منذ حوالي ساعة
التذبْذُب بين الحق والباطل، وبين اليقين والوسوسة، سُنَّةٌ كونيَّةٌ طُبِعَتْ عليها البشريَّة، ولا تخلو نفس من وسوسة وتحريض وتجاذب مهما ارتقت في مدارج الصلاح
اعلم يا من اشتدَّ عليه الحالُ، وعجز عن وصف عجزه المقالُ، وبلغ بالسهاد الليالي الطوال، وفقد الحيلة، وضاقَتْ عليه الأرض بما رحبت، اعْلَمْ- يرحمك الله – أن مع العسر يسرًا، ولك في السابقين عبر وآيات، فمنهم من بلغ الغايات، ومنهم من ضَلَّ الطريق وتاه في الظُّلُمات.
فحَدِّث نفسك بما يرتقي بهمَّتِها، ويوقظها من غفوتها، وينقذها من هفوتها، وفتِّش في تاريخ الأُمَم السابقة عن أسباب العِزِّ وعَضَّ عليها بالنواجذ، وفتِّش عن أسباب الذُّلِّ وفِرَّ منها فرارك من قَسْورة، واعْلَمْ أن الأتراح ماضية كما أن الأفراح أيضًا ماضية؛ لكن أسباب النجاة وسُبُل الثبات لا يُمْكِن أن تكون في غير الخط المرسوم من يد المعصوم، فقد روى أحمد عن ابن مسعود أنه قال: “أن الرسول صلى الله عليه وسلم خَطَّ خطًّا مستقيمًا، فقال: «هذا سبيل الله، ثم خَطَّ خطوطًا عن يمينه وشماله، فقال: هذه السُّبُل، وعلى كل سبيل شيطان يدعو إليه»، ثم قرأ الآية: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153].
فتلك طريق الخلاص بيَّنَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لمَنْ رامَ السَّلامة، فلطريق الله علامات وإشارات، مَنِ اتَّبَعها لم يضِلَّ، ومَنِ اقْتَفَى أثَرَها لم يزل، وأوَّل تلك العلامات بلا ريب توحيد الله عز وجل؛ توحيد ربوبية، وتوحيد ألوهية، توحيده سبحانه وتعالى توحيدًا يُنزِّه صاحبَه عن الوقوع في براثن الشرك الأصغر فضلًا عن الشِّرْك الأكبر.
وأمَّا توحيد الربوبية فهو أن يقِرَّ العبدُ بأن الله عز وجل ربُّ كل شيء ومليكه، وأن الخلق والرزق والنجاة والموت بيده وحده، قال عز من قائل: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54].
فإذا استوعب الإنسان هذه المعاني، اطمأنَّتْ نفسُه، واستوطنت على مفهوم التسليم المفضي إلى السلامة، فعلمت يقينًا أن حياتها ورِزْقها وحالها ومآلها بيد من بيده كل شيء، وأنه ليس بيد إنس ولا جان شيء ممَّا يغير الأحوال، أو يُلحِق الضرر أو يجر النفع، ودليله حديث ابن عباس الذي رواه الترمذي ومتنه: “عن أبي العباس عبدالله بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال: «يا غلام، إني أُعلِّمُك كلماتٍ: احْفَظِ اللهَ يحفظْكَ، احفَظِ الله تجِدْه تجاهَك، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعِنْ بالله، واعْلَمْ أنَّ الأُمَّةَ لو اجتمعت على أنْ ينفعـوك بشيءٍ لم ينفعوك إلَّا بشيءٍ قد كتَبَه اللهُ لك، وإن اجتَمَعُوا على أن يضُرُّوكَ بشيءٍ لم يضُرُّوك إلا بشيءٍ قد كَتَبَه اللهُ عليك، رُفِعَتِ الأقلامُ، وجفَّتِ الصُّحُف»، فإذا استقرَّت معاني توحيد الربوبية في العقول، وتمكَّنَت من القلوب، أرشدت بلا شَكٍّ إلى أنوار توحيد الألوهية.
فتوحيد الألوهية هو إفراد الله عز وجل بالعبادة قولًا ونيَّةً وفِعْلًا، وهو المقصود بالعبادة والتقرُّب لا غيره، قال سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 – 58].
فعلى هذا المعنى يجب على العبد أن يدرك أن رزقه ليس بيد ربِّ العمل، وأن شفاءه ليس بيد الطبيب، وأن موته ليس لأحد أن يحسم فيه، وأنَّ الناس أجمعين لا يملكون ضرَّه ولا نفعه إلا بإذن الله؛ كما ورد في حديث ابن عباس الذي أوْرَدْناه سابقًا.
فالمطلوب من كل واحد أن يفوض عظيم الأمور ودقيقها إلى الله الإله رب الأرباب، ثم السعي في بذل الأسباب، وكل ما سيحصل بعد ذلك مكتوب محسوم في كتاب.
ولا أدَّعِي هنا أن الإنسان يستطيع استحضار هذه المعاني في حِلِّه وترحاله، وفي علانيته وفي نجواه، فالسماء في صحوها لا بُدَّ وأن تخالطها السُّحُب، والبحر مهما بلغ سكونه لا بُدَّ للمتلاطمات أن تعتريه، وكذلك هي النفس البشرية، وإن بلغت من اليقين والثبات مبلغ الناسك المُتعبِّد فلا بُدَّ أن يعتريها كدر، ولا بُدَّ للوسواس الخَنَّاس أن يوسوس لها بما يوقعها في المطبَّات؛ بل حتى الرُّسُل والأنبياء لم يسلموا من ذلك، قال ربي جل في علاه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج: 52].
