اتفاق من خلال الاستمرار في بناء المستوطنات، ومع ذلك قد تكمن أكبر مشاكل نتنياهو في الوقت الحالي في الضفة الغربية، فإذا استمرت هجمات المستوطنين سيجد نتنياهو نفسه في مواجهة مباشرة مع جبهة فلسطينية كانت لفترة طويلة شبه هادئة، إلى جانب مواجهة أخرى مع المجتمع الدولي المستمر في انتقاداته لنتنياهو بسبب تهديده لما يصفونه بـ«الديمقراطية الإسرائيلية»، وهو ما قد يؤثر على الدعم السياسي الغربي لتلك الحكومة.

أزمة أخرى قد تشهدها إسرائيل خلال الأسابيع المقبلة؛ إذ حذر المئات من ضباط الاحتياط في سلاح الجو والوحدات الخاصة والاستخبارات، الحكومة، من أنهم لن يخدموا في وحداتهم إذا ما أقدمت الحكومة على إضعاف المحكمة العليا؛ الصدمة تأتي من أن الجهود التي بُذِلَت طيلة العقود الماضية لإبعاد الجيش والوحدات الاستخباراتية عن التدخل في السياسة الداخلية قد ذهبت سُدًى، ورغم تحذيرات نتنياهو من أن رفض الخدمة العسكرية هو بمثابة خط أحمر، وأنه لا يجب تدخُّل الجيش في الشأن السياسي، إلا أن تحذيراته لم تلقَ أيَّ صدًى، وقد سعى وزير الدفاع يوآف غالانت ورئيس الأركان هرتسي هاليفي لطمأنة ضباط الاحتياط، ولكن دون جدوى؛ حيث تتواصل الاحتجاجات ضد حكومة نتنياهو، وباتت المخاوف الكبرى تكمن في أن تنتقل حالة الغضب الموجودة بين جنود وضباط الاحتياط إلى القوات النظامية العاملة.

على الجانب الآخر، تعاني سلطة الرئيس الفلسطيني محمود عباس من ضعفٍ متزايدٍ، وسط حالة من ضبابية الرؤية وغياب أيّ فرصة لحلحلة الوضع السياسي، لا سيما وأن الفلسطينيين لم يصوتوا في أي انتخابات عامة منذ عام 2006م، يُضاف إلى ذلك أن الكثير من الفلسطينيين لا يشعرون بأن القيادة المُسنّة قادرة على إحداث تغيير ملموس في قضيتهم، ولا شك أن الأحاديث عن خلافة عباس قد بدأت منذ زمن ليس بالقريب، ربما يأمل الرئيس الفلسطيني الذي قارب على التسعين من عمره في أن تُمرَّر السلطات بسلاسة كما حدث في وقت سابق عندما تسلم هو رئاسة السلطة الفلسطينية بعد وفاة ياسر عرفات، بَيْدَ أنَّ الأجواء مختلفة، والسيناريوهات غير مضمونة كثيرًا في الوقت الراهن؛ فمن جهة تعتبر حركة فتح أن رئاسة السلطة ورئاسة المجلس المركزي وزعامة منظمة التحرير حق من حقوقها، بالرغم من أن هذا غير منصوص عليه لا قانونيًّا ولا دستوريًّا، لكن من جهة أخرى باتت هذه النظرة ليست محل إجماع بين الأطراف الفلسطينية، يُضاف إلى ذلك وجود عدة معطيات مرتبطة بذوي المصالح عربيًّا وإقليميًّا ودوليًّا، ناهيك عن الدور الإسرائيلي.

مآلات مجهولة:

قد يكون من الخطأ القول بأن الحكومة الصهيونية الحالية هي السبب في تدهور الأوضاع؛ فالأدق أن نقول: إنها قد سرَّعت من التدهور فحسب، فالحكومة التي سبقتها -ورغم أنها لم تُوصَف على نطاق واسع بأنها يمنية متطرفة- كانت منخرطة أيضًا بعمق في بناء المستوطنات وهدم منازل الفلسطينيين، وتنفيذ الاعتقال الإداري، وزيادة عدد الشهداء الفلسطينيين سنويًّا، كما أنها كانت داعمة قوية لعنف المستوطنين، وقد كان تأثير هذا العنف على الشعب الفلسطيني مدمرًا، فهو لم يتسبب فقط في أضرار مادية، لكنه أيضًا خلق شعورًا بالخوف وانعدام الأمن، مما جعل من الصعب على الفلسطينيين الإيمان بإمكانية التوصل إلى حل سلمي للصراع، وجود حكومة الاحتلال الحالية أيضًا يسهم في تسريع إعادة تشكيل المجتمع الإسرائيلي؛ حيث أصبح مُستَقطَبًا مع رجال الدين والقوميين المتطرفين واليهود الأرثوذكس الذين يمارسون تأثيرًا هائلًا على السياسة والحكم.

ختامًا، فإنه من المستحيل بمكانٍ الحديث عن حلّ دائم للقضية الفلسطينية؛ إلا إذا تم وقف هجمات المستوطنين المتطرفين، ووقف التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية المحتلة. كما يجب فضح سياسات الاحتلال ومحاسبته على جرائمه وانتهاكاته، وبدون هذه الإجراءات فإن أيّ حديث عن السلام والحل الشامل للقضية سيبقى مجرد كلام، لا سيما مع الكيان الصهيوني الذي تقوده الآن حكومة يمينية متطرفة وعنصرية لا تعترف بأيّ مواثيق أو أعراف دولية، ولا تحترم حقّ إنسان ولا تكترث ببُنْيَان.

 _____________________________________________________
الكاتب: 
 أحمد مصطفى الغر


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

شرح ما يفعل من رأى الرؤيا أو الحلم

منذ حوالي ساعة الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان؛ فإذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه؛ فلينفث …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *