منذ حوالي ساعة
كانت تركيا إلى فترة ما قبل حزب العدالة والتنمية واحدة من تلك الدول التي جُلّ أحلامها أن تقترب من الأنموذج الغربي، ولو كلفها ذلك أن تخلع عن نفسها كل هوية، وأن تركع أمام كل رغبات غربية
انتهى التاريخ أو بلغ العالم أوج تطوره الحضاري ممثلاً في الأنموذج الغربي الذي لا يضاهيه، ولا ينافسه، أي أنموذج آخر في عالم اليوم..
هكذا لخص الكاتب والسياسي الأمريكي، صامويل هنتنجتون، النظرة الغربية لعالم اليوم، وما فيه من صراع وتنافس حضاري وسياسي، معتبرًا أن المباراة انتهت حقًا وليس ثمت أشواطًا إضافية، أو ضربات ترجيحه، إذ الأنموذج الحضاري الغربي وصل إلى مرتبة بعيدة في المنافسة، ليس للأغيار القدرة على الوصول إليها، وإنما لهم أن يلهثوا وراء محاولة تقليدها، أو محاكاتها إن استطاعوا.
وليس في التصور الغربي- من منطلق عنصري بحت- أن يرى نماذج أخرى تسلك سبيلاً مغايرًا في بعض الجوانب وتستمر في النجاح، أو تقدم أنموذجًا يُتصور في يوم ما أن يكون منافسًا لنموذجها الذي ترى أنه بات خارج المنافسة، وانتصر على كل خصومة بالضربة القاضية.
كان الهدف واضحًا لنقل تركيا نقلة عظيمة عبر مشروع دولة وحضارة، وليس مشروع شخص أو بعض أفراد ينتهي بنهاية حقبتهم الزمنية، أو يزول بزوال تأثيرهم في الحياة السياسية
كانت تركيا إلى فترة ما قبل حزب العدالة والتنمية واحدة من تلك الدول التي جُلّ أحلامها أن تقترب من الأنموذج الغربي، ولو كلفها ذلك أن تخلع عن نفسها كل هوية، وأن تركع أمام كل رغبات غربية، إذ الغاية التي ما بعدها غاية، أن تكون تابعة للغرب في كل مساراته، وبكل تفاصيل حياته، حتى تلك الاجتماعية والمعيشية.
وهي في تلك الحقبة المشار إليها، وبكل ما قدمته، لم تصل إلى شيء ذي بال، إذ كانت مجرد رقم في سلة مهملة مليئة بالاتباع الذي لا يشكلون وزنًا أو قيمة كبرى في العالم الحضاري والسياسي والاقتصادي إلا بقدر قدرتهم على الانصياع والقابلية للاستغلال لتحقيق المصالح الغربية، ولا شيء سوى ذلك.
تغير المسار رويدًا بعد وصول حزب العدالة والتنمية لسدة الحكم، وتمكنه من مفاصل الدولة، إذ بدا واضحًا أن هناك مشروعًا حضريًا وميلاد دولة جديدة قيد التشكل، تحدوها الرغبة أن تكون رقمًا مستقلاً في عالم اليوم، بكل معاني الاستقلال، لاسيما في قرارها السياسي، وقدراتها العسكرية، ومقدراتها الاقتصادية، وهويتها الاجتماعية.
كان الهدف واضحًا لنقل تركيا نقلة عظيمة عبر مشروع دولة وحضارة، وليس مشروع شخص أو بعض أفراد ينتهي بنهاية حقبتهم الزمنية، أو يزول بزوال تأثيرهم في الحياة السياسية، وهو ربما كان غريبًا على الساحة التركية على وجه الخصوص، تلك الساحة التي شهدت تقلبات سياسية وعسكرية عنيفة، لم تكن تلوي على شيء إلا تحقيق مصالح شخصية، ومآرب ذاتية.
كان لرواد هذا المشروع من الحنكة والدهاء ما مكنهم من تجاوز عقبات كؤود، لطالما تحطمت عليها مشروعات من قبلهم، أولئك الذين كان يحدوهم ذات الأمل في تركيا مستقلة، تشكل فاعلاً قويًا على الساحة الإقليمية والدولية لا يمكن تجاوزها ولا تجاهلها بحال في أية ترتيبات سياسية.
