منذ حوالي ساعة
الحروب والصراعات المشتعلة في أنحاء الكرة الأرضية رغم ما يبدو من أنها متفرقة فإنها بدون ترتيب أو تنسيق تصب نحو هدف واحد، وهو إنهاء السيطرة الغربية ووضع نهاية للحقبة الاستعمارية في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية
حالة التمرد التي يشهدها العالم ضد الهيمنة الغربية أصبحت ظاهرة لا يمكن تجاهلها، فالحروب والصراعات المشتعلة في أنحاء الكرة الأرضية رغم ما يبدو من أنها متفرقة فإنها بدون ترتيب أو تنسيق تصب نحو هدف واحد، وهو إنهاء السيطرة الغربية ووضع نهاية للحقبة الاستعمارية في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، فالشعوب أصبحت أكثر وعيا وقوة، كما أن الدول الاستعمارية أصابتها الشيخوخة والضعف، ولم تعد قادرة على تحمل تكلفة الاحتلال والهيمنة.
الدول الغربية الآن في حالة استنزاف في أوكرانيا، وستطول هذه الحرب التي لا يبدو أن لها نهاية على المدى القصير، فالروس الذين يريدون إنهاء انفراد الغرب بحكم العالم يرون أنها حرب وجود، وأي تراجع يعني نهاية الحلم الإمبراطوري ونهاية كون روسيا قوة عالمية، بل كونها دولة، وفي المقابل يعي الأوربيون أن انتصار روسيا يعني ابتلاع أوربا ونهاية الوحدة الأوربية، وأيًّا كانت نتيجة الحرب فسيخرج الأوربيون منهكين مثخنين بالجراح.
في آسيا تتم عملية التغيير بدرجات متسارعة، ففي أفغانستان تمت عملية إزاحة القوات الأمريكية والمتحالفين معها بالقوة، وتم طرد آخر جندي أمريكي بعد احتلال دام 20 عاما، ورمزية التجربة الأفغانية لا يستهان بها فالانتصار تم على أقوى الجيوش الغربية، ثم بعد ذلك يأتي صعود الصين والمجال المحيط بها، والمنافسة على زعامة العالم للتأكيد على استحالة بقاء النظام الدولي بالصورة التي تشكلت منذ الحرب العالمية الثانية.
في أمريكا اللاتينية لم تعد الانقلابات التي تقف خلفها الولايات المتحدة لتنصيب حكام تابعين سهلة كما كانت مع بروز قوة الشعوب، فبدأت الحركات اليسارية الرافضة للهيمنة الأمريكية تنتزع السلطة بالصناديق الانتخابية في الدول الرئيسية مثل البرازيل وفنزويلا وبوليفيا وغيرها، ومع الوقت تراجعت الأحزاب المدعومة أمريكيا، وفشل المال في شراء الجماهير الغاضبة، خاصة مع حالة الوعي وقوة مشاعر التحرر والرغبة في الاستقلال.
إفريقيا الأكثر حماسا:
الانقلابات التي تشهدها القارة الإفريقية في الفترة الأخيرة هي الموجة الأكثر حدة في الإطاحة بالسيطرة الغربية خاصة الفرنسية، فبرغم من أن فرنسا كانت هي التي تدبر الانقلابات لتعيين الحكام التابعين لها الذين يدافعون عن مصالحها، فإن الانقلابات الأخيرة خاصة في مالي وبوركينافاسو والنيجر وهي الدول الرئيسية في منطقة الساحل كانت ضد فرنسا، وكان هدفها المعلن والصريح طرد الوجود الفرنسي تماما، وهناك توقعات بانقلابات أخرى مشابهة في الطريق.
روح جديدة تسري في القارة الإفريقية، ومشاعر غضب وثورات ضد المستعمر والموظفين الذين يختارهم من العسكريين والمدنيين، وساهمت الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الجديد في رفع درجة الوعي لدى الشعوب التي تم إفقارها ونهب ثرواتها، وعجز الإعلام التابع للخارج عن الإقناع وتقديم مبررات الاستمرار في العبودية السياسية والاقتصادية، وغيرت هذه الموجة الثورية المجتمعات الإفريقية وحشدتها ضد الوجود الأجنبي.
موجة التحرر التي تسود إفريقيا خاصة المستعمرات الفرنسية أقوى من أن يقف أمامها الجيش الفرنسي ومن يتحالف معه من الجيوش الأوربية، ولم يعد ممكنا أن يتصدى لها قادة الجيوش المحلية الذين تدربوا في فرنسا وأوربا، فالموجة العالية تزيح كل من يقف أمامها، حتى الانقلابات التي تساندها فرنسا لامتصاص الغضب الشعبي لا تسطيع الصمود، وسرعان ما يتم الانقلاب عليها كما حدث في مالي وبوركينافاسو.
فرنسا لم تتعظ:
لقد تقاسمت بريطانيا وفرنسا معظم القارة الإفريقية، وقد انسحبت بريطانيا لكن فرنسا استمرت تحكم نصف القارة تقريبا بكل الوسائل الناعمة والخشنة، ونشرت قواتها في معظم الدول للتدخل وللتخويف، وظلت تنهب ثروات الدول بدون منغصات منذ قرنين، لكن بقاء الحال من المحال وجاء دورها في الانسحاب والخروج كما خرج الآخرون، فهي ليست أقوى من الولايات المتحدة التي انكسر جيشها في العراق ثم أفغانستان وخرجت رغما عنها.
في الوقت الذي كانت تستعد فيه فرنسا لتوجيه ضربة عسكرية للنيجر لإعادة الرئيس بازوم للسلطة ولاستعادة مكانتها واستمرار وجودها؛ جاء الانقلاب في الغابون ليضعف الموقف الفرنسي، ورغم أن الانقلاب على الرئيس الغابوني كان من داخل القصر وتم بموافقة ورضا فرنسا فإن حدوثه -لاستباق انقلاب محتمل معاد للفرنسيين- كان لصالح القادة النيجريين الذين يزدادون قوة يوما بعد يوم، ولو تم الغزو الخارجي.
لم تعد فرنسا قادرة على تقديم مبررات مقنعة لحشد دول إيكواس لتقديم الغطاء للتدخل العسكري في النيجر، بزعم استعادة النظام الدستوري، في الوقت الذي يؤيد فيه القادة الفرنسيون ومعهم الاتحاد الأوربي انقلاب الغابون؛ لذا فالموقف الفرنسي ضعيف جدا، وحتى لو قرر توجيه ضربة عسكرية فستكون مكشوفة وأكبر خطأ يرتكبه الفرنسيون؛ لأنه سيشعل حربا مقدسة ضد الوجود الفرنسي في غرب إفريقيا وستكون الخسائر أكثر فداحة.
فرنسا تشعر بالحرج والهزيمة مع طردها من الدول الإفريقية واحدة بعد الأخرى، وهي تشعر بأن هيبتها انتهت، وأن خزان الثروات التي تستولي عليها سيتم إغلاقه، ويدفعها العناد وحفظ ماء الوجه إلى رفض الخروج من النيجر، وعدم سحب القوات وإخلاء القاعدة العسكرية، وعدم الاستجابة لطرد سفيرها الذي صدر قرار من المحكمة العليا في النيجر بإلغاء حصانته الدبلوماسية، لكن رفضها القبول بالأمر الواقع خطأ في تقدير الموقف ومخاطرة غير محسوبة العواقب.
ستخرج فرنسا من إفريقيا بإرادتها أو مكرهة، فلن تجد من يدافع عنها من النخب التابعة؛ فموجة التحرر استقطبت الكثير من الدوائر التي كانت تخدم فرنسا بالخوف أو بالإغراء، كما أن الشعوب اليوم خارج السيطرة والتوجيه، ولم يعد سهلا التلاعب بها وتشكيل عقولها كما كان في السابق، فالاحتكار الإعلامي الدولي انتهى، ولم يعد للإعلام المحلي التابع تأثير في ظل التقدم التقني الذي يحاصر دوائر السلطة في كل البلاد.
***
أما في العالم العربي الذي لا يقرأ التحولات العالمية ويسير عكس الاتجاه، فالحكام تتلبسهم روح العبودية، ويرفضون احترام شعوبهم ويعودون ببلادهم إلى ما قبل قرن من الزمن، يستمدون شرعيتهم من الدول الغربية وبعضهم ذهب بعيدا بالرضوخ للإسرائيليين، ويعملون على بقاء الهيمنة، ظنًّا منهم أن هذا يضمن بقاءهم في السلطة، ولا يستوعبون دروس التاريخ ودرجة الوعي التي تشكل مجتمعات جديدة غير منفصلة عن التغيرات العالمية.
المصدر : الجزيرة مباشر
-
صحفي وكاتب مصري، شغل موقع مساعد رئيس تحرير جريدة الشعب، ورئيس تحرير الشعب الالكترونية.
Source link