قال: «ما أصاب عبدًا قط همٌّ ولا حزن، فقال: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، وابن أمَتِك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك…».
الحمد لله رب العالمين، مجيب الداعين، ومغيث المستغيثين، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، والصلاة والسلام على خير البرية، وأزكى البشرية، محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
ففي هذه الدار التي طُبِعت على كَدَرٍ، والإنسان الذي خُلِق في كبدٍ، فيعتريه في حياته ما ينغِّص عيشه، ويكدِّر صفوه وراحته، من همٍّ أو غمٍّ أو حزن، وذلك حاصل ولا بد، فيبحث عما يزيل ذلك ويُذهِبه بشتى السبل والوسائل، ولا أنجع وأحسن من إزالة ذلك كله بالاهتداء بالوحي، فإن من علامات توفيق الله تعالى للعبد أن يعتنيَ بكتاب الله العزيز؛ تلاوةً وتدبرًا وعملًا، ثم يتبع ذلك الاهتداء بهَدْيِ النبي صلى الله عليه وسلم واتباع سُنَّته؛ فقد قال جل وعلا عنه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4]، فقد أُوتِيَ عليه الصلاة والسلام جوامع الكَلِم، وهَدْيُه خيرُ هَدْيٍ، وفي هذه الخطبة نقف مع حديث عظيم نأخذ منه الدروس والعبر والهداية لعلاج ذلك الهم والغم والحزن؛ جاء في مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان، وصححه الألباني، عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أصاب عبدًا قط همٌّ ولا حزن، فقال: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، وابن أمَتِك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسمٍ هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيعَ قلبي، ونور صدري، وجِلاء حزني، وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله همَّه وغمَّه، وأبدله مكانه فرحًا، قالوا: أفلا نتعلمهن يا رسول الله، قال: بل ينبغي لمن يسمعهن أن يتعلمهن».
علَّق الإمام ابن القيم رحمه الله على هذا الدعاء العظيم الوارد في الحديث في كتابه (الفوائد) تعليقًا جميلًا، فمما ذكر: أن في هذا الحديث العظيم أمورًا من المعرفة والتوحيد والعبودية؛ منها:
أن الداعي به صدَّر سؤاله بقوله: «إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمَتِك»، وهذا يتناول مَن فوقه مِن آبائه وأمهاته، إلى أبويه آدم وحواء، ففي ذلك اعتراف بأنه وآباءه مماليك لله تعالى، وأن العبد ليس له غير باب سيده وفضله وإحسانه، وأن سيده إن أهمله وتخلى عنه، هَلَكَ، واعتراف بأنه مدبَّرٌ مأمور منهِيٌّ، إنما يتصرف بحكم العبودية، لا بحكم الاختيار لنفسه، وبذلك يلتزم عبودية الذل والخضوع، وامتثال أمر سيده، واجتناب نهيه، والافتقار إليه، ولا يتعلق قلبه بغيره محبةً وخوفًا ورجاءً، فهذه من مقتضيات العبودية ولوازمها.
ثم قال: «ناصيتي بيدك»: الناصية هي مقدِّمة الرأس، وهذا إقرار من العبد بقوله: أنت يا ألله المتصرف فيَّ، تصرفني كيف تشاء، لست المتصرف في نفسي، فمتى شهِد العبد أن ناصيته ونواصي العباد كلها بيد الله وحده، يصرفهم كيف يشاء، لم يَخَفْهم بعد ذلك ولم يَرْجُهم، ولم ينزلهم منزلة المالكين، بل منزلة عبيد مقهورين مربوبين، المتصرف فيهم والمدبِّر لهم ربُّه وربهم جل وعلا.
ومتى شهد العبد ذلك، صار فقره وضرورته إلى ربه جل وعلا وصفًا لازمًا له، فلم يفتقر للناس، ولم يعلِّق أمله ورجاءه بهم، عند ذلك يستقيم توحيده وتوكله وعبوديته، وقوله: «ماضٍ فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك» تضمنت هاتان الجملتان أمرين:
الأول: أن حُكْمَ الله تعالى ماضٍ في العبد، شاء أم أبى.