وفي تفسير الميسر ورد في معنى الآية: “{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} – أيُّها الرسول – {مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا} قرأ كتاب الله {أَلْقَى الشَّيْطَانُ} في قراءته الوساوس والشُّبُهات؛ ليصدَّ الناس عن اتِّباع ما يقرؤه ويتلوه؛ لكن الله يبطل كيد الشيطان، فيزيل وساوسه، ويثبت آياته الواضحات، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بما كان ويكون، لا تخفى عليه خافية، {حَكِيمٌ} في تقديره وأمره”.
فالتذبْذُب بين الحق والباطل، وبين اليقين والوسوسة، سُنَّةٌ كونيَّةٌ طُبِعَتْ عليها البشريَّة، ولا تخلو نفس من وسوسة وتحريض وتجاذب مهما ارتقت في مدارج الصلاح؛ لذلك لما نزل قول ربِّنا عز وجل: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284].
أتى الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم خائفين مفزوعين؛ لعلمهم أن النفس لا بُدَّ وأن تراودها الوساوس والهواجس، واشتد ذلك عليهم حتى جثوا على الركب، وقالوا: يا رسول الله، كلِّفْنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة، وقد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سَمِعْنا وعَصَيْنا! بل قولوا: سَمِعْنا وأطَعْنا، غفرانك ربَّنا وإليك المصير».
ثم بعد أن سمعوا وأطاعوا واستجابوا وسلموا واستسلمت قلوبهم، أنزل ربُّنا جل في سماه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286]، ففرحوا بها فرح الأُمِّ بوليدها رضي الله عنهم وأرضاهم.
فالمؤمن الذي أسلم لله وجهه، وأخضع لأوامره قلبه، وبنى على ذلك عمله، حين يعتريه ما يعتريه من نقص وتقصير يهرول قارعًا باب التوبة والأوْبَة، فيستجيب له ربُّه مصداقًا لقوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 17]، وأمَّا من اتبع بقية الخطوط والسُّبُل المتشعِّبة غير سبيل الحق، وغالى في المعاصي، وأسرف ولم يلتفت، فذاك سقطاته مميتة ومهلكة، إلا أن يتغمَّدَه الله برحمته فيمُنُّ عليه بالتوبة قبل الغرغرة، فمثله غالبًا ما يكون في هَمٍّ وغَمٍّ وكَدَرٍ، حتى وإن كان بين الناس يتصنَّع السعادة، فقد قال الله سبحانه وتعالى عن الذين تركوا ذكر الله وراءهم ظهريًّا: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124]، ومثله تجده يعبد ربَّ العمل معتقدًا أن رزقه بيده، وإذا مرض اعتقد الشفاء في عيادة طبيب، وإذا لم يشف لم يترك بيت مدر ولا وبر قاصدًا كل ساحر وعرَّاف ومُشعْوِذ ظانًّا أن الفِكاك بيدهم والعياذ بالله، فالتحصُّن لا يكون إلا بالحصن المنيع، وليس بفقاعة هواء تنقض التوحيد، وتخلع الإسلام عن رقبة المحتمي بحِماها.
ومن الناس مَنْ يغترُّ بعصاة انثالت عليهم الدنيا بزخرفها، وفتحت لهم أبوابها، وأغدقت عليهم بخيراتها، وتبدو عليهم مظاهر الفرح والسعادة والسرور، ولم يعلم المسكين أن الأمر أحد الأمرين؛ إما استدراج من الله لمن يئست التوبة منه، فيأخذه الله وأمثاله بما كسب من الإثم في الدنيا بتعجيل العقاب، أو في الآخرة فيلقى أشد الحساب، قال الله عز وجل: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16]، هذا الأمر الأول.
والأمر الثاني: كثيرٌ من هؤلاء سعادتهم مزيَّفة، تراهم في أفخر المظاهر وأحسنها؛ لكن قلوبهم تعتصر هَمًّا وكمدًا، وأبدانهم منخورة فعلت فيها الأمراض الأفاعيل فتنغص عليهم حياتهم فيحسدون المقتر الفقير، ويودون لو يفتدون سلامتهم بأموال الدنيا كلها، فكم مترفًا غنيًّا تجده موصولًا بآلات إذا انفكت عنه هلك.
وأُنبِّه هنا إلى أن المقصود من الكلام ليس أن كل غني عاصٍ أو ظالم، وليس على المؤمن أن يكون مقترًا فقيرًا؛ بل هو العكس والنقيض؛ فقد رغب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في الكسب والاغتناء، ويدل على ذلك حديث المتصدِّق وهذا مَتْنُه: ((عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله تعالى عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا ذُو مَالٍ، وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: «لَا»، قُلْتُ: أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ؟ قَالَ: «لَا»، قُلْتُ: أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ؟ قَالَ: «الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ»؛ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
فيجمل بالمؤمن التَّقيِّ الورع أن يلتمس أسباب الرزق، فبمثل أمواله تُوزَّع الصدقات، وتؤدَّى الزكاة، ويُرفَع الحرج عن المعسر، وتفك كرب المقتر، فالدنيا في حقيقتها ليس على ما ظهر وإنما على ما علم الله وخبر.
فالفلاحَ الفلاحَ لمن خفض جناحه للمؤمنين، وركن إلى كتاب الله المبين، واتَّبَع سُنَّة نبيِّه الأمين، وصبر واحتسب في الضرَّاء، ودعا ربَّ العالمين، وشكر وحمد في السرَّاء وأعطى باليمين، ذاك سبيل من تشوَّف إلى حسن العاقبة والقرار المبين، جنات عَدْن مع النبيِّين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}[القصص: 83].
____________________________________________________
الكاتب: نوفل بيروك
Source link