قيل لرسول الله، أي المؤمنين أفضل؟ قال: «أحسنهم خُلُقًا» ، قال: فأي المؤمنين أكيس؟ قال: «أكثرهم للموت ذكرًا، وأحسنهم لِما بعده استعدادًا؛ أولئك الأكياس»
من هم الأكياس؟
أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم، نعيش في هذا اللقاء ونحن نودع حبيبًا لقلوبنا، ونذهب به إلى معسكر الأموات، لنواريه التراب مع الأكياس، فمن هم؟
الأكياس جمع كَيْسٍ، والكَيسُ هو العقل الذي يميِّز به المسلم بين الحق والباطل، والنور والظلام، والنافع والضار، وأكيس الناس في ميزان الشرع هو من أكْثَرَ من ذكر الموت وعمِل لِما بعده؛ فعن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر، أنه قال: ((كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل من الأنصار، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا رسول الله، أي المؤمنين أفضل؟ قال: «أحسنهم خُلُقًا» ، قال: فأي المؤمنين أكيس؟ قال: «أكثرهم للموت ذكرًا، وأحسنهم لِما بعده استعدادًا؛ أولئك الأكياس» ))[1].
فتك هي هِمَمُهم؛ لذا حثَّكم رسول الله صلى الله عليه و سلم على الإكثار من ذكر الموت قبل الفوت؛ عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يُكْثِرُ أن يقول: «أكثروا من ذكر هاذم اللذات» ))[2].
العنصر الثاني: حقارة الدنيا:
أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن الأكياس نظروا إلى حقائق الأمور، فعلِموا أن الدنيا مهما عظُمت، فهي حقيرة، ومهما طالت، فهي قصيرة؛ جاء في كتاب (قِصَر الأمل) لابن أبي الدنيا: أن النخعي قال: “يا أيها الناس، إن الدنيا جُعلت قليلًا، وإنه لم يبقَ إلا قليل من قليل”[3].
عمر الدنيا مهما طال فهو قصير:
والله لو عاش الفتى في عمره ** ألفًا من الأعوام مالك أمرِهِ
متلذذًا فيها بكل لذيـــــــــــذة ** متنعِّمًا فيها بنُعمى عصـرِهِ
ما كان ذلك كله في أن يفـــي ** منها بأول ليلة في قبــــرِهِ
فحذارٍ – عباد الله – من الركون إلى الدنيا، والاغترار بزخرفها، فلم يبقَ منها إلا أقل القليل؛ تأملوا – عباد الله – قول نبيكم صلى الله عليه وسلم، وهو يصف لنا حال الدنيا التي عليها نتقاطع ونتقاتل؛ أخرج ابن أبي الدنيا في (قصر الأمل)، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والشمس على أطراف السَّعَف، فقال: ((ما بقِيَ من الدنيا إلا مثل ما بقِيَ من يومنا هذا، إلى ما مضى منه))[4].
عن عبدالله بن عمرو بن العاص، قال: ((مرَّ بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نصلح خصًّا لنا، فقال: ما هذا؟ قلنا: خصًّا لنا وَهَى فنحن نصلحه، قال: فقال: أمَا إن الأمر أعْجَلُ من ذلك))[5].
مرت سنون بالوصال وبالهنــــا ** فكأنها من قصرها أيـامُ
ثم انْثَنَتْ أيامُ هجرٍ بعدهـــــــا ** فكأنها من طولها أعوامُ
ثم انقضت تلك السنون وأهلها ** فكأنها وكأنهم أحـــلامُ
ولقد حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم على قصر الأمل؛ وهذا ما نراه جليًّا في الحديث الذي أخرجه البخاري، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبي، فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» ))، وفي رواية: «فإنك –يا عبدالله– لا تدري ما اسمك غدًا» )).
وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: “إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخُذْ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك”[6].
إنها أيام قلائل.