الثاني: أنه سبحانه مع كونه مالكًا قاهرًا متصرفًا في عباده، نواصيهم جميعًا بيده، هو تعالى مع ذلك على صراط مستقيم في قوله وفعله، وقضائه وقدره، وأمره ونهيه، وثوابه وعقابه، فخبره كله صدق، وقضاؤه كله عدل، وأمره كله مصلحة، وما نهى عنه فيه المفسدة، فهو سبحانه يُمضي ما يقضي به ويقع، وغيره قد يقضي بقضاء ويقدر أمرًا، لا يستطيع تنفيذه ولا إيقاعه.
وقوله: «عدل فيَّ قضاؤك»: يتضمن أيضًا أن أقضيتَهُ سبحانه في عبده من جميع الوجوه؛ من صحة وسقم، وفقر وغِنًى، وحياة وموت، وعقوبة وتجاوز، وغير ذلك مما يقضيه سبحانه على العباد كله، لا ظلم فيه ولا جور.
وقوله: «أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك…»، توسُّلٌ إليه سبحانه بأسمائه كلها، ما علم العبد منها عن طريق الكتاب والسنة، وما لم يعلم، وهذا أحب الوسائل إلى الله تعالى؛ أن يدعوه العبد بأسمائه وصفاته سبحانه؛ فهو القائل جل وعلا: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، فمن مقتضيات العبودية وعلامة التوفيق التعلق به جل وعلا بالدعاء، في طلب ما يرغب، ودفع ما يضر ويُحذَر في العاجل والآجل.
وقوله: «أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري»: الربيع هو المطر الذي يُحيي الأرض بعد موتها بالزرع والثمر، فشبَّه القرآن به لحياة القلوب به، وجمع بين الماء الذي تحصل به الحياة للأرض، والنور الذي تحصل به الإضاءة والإشراق للقلب بالقرآن.
ولما كان الصدر أوسع من القلب، كان النور الحاصل له يسري منه إلى القلب؛ لأنه قد حصل لما هو أوسع منه.
ولما كانت حياة البدن والجوارح كلها بحياة القلب، تسري الحياة من القرآن إلى الصدر، ثم إلى القلب ثم إلى الجوارح؛ ولذا سأل العبد الحياة لقلبه بالربيع الذي مادته ومصدره القرآن الكريم؛ كلام رب العالمين.
ولما كان الحزن والهم والغم يضادُّ حياة القلب واستنارته، سأل العبد ربه سبحانه أن يكون ذهاب هذه المنغِّصات بالقرآن، فإنها أحرى ألَّا تعود إذا أذهبها كلام الله تعالى، وأما إن ذهبت بغير القرآن؛ من صحة أو مال، أو جاه أو ولد، فإنها تعود بذهاب ذلك، وهو حاصل ولا بد.
ثم إن المكروه الوارد على القلب إن كان من أمرٍ ماضٍ، أحْدَثَ الحزن، وإن كان من مستقبل، أحدَثَ الهمَّ، وإن كان من أمر حاضر، أحدَثَ الغمَّ، والتعلق بكتاب الله تعالى يُذهِب ذلك كله.
ما أجمل أن يعتني المسلم بكتاب ربه جل وعلا، ويوثِّق الصلة به تلاوة وتدبرًا وعملًا؛ فهو ربيع القلب ونوره، والمخلِّص بإذن الله من كل همٍّ وغمٍّ وحزن، الشافع يوم الدين والتجارة التي لا تبور، فلنراجع علاقتنا بكتاب ربنا جل وعلا، ونصححها، ما دمنا في زمن المهلة والعمل قبل انقضاء الأعمار.
وما أجمل أن نتعلق بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، ونستلهم منها الدروس والعِبر والتوجيهات المباركة، النافعة للعبد في دنياه وآخره، ونلهج بهذا الدعاء العظيم حين الهم والحزن.
اللهم اجعلنا من المعظِّمين لكتابك الذين يتلونه حق تلاوته، والمعظمين لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، المقتفين أثره، والمتبعين لهديه.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 – 182].
__________________________________
الكاتب: عبدالعزيز أبو يوسف
Source link