العقبة الأولى، كانت في المؤسسة العسكرية التي كانت قمة جبل من جليد سميك ضاربًا بجذوره بعمق في الدولة التركية لما اصطلح على تسميته بالدولة العميقة التي تعد حارسةً للعلمانية المتطرفة المعادية للدين، من ناحية، وأداة تحقيق النفوذ الغربي من ناحية أخرى.
المهارة في إدارة هذا الملف الشائك للغاية والذي كلف آخرين حياتهم، وشاهدهم الشعب التركي يوما على أعواد المشانق بتهم لا حصر لها، كانت خطوة ممهدة وحاسمة وكاشفة عن قدرات الرجال الجدد في تركيا الحديثة، فخابت كل آمال العسكر في الانقلاب الخشن والناعم، على حد سواء، فلملموا أوراقهم وسكنوا في ثكناتهم، ولم تعد لهم أنيابًا بارزة في السياسية الداخلية، وخضعوا بعد سنوات مليئة بالدماء والفتن للحكم المدني، في سابقة غير معهوده على تركيا ومحيطها العربي.
العقبة الثانية، كانت في الكيفية التي يمكن أن يدار بها ملف العلاقات الخارجية بتفاصيلها وتشابكاتها، فرجال العهد الجديد يدركون أن الصدام مع القوى الغربية ربما يكلفهم الكثير، بل ربما يذهب المشروع كله أدراج الرياح، لاسيما وأن بعض القوى الإقليمية التي أقلقتها تطلعات تركيا الحديثة ورجالها الجدد، كان لديها الطموح العالي والتلاقي مع القوى الغربية لإجهاض هذا المشروع الحلم بأي أثمان، وقد كان ذلك قريبًا للغاية في الانقلاب الدموي الأخير، الذي شهدته تركيا يوم 15 يوليو 2016، والذي كشفت بعض أوراقه حجم المؤامرة الاقليمية والدولية على مشروع الدولة التركية الحديثة.
رجال العهد التركي الجديد أداروا الملف بدهاء وفطنه فلم يذهبوا بعيدًا في الصدام مع القوى الغربية، ولم يتجاهلوا أبعاد المؤامرات الإقليمية، فلعبوا على حبال السياسة بحرفية، واستغلوا تناقضات الساحة الدولية، بما حفظ عليهم مشروعهم الحضاري، على الرغم من الإشكالات الاقتصادية التي حاولت وما زالت في محاولاتها للنيل من المشروع، ولاشك أنها ليست إشكالات عشوائية، بل هي جزء من محاولات لعرقلة المشروع أو وقف نموه، بعد الفشل في اجهاضه تمامًا.
هذا الأنموذج المدهش في تركيبته ومسيرته هو في حقيقته ما يُقلق الغرب من أرودغان ورجالاته.. فهو أنموذج يكسر تابو نهاية التاريخ، وبل ويعاود كتابة تاريخ جديد من النجاحات
العقبة الثالثة، كانت في التراث العلماني، الذي بات منذ عهد أتاتورك “دين” الدولة وهويتها، والذي تربت عليه أجيال متعددة، وأصبح ميراثًا ثقيل الحمل، يصعب مواجهته فضلاً عن استئصاله، إذ الحديث عن مجتمع بات مشبعًا بثقافة موغلة في علمانيتها ومعادتها للإسلام، ممتدة على عشرات السنين، يغذيها التعليم والإعلام، وتحرسها مؤسسات قوية نافذة.
رجال الدولة الجدد اتخذوا مسارًا ناضجًا في المعالجة، فلم يصدموا المجتمع في ميراثه الثقافي العلماني، ولكن تمكنوا من تفكيك مؤسساته القائمة عليه من تعليم وإعلام، وغيرها، ما مكنهم من تجاوز إشكالية الانقسام الحاد الذي يمهد لاقتتال داخلي، والمسار كما يبدوا طويلاً للغاية، ولكن المتأمل يدرك أنه يسيرون في اتجاه تخفيف العلمانية، من كونها “دين” المجتمع التركي، إلى مجرد ثقافة وتوجه لبعض الرموز والنخب والاتباع الذي يشاركونهم ذات التوجه.
المشروع الذي سار فيه رجالات العهد التركي الجديد، وفي مقدمتهم رجب طيب أردوغان، نحو تركيا “الأنموذج” لكم يكن في حقيقته مشروعًا ثقافيًا قائمًا على تحرير القرار السياسي، وتفكيك دولاب العلمانية العتيق، وإرجاع العسكر إلى حيث مكانهم الطبيعي بعيدًا عن السياسية، وإنما كان مشروعًا للبناء في مجالات يشد بعضها أزر بعض..
فكان البناء الاقتصادي متناغمًا مع عمليات التفكيك السابقة، وكان رافعة بالغة الأهمية للمشروع، إذ إن تحرير القرار السياسي، وتخفيف النكهة العلمانية، وتحجيم العسكر، ما كان ليؤتي أكله من دون نهضة اقتصادية تلمسها الشعوب وتجني ثمارها، فالشعوب في حقيقتها تُقاد بالاقتصاد والمال، وقلما يعنيها القرار السياسي إلا في انعكاساته المعيشية، والغفلة عن ذلك خطأ بالغ الخطورة أذهب بكثير من مشروعات التحرر إلى هاوية الفناء والعدم، والشواهد ليس ببعيدة تاريخيًا وجغرافيًا.
وكان كذلك التقدم في مسار القوة العسكرية الذاتية، التي جعلت تركيا الحديثة في مصاف جيوش العالم مرهوبة الجانب، فوفق “غلوبال فاير باور”، أصبحت تركيا في المركز الـ11 عالميًا، والأول لأقوى جيوش الشرق الأوسط، في ترتيب وصفه الموقع بـ”المثالي”، وفق تقدير يناير 2023.
بل وبات السلاح التركي، لاسيما المسيرات، حديث العالم أجمع بعد فاعليتها وقدرتها على تغيير مسارات كثير من المعارك والحروب الحديثة، كما كان الواقع في الصومال ضد تمرد حركة الشباب، وفي إثيوبيا في مواجهة تمرد التيغراي.
رجالات العهد الجديد، تمكنوا كذلك، من كسر الاحتكار الغربي لتسليح الجيش التركي، فبات لديهم علاقات عسكرية مع روسيا وغيرها، أسفرت عن حصولهم على معدات عسكرية متطورة في مقدمتها منظومة (أس- 400)، في تجاوز واضح وصريح لرفض الغرب تحديث منظومة تسليح الجيش التركي.
ومن عجب أن مع هذا التقدم في مسار القوة العسكرية، ما زال رجالات الجيش في ثكناتهم، وهذه مفارقة مدهشة، إذ إن زيادة تسليح الجيوش والمبالغة في قوتها، في البلدان التي شهدت انقلابات عسكرية كثيرة، غالبًا ما يكون محفوفا بالمخاطر ومعاودة المحاولات مرارًا.
عملية التفكيك غير التصادمية، مع عملية البناء التدريجية في مجالات حيوية شديدة التأثير والأهمية، صاحبها شيء ملفت، وهو أن رجالات الدولة التركية الجدد من “نسيج جديد” غير مسبوق في الساحة السياسية التركية، فلم يعهد عليهم فساد أو اختلاس أو رشوة أو محسوبية، كما كان حال من سبقهم، وكحال نظرائهم في المحيط الجغرافي القريب.
أضف إلى ذلك أن يتمتعون بسمات دينية ملفتة…فالزوجات محجبات.. والرجال يحافظون على الصلوات.. وهم مع ذلك لا تظهر لديهم أمارات التطرف والتعصب.. وليسوا بداعمين لجماعات راديكالية أو عنيفة!
هذا الأنموذج المدهش في تركيبته ومسيرته هو في حقيقته ما يُقلق الغرب من أرودغان ورجالاته.. فهو أنموذج يكسر تابو نهاية التاريخ، وبل ويعاود كتابة تاريخ جديد من النجاحات، ولكن في هذه المرة ليس في دول غربية، بل في دولة غالبيتها وساستها من المسلمين..
هو، إذن، أنموذج يكتب كلمتين في تاريخ النجاحات خارج السياق الغربي.. ليس مستحيلاً.. وهذا ما قد يغري الآخرين بتتبع آثارهم، واختراع أنموذج ذاتي في التقدم والرقي، وهو ما يعني من الناحية العملية إفلات الدول تباعًا من قبضة الغرب المحتل.
Source link