قال ابن الجوزي رحمه الله: “من علامة كمال العقل علوُّ الهمة، والراضي بالدنوِّ دنيٌّ”.
الحمد لله الذي لا ينبغي الحمد إلا له، له المحامد كلها، لا أحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، وصلاةً وسلامًا على رسوله وعبده وآله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
فالنفوس السامية سبَّاقة للفضائل والمكارم، لا ترضى دونهن من المنازل، وبلوغ ذلك يحتاج لهمَّةٍ عالية، فمن عَلَتْ هِمَّتُه، فذاك الموفَّق الذي فهِم الحياة، وأدرك أنها فرصة لا تتكرر، فسخرها مطيةً لتحقيق أعلى المقامات في دنياه وأخراه؛ يقول الفاروق رضي الله عنه: “لا تصغُرنَّ هِمَّتُك؛ فإني لم أَرَ أقعدَ بالرجل من سقوط همته”، وقد قيل: المرء حيث يجعل نفسه، إن رفعها ارتفعت، وإن قصر بها اتَّضعت”.
إن من سبقوا للفضائل والمكْرُمات من صالحي هذه الأمة من سلفها وخلفهم بهمة عالية، وأَطْر النفس على الخير ولو تثاقلت عنه، ومخالفة الهوى فإنه ميَّال للباطل والعجز والكسل، وهذا هو موطن الهلاك والخسران؛ ذلك أن في مخالفته الفوز والنجاة؛ كما قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40، 41].
ومن تأمل قول ربنا جل وعلا: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]، وأمثاله كثير في الكتاب الحكيم – أيقن أنَّا خُلِقْنا في هذه الدار للمنافسة والمسارعة إلى الخير، وهذا مقصِد عالي الهمَّة، ومن قعدت به عزيمته واهتمامه، فقد خالف ما خُلِق من أجله.
لقد ربَّى النبي صلى الله عليه وسلم صحابته على هذا الخُلُق النبيل، والمقصد السامي؛ ومن ذلك توجيهه لهم بقوله: «إذا سألتم اللهَ الجنةَ، فاسألوه الفردوس الأعلى»؛ (رواه الترمذي بسند صحيح)، وبيَّن لهم أن خالقهم جل وعلا يحب من عباده الرُّقِيَّ وطلب معالي الأمور، فقال: «إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها»؛ (رواه الطبراني والبيهقي).
يقول ابن القيم رحمه الله:“فالهمة العالية كالطائر العالي على الطيور لا يرضى بمساقطهم، ولا تصل إليه الآفات التي تصل إليهم، فإن الهمة كلما عَلَتْ بعِدت عن وصول الآفات إليها، وكلما نزلت قصدتها الآفات”،
قال ابن الجوزي رحمه الله: “من علامة كمال العقل علوُّ الهمة، والراضي بالدنوِّ دنيٌّ”.
حين ربَّى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الكرام على علو الهمة، وطلب معالي الأمور، كانوا سبَّاقين لها في جميع الميادين، تركوا وطنهم وأهليهم وأموالهم في مكةَ مهاجرين إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، مع ما في ذلك من تحمُّلِ المخاطر والمشاقِّ، والفقر والحاجة، وهجر الراحة، ولذة العيش في الوطن ومرتع الصِّبا، فاختاروا الخير العظيم الآجِل الباقيَ على الخير القليل العاجل الزائل، وواسى الأنصار إخوانَهم المهاجرين بدُورِهم وأموالهم، وجاهدوا في سبيل الله تعالى أعداء دينه، ومنهم إخوانهم وقرابتهم؛ طلبًا لرفعة دين الله تعالى ورضاه وجناته، فكل واحد منهم رسم في سماء المجد بعلوِّ الهمة قصةً سطَّرها التاريخ، وبقِيتْ في سجِّلِ حسناته، يلقى الله بها في الآخرة.
وعلى هذا سار التابعون وتابعوهم ومن تبِعهم بإحسان، مواقفهم وتضحياتهم لدين الله تعالى والبذل في هذا الطريق بعلوِّ همَّةٍ، وسموِّ نفسٍ نُقلت إلينا، تعددت صورها؛ من طول صيام، وطول قيام، وبذل المال في أوجه البر المختلفة، وبذل الجهد والعمر في الدعوة إلى الله تعالى وتعليم الناس، وإفناء الأعمار في طلب العلم والتأليف، والجهاد في سبيل الله تعالى، وغير ذلك كثير من صور المعالي التي تاقت نفوسهم الزكية إليها فبلغوها.
بعد توفيق الله تعالى بعلوِّ هِمَمٍ، وشَكِيمَةِ نفوس، سطَّرت سِيَرهم في كتب التراجِم؛ كسير أعلام النبلاء، وشذرات الذهب، وطبقات المحدثين، وطبقات الحنابلة، وغيرها من الكتب المصنَّفة في هذا الباب، فنسأله تعالى أن يبلغنا ما بلغهم من الخير والفضل.