فيكفي من الطعام ما سد الجوعة ** ومن الثياب ما ستر العــورة
وما هي إلا جوعة قد سددتهـــــــا ** وكل طعام بين جنبي واحدُ
العنصر الثالث: منافع ذكر الموت:
إخوة الإسلام، إن ذكر الموت له منافع كثيرة، وفوائد جليلة، ذكرها لنا الأفذاذ من العلماء، وهاكم – يا رعاكم الله – بيانها:
(1) قطع أسباب الغفلة بتقصير الأمل:
فإن طول الأمل أكبر أسباب الغفلة، فالموت لا يترك فقيرًا لفقره، ولا غنيًّا لغِناه؛ وقد ذكروا عن ابن السماك أنه قال: “بينما صياد في الدهر الأول يصطاد السمك، إذ رمى بشبكته في البحر، فخرج فيها جمجمة إنسان، فجعل الصياد ينظر إليها ويبكي ويقول: عزيز فلم تُترَك لعزِّك، غني فلم تترك لغِناك، فقير فلم تترك لفقرك، جواد فلم تترك لجودك، شديد لم تترك لشدتك، عالم فلم تترك لعلمك، يردد هذا الكلام ويبكي”[7].
(2) يحث على الاستعداد وحسن العمل:
أخي المسلم، إن مَن أكْثَرَ مِن ذكر الموت، أحْسَنَ الاستعداد ليوم المعاد؛ قال أبو علي الدقاق: “من أكْثَرَ من ذكر الموت أُكْرِم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، ومن نسِيَ ذكر الموت عُوقب بثلاثة أشياء: تسويف التوبة، ترك الرضا بالكفاف، والتكاسل في العبادة”[8].
عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125]، قال: «إذا أدخل الله النورَ القلبَ، انشرح وانفسح» ، قالوا: فهل لذلك من آية يُعرف بها؟ قال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت» “[9].
قال أبو عبدالرحمن السلمي في مرضه: “كيف لا أرجو ربي وقد صُمْتُ له ثمانين رمضان؟”[10].
وختم آدم بن أبي إياس القرآنَ وهو مسجًّى للموت، ثم قال: “بحبي لك إلا رفقت بي في هذا المصرع، كنت أؤمِّلك لهذا اليوم، كنت أرجوك، لا إله إلا الله”، ثم قضى رحمه الله[11].
وكان يزيد الرقاشي يقول لنفسه: “ويحك يا يزيد، من ذا يصلي عنك بعد الموت؟ من ذا يصوم عنك بعد الموت؟ من ذا يترضَّى عنك بعد الموت؟ ثم يقول: من كان الموت طالبه، والقبر بيته، والتراب فراشه، والدود أنيسه، وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر كيف يكون حاله؟”[12].
(3) الزهد في الدنيا وعدم الاغترار بها:
ومَن أكْثَرَ من ذكر الموت، زهِد في زخارف الدنيا، واستوى عنده ذهبها مع خزفها؛ قال التميمي: “شيئان قطعا عني لذة الدنيا: ذكر الموت، وذكر الموقف بين يدي الله تعالى”[13].
وقال الحسن: “إن هذا الموت أفْسَدَ على أهل النعيم نعيمَهم، فالتمسوا عيشًا لا موتَ فيه”.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “من زهِد في الدنيا، هانت عليه المصيبات، ومن ارتقب الموت، سارع في الخيرات”.
عن إبراهيم بن الأشعث، قال: سمعت الفضيل بن عياض، يقول: “لو أن الدنيا بحذافيرها عُرضت عليَّ حلالًا لا أحاسَب بها في الآخرة، لكنتُ أقذَرها كما يقذَر أحدكم الجيفة، إذا مرَّ بها أن تصيب ثوبه”.
قال وهب بن منبه: “قرأت في بعض الكتب: الدنيا غنيمة الأكياس، وغفلة الجهَّال، لم يعرفوها حتى أُخرجوا منها، فسألوا الرجعة فلم يرجعوا”.
عن موسى بن عبيدة الربذي، أن لقمان قال لابنه: “يا بني، إنك استدبرت الدنيا منذ يوم نزلتها، واستقبلت الآخرة، فأنت إلى دار تقرُب منها، أقرب منك إلى دار تباعد عنها”[14].
(4) يردَع عن المعاصي:
فمن اعتقد أن الموت يخطَفه في أي لحظة، هل يجرؤ على المعصية؟ خصوصًا إذا علم أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بُعث عليه، فهل يرضى أن يُبعَث يوم القيامة وهو مقيم على معصية الله تعالى؛ فيفضحَ بين الخلائق؟!
(5) الرضا على كل حال:
فمن كان في ضِيقٍ، فذَكَرَ الموت، وسَّعه عليه، ومن كان في سَعَةٍ تدعوه للبَطَرِ والكِبْرِ، فذَكَرَ الموت، ضيَّقها عليه، ومن أصابته مصيبة، فتعزَّى بالموت، هانت عليه مصيبته؛ ولذلك قالوا:
اصبر لكل مصيبة وتجلِّــــــــــدِ ** واعلم بأن المرء ليس مخلَّـدِ
من لم يُصَب ممن ترى بمصيبة ** هذي سبيل لستَ فيه بأوحدِ
وقال الشافعي يعزي رجلًا في ميت له:
إنا نعزيك لا أنَّا على ثقـــــــة ** أنَّا نعيش ولكن سنة الديــــــنِ
فلا المعزَّى سيبقى بعد ميته ** ولا المعزِّي وإن عاشا إلى حينِ
(6) دواء قسوة القلب:
وقسوة القلب داء عضال، وله في النفس علامات؛ وهي:
• لا نشعر بالخشوع في صلاتنا وعبادتنا.
• عدم التأثر والتباكي عند تلاوة القرآن.
• عدم التورع عن الشبهات في المعاملات.
• الظلم والاعتداء على حقوق الآخرين.
• الجفاء وسوء الظن بين الإخوان.
• انتشار القطيعة بين الأُسَر.
أخي المسلم، إن مما يلين القلوب ويُذِيب قساوتها ذِكْرَ الموت، وتشييع الجنائز، فإذا أردت عينًا مدرارة، وقلبًا خاشعًا، فأكْثِرْ من ذكر هادم اللذات؛ قال أبو الدرداء: “من أكثر ذكر الموت، قلَّ فرحه، وقلَّ حسده”، ويقول سعيد بن جبير رحمه الله: “لو فارق ذكر الموت قلبي، لَخشيتُ أن يفسد عليَّ قلبي”.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
[1] أخرجه ابن ماجه (4259)، الألباني: حسن، الصحيحة (1384). [2] أخرجه أحمد “2/292-293″، والترمذي “4/479″، والنسائي “4/4″، وابن ماجه “2/1422″”4258”. [3] قصر الأمل لابن أبي الدنيا (ص: 124). [4] تخريج أحاديث إحياء علوم الدين (6/ 2491)؛ قال العراقي: رواه ابن أبي الدنيا في قصر الأمل بإسناد حسن، والترمذي نحوه من حديث أبي سعيد وحسنه. [5] تخريج أحاديث إحياء علوم الدين (5/ 2296)؛ قال العراقي: رواه أبو داود، والترمذي وصححه، وابن ماجه. [6] أخرجه البخاري (5/2358، رقم 6053)، وأخرجه أيضًا: ابن حبان (2/471، رقم 698)، والبيهقي (3/369، رقم 6304). [7] روضة العقلاء ونزهة الفضلاء (ص: 286). [8] التذكرة للقرطبي (ص: 8). [9] سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (2/ 383)، أخرجه ابن جرير (12/ 100/ 13855). [10] المحتضرين (ص: 206). [11] الثبات عند الممات (ص: 159). [12] العاقبة في ذكر الموت (ص: 40). [13] التذكرة للقرطبي (ص: 8). [14] الزهد لابن أبي الدنيا (ص: 80).
Source link