مفتاح العلم: حسن السؤال وحسن الإصغاء

قال سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى: “أول العلم حسن الاستماع، ثم الفَهم، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر.

يقول ابن قيم الجوزية: “ومفتاح العلم حسنُ السؤال وحسن الإصغاء”[1]، والسؤال أسلوب ربانيٌّ كثُرَ في كتاب الله عز وجل، وكثُرَ في سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعظَّم الله شأن السؤال باستخدامه بكثرة في كتابه العظيم؛ ولذا ينبغي أن نعظِّم ما عظَّم الله من شأن السؤال؛ وقد أمر الله تعالى بسؤال أهل الذكر في قوله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]؛ يقول السعدي في تفسيره: “وعموم هذه الآية فيها مدح أهل العلم، وأن أعلى أنواعه العلمُ بكتاب الله المنزَّل؛ فإن الله أمر من لا يعلم بالرجوع إليهم في جميع الحوادث، وفي ضمنه تعديل لأهل العلم وتزكية لهم؛ حيث أمر بسؤالهم، وأن بذلك يخرج الجاهل من التَّبِعَة، فدلَّ على أن الله ائتمنهم على وحْيِهِ وتنزيله، وأنهم مأمورون بتزكية أنفسهم، والاتصاف بصفات الكمال”[2].

 

عباد الله: فبالسؤال دعا يوسف رفقاء السجن إلى التوحيد الخالص: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39]، وبالسؤال تلطف موسى وتوسَّل ليصاحبَ الخَضِر في رحلته، ويطلب العلم على يديه: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66]، وعلى طريقة السؤال جاء جبريل عليه السلام يعلِّم الصحابة أمر دينهم، في قصة حديث جبريل؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: «إنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم»[3]، وبالسؤال غيَّر النبي صلى الله عليه وسلم قناعاتِ أعرابيٍّ جاء يرمي امرأته بالزنا، فلم يزِدْ على أن سألَهُ بضعة أسئلة قادته للحقيقة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيًّا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((إن امرأتي وَلَدت غلامًا أسودَ، وإني أنكرتُه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل لك من إبلٍ» ؟ قال: نعم، قال: «فما ألوانُها» ؟ قال: حُمْرٌ، قال: «هل فيها من أوْرَقَ» ؟ قال: إن فيها لَوُرقًا، قال: فأنى ترى ذلك جاءها؟ قال: يا رسول الله، عرقٌ نزعها، قال: «ولعل هذا عرق نزعه»، ولم يرخص له في الانتفاء منه[4].

 

وبالسؤال يعالج النبي صلى الله عليه وسلم طَيش الشباب، وعنفوان الجرأة، وقوة التمرد؛ فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: ((إن فتًى شابًّا أتى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال: يا رسول الله، ائْذَن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مَهْ مَهْ، فقال: «ادْنُهْ، فدنا منه قريبًا»، قال: فجلس، قال: «أتحبه لأمك» ؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لأمهاتهم»، قال: «أفتُحِبُّه لابنتك» ؟ قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: «أفتحبه لأختك» ؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال:  «أفتحبه لعمتك» ؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لعماتهم»، قال: «أفتحبه لخالتك» ؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لخالاتهم»، قال: فوضع يده عليه، وقال: «اللهم اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصِّن فَرْجَه»، فلم يكُنْ بعدُ ذلك الفتى يلتفت إلى شيء))[5].

 

عباد الله: مما سبق يبدو بجلاء ووضوح أهميةُ السؤال عمومًا، وأنه لو أُحْسِن استغلاله، ووُظِّف بشكله الصحيح، لكان سبيلًا لكل مراقي العلم والعلا، ومدارج الكمال، وحسن الخلق، ولقد اهتم سلفنا الصالح بالأسئلة، وعدُّوها من أهم وسائل تحصيل العلم، حتى إن الحافظ أبا عمر بن عبدالبر في كتابه (جامع بيان العلم وفضله) أفرد بابًا بعنوان: “باب حمد السؤال والإلحاح في طلب العلم“[6]، وافتتحه بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنما شفاء العِيِّ السؤالُ»[7]، والعي: هو الجهل، ثم ساق حديث عائشة رضي الله عنها: ((نِعْمَ النساءُ نساءُ الأنصار؛ لم يكن يمنعهُنَّ الحياء أن يسألْنَ عن الدين، وأن يتفقهن فيه))[8]؛ قال سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى: “أول العلم حسن الاستماع، ثم الفَهم، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر… فإذا استمع العبد إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه بنيَّةٍ صادقة على ما يحب الله تعالى، أفْهَمه كما يجب، وجعل له في قلبه نورًا”[9]، قال الحسن بن علي رضي الله عنهما لابنه: “يا بني، إذا جالست العلماء فكُنْ على أن تسمعَ أحرصَ منك على أن تقول، وتعلَّم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الصمت، ولا تقطع على أحد حديثه وإن طال، حتى يُمْسِكَ”[10]، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 20 – 23].

فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى وطاعته، والحرص على حسن السؤال، وحسن الإنصات عند طلب العلم؛ يقول ابن القيم رحمه الله: “وللعلم ست مراتب؛ أولها: حسن السؤال، الثانية: حسن الإنصات، الثالثة: حسن الفهم، الرابعة: الحفظ، الخامسة: التعليم، السادسة وهي ثمرته: وهي العمل به ومراعاة حدوده، وقال بعض السلف: إذا جالستَ العالم، فكُنْ على أن تسمع أحرصَ منك على أن تقول؛ قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]”[11]، ويقول القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} [الأنعام: 36]؛ “أي: سماع إصغاء وتفهُّم، وإرادة الحق، وهم المؤمنون الذين يقبلون ما يسمعون، فينتفعون به ويعملون”[12]، وذكر القرطبي أيضًا أنه رُوِيَ عن وهب بن منبه أنه قال: “من أدب الاستماع سكونُ الجوارح وغضُّ البصر، والإصغاء بالسمع، وحضور العقل، والعزم على العمل، وذلك هو الاستماع كما يحب الله تعالى؛ وهو أن يكفَّ العبد جوارحه، ولا يشغلها، فيشتغل قلبه عما يسمع، ويغض طرفه، فلا يلهو قلبه بما يرى، ويحصر عقله، فلا يحدِّث نفسه بشيء سوى ما يستمع إليه، ويعزم على أن يفهم فيعمل بما يفهم”[13].

 

عباد الله: وأمَرَ الله سبحانه بالإنصات عند تلاوة القرآن الكريم؛ إعظامًا له واحترامًا؛ قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]، فالاستماع والإنصات هما الوسيلة المثلى للتدبر من أجل الفهم والعمل، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمعون ويُنصِتون إلى حبيبهم محمد صلى الله عليه وسلم، كأن على رؤوسهم الطير؛ من التقدير والأدب والمهابة، والرغبة في الحق، وحسن الإنصات، وأدب الاستماع، فاتقوا الله عباد الله، وصلوا وسلموا على محمد رسول الله؛ فقد قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، وقال صلى الله عليه وسلم: «من صلى عليَّ صلاةً، صلى الله عليه بها عشرًا».

 


[1] شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي المعروف بابن قيم الجوزية (691 – 751)، حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، تحقيق الدكتور السيد الجميلي، الطبعة الأولى 1405هـ، دار الكتاب العربي، 1985م، ص 100.

[2] السعدي، ص 441.

[3] صحيح مسلم، الصفحة أو الرقم: 8.

[4] صحيح البخاري، الصفحة أو الرقم: 7314.

[5] الصحيح المسند، الصفحة أو الرقم: 501.

[6] أبو عمر يوسف بن عبدالله بن محمد بن عبدالبر بن عاصم النمري القرطبي (المتوفى: 463هـ)، جامع بيان العلم وفضله، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري، الناشر: دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، 1414 هـ – 1994 م، ص 373.

[7] صحيح أبي داود، الصفحة أو الرقم: 336.

[8] صحيح مسلم، الصفحة أو الرقم: 332.

[9] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج 14، ص 26.

[10] أبو علي إسماعيل بن القاسم القالي، كتاب الأمالي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1398هـ – 1978م، 2/ 190.

[11] ابن قيم الجوزية، مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، مكتبة الرياض الحديثة، 1/ 169.

[12] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، 8/ 367.

[13] المصدر السابق، ج 14، ص 26.

_____________________________________________________
الكاتب: محمد بن حسن أبو عقيل


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

شرح ما يفعل من رأى الرؤيا أو الحلم

منذ حوالي ساعة الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان؛ فإذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه؛ فلينفث …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *