أقسم الله تعالى في هذه السورة بالعصر، وهو الزمن كله، وإقسام الله تعالى بشيء من مخلوقاته دليلٌ على أهميته أو عظمته، وإقسامه سبحانه وتعالى بالعصر لما يجري فيه من الحوادث والمتغيرات…
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلاالله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
فقال تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 – 3].
قال الشافعي رحمه الله: لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفَتهم.
أقسم الله تعالى في هذه السورة بالعصر، وهو الزمن كله، وإقسام الله تعالى بشيء من مخلوقاته دليلٌ على أهميته أو عظمته، وإقسامه سبحانه وتعالى بالعصر لما يجري فيه من الحوادث والمتغيرات، وأنه مستودعُ أعمال العباد خيرها وشرها، والمقصود بالإنسان جنس الإنسان، فيشمل جميع الناس أنهم في خسارة إلا ما استثنى، والمستثنى غالبًا يكون أقل من المستثنى منه، ثم بيَّن تعالى الصفات التي من اتَّصف بها سلِم من الخسارة وكان من الفائزين، وهي أربعة أركان:
الأول: الإيمان، ولا يكون العبد مؤمنًا حتى يكون مسلمًا، وأركان الإسلام الظاهرة خمسة هي:
شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج بيت الله الحرام.
أما أركان الإيمان فهي ستة، وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر والقدر خيره وشره، ولا ينفع العبد إيمانه إلا بثلاثة شروط:
الشرط الأول: أن يكون الإيمان خالصًا لله تعالى لا يناقضه كفرٌ ولا يخالطه شركٌ؛ قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]، ومعنى يلبسوا؛ أي يخلطوا، وقد ذم الله تعالى من كان كذلك، فقال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106].
فالعبد قد يجتمع فيه الإيمان والشرك، وحينئذ لا ينفعه إيمانه حتى يكون خالصًا سالِمًا من شوائب الشرك والكفر.
الشرط الثاني: ألا يخالف باطنه ظاهره كحال المنافقين الذين قالالله فيهم: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1].
الشرط الثالث: أن يثبت على هذا الإيمان حتى يأتيه الموت وهو عليه.
الركن الثاني: العمل الصالح، وقيَّد العمل هنا بالصالح؛ لأن العمل وإن تقرَّب به العبد إلى ربه، فإنه لا يُقبل حتى يكون صالحًا، والصالح هو الذي جاء على وفق مراد الله ورسوله، قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»[1]، وقال صلى الله عليه وسلم: «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»[2].
الركن الثالث: التواصي بالحق، وهو الدعوة إلى الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يُعذَر أحدٌ في فعل الحد الأدنى منه، ولا يوجد مسلم إلا وقد أخذ بنصيبه من ذلك، فمستقل ومستكثر، فما من مسلم يموت وهو لم يأمر بخير ولم ينهَ عن شر، بدءً من أهله إلى ما شاءالله من الناس.
أما الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يقوم بها إلا الخاصة من المسلمين ممن آتاه الله رسوخًا في العلم وقوة في القلب، لحاجتها إلى مجادلة أهل الباطل، وإقامة الحجة عليهم من أهل الشوكة والقوة، ولهذا قال تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]، وأنصح ألا يتصدى لذلك من كان قليل العلم ضعيف القلب؛ لأنه إن فعل ذلك وهو ليس أهلًا له، عاد بالضرر على نفسه وعلى الدعوة وأهلها، وفي قصص الأنبياء إبراهيم وموسى عليهم السلام، وكذلك في سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم- ما يبيِّن ما ذكرت على وجه التفصيل، فعلى المسلم أن يكون على بصيرة؛ كما قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].
الركن الرابع: التواصي بالصبر، فمن خالط الناس ودعاهم إلى الخير وأمرهم به، ونهاهم عن المنكر، فلابد أن يؤذى، وحينئذ عليه أن يصبر؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ»[3].
وقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف: 35]، وقال تعالى له: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس: 109].
وقد بيَّن تعالى مراحل الدعوة في قوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 110].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] صحيح مسلم برقم (1718) حديث عن عائشة رضي الله عنها.
[2] صحيح البخاري برقم (5063)، وصحيح مسلم برقم (1401).
[3] سنن الترمذي (2507)، وابن ماجه (4032) واللفظ له. وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (2/306)، برقم (2035).
Source link