وأشير إلى شيء من الأسباب المعينة على بلوغ علو الهمة، وقوة الإرادة بعد توفيق الله تعالى وإعانته:
أولًا: كثرة الدعاء الصادق بذلك، والالتجاء إلى الله تعالى؛ فهو الْمُيَسِّر للعبد علوَّ الهمة، وقوة الإرادة، والتوفيق لمعالي الأمور.
ثانيًا: مجاهدة النفس وأطْرُها على الحق، وإلزامها الخيرَ ومخالفة الهوى، فبدون ذلك لن يتحقق للعبد شيء؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].
ثالثًا: اعتراف المرء بقصور همته وضعفها، وحاجته إلى معالجتها والرقي بها، فإن من لم يعترف بقصور همته وحاجته للرقي بها ومعالجتها، ويكابر في ذلك، فلن يتقدم ولن يرقَى لمعالي الأمور.
رابعًا: مصاحبة ذوي الهمم العالية والنفوس السامية؛ إذ إن كل قرين بالمقارن يقتدي، فمَن أَكْثَرَ من صحبة أصحاب الهمم الوضيعة، ناله ما نالهم ولا بد، فالخلطة تفعل فعلها، ومن أكثر من صحبة الراقين في هِمَمِهم وتطلعاتهم، تأثَّر بهم وسار على نهجهم، واقتفى أثرهم.
خامسًا: عدم الرضا بالهوان والدَّعَةِ والسلبية، والعزم على الوصول للقمة في أي أمرٍ سامٍ تميل إليه نفسك وتجدها تهواه، فأقْبِلْ على ما ترغب الرُّقِيَّ فيه بعزيمة صادقة وثقة بالله تعالى العظيم، فبالعزم الصادق، والرغبة في التغيير وتبديل الحال، مع التوكل على الله تعالى حقًّا، تكون السبيل لتحقيق مرادها بإذن ربها، فمن استوى عنده العلم والجهل، والبذل والإمساك، فلن تكون له همَّة.
سادسًا: قراءة سِيَرِ سلف هذه الأمة وخلفهم الموفَّقين أهل الاجتهاد، ممن عَلَتْ هممهم، وسطَّروا لنا أروع المواقف والتضحيات، والتقديم لدين الله تعالى ولأنفسهم يومَ يلقَونه ما يسرهم، فإن القراءة في أخبار العلماء العاملين، والنبهاء الصالحين، وأولي المكارم والفضائل تغرس الخير وحبَّه، والسعي لتحصيله في النفوس، وتحمِلها على تحمُّل الشدائد والمكارِه في سبيل تحقيق الغايات النبيلة، والمقاصد الجليلة، وتبعثها للتأسي بهم، وقد قيل: القصص جند من جنود الله تعالى يثبت بها قلوب أوليائه، وأعلاهم نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فقد قال جل وعلا مخاطبًا نبيه الكريم: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفاتحة: 120]، وفي مقابل ذلك هجران متابعة الساقطين من الناس أصحاب الهمم الوضيعة، الذين لا همَّ لهم إلا لذة الجسد؛ من مأكل ومشرب، وملبس ومركب؛ فإن في متابعتهم سقوطًا وضياعًا وتفويتًا لخيري الدنيا والآخرة.
قال أبو حنيفة رحمه الله: “الحكايات عن العلماء ومحاسنهم أحب إليَّ من كثير من الفقه؛ لأنها آداب القوم وأخلاقهم”، وقال الشيخ عبدالفتاح أبو غدة رحمه الله: “إن خير وسيلة لإشعال العزائم وإثارة الروح الوثَّابة، والتسامي إلى معالي الأمور، والترفع عن سفسافها، والائْتِساء بالأسلاف الأجلَّاء – هو قراءة سيرة نبغاء العلماء الصلحاء، والوقوف على أخبار الرجال العظماء؛ فإنه خير شيء لرفع الهمم وشد العزائم”.
كم نسمع من يتمنى أن يكون من أصحاب قيام الليل، أو ممن يكثر صيام النوافل، أو حفظ كتاب الله تعالى، أو كفالة الأيتام، وتعلم العلم وتعليمه، وغير ذلك من أعمال البر والإحسان سنواتٍ طوالًا، وهو على هذا الحال من التمني، ولم يتقدم خطوة واحدة في تحقيق ذلك؛ لأنها أمانيُّ مجردة من العزم والجِدِّ، فلن تنفع صاحبًا! فقد قال جل وعلا: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} [النساء: 123]؛ قال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله معلِّقًا على هذا الآية: “فأحاديث النفس المجردة عن العمل دعوى مجردة لو عُورِضت بمثلها، لكانت من جنسها، فالأعمال تصدِّق الدعوى وتكذِّبها”.
سيمضي الزمان، وتنقضي الأعمار، عندها يفرح المشمِّرون أصحاب العزائم والهمم العالية؛ لوصولهم لِمُناهم، ويخسر المتقاعسون أصحاب الأماني المصحوبة بالكسل والتواني.
اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والعزيمة على الرشد، والغنيمة من كل بِرٍّ، والفوز بالجنة والنجاة من النار.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_____________________________________________________________
الكاتب: عبدالعزيز أبو يوسف
Source link