الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) }
{{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي}} لا يمنعه الحياء من ضرب الأمثال، وإن صغرت كالبعوضة أو أصغر منها كجناحها ما دام يثبت به الحق؛ فالعبرة بالغاية.
وأصل الاستحياء الانقباض عن الشيء والامتناع منه خوفاً من موَاقَعَةِ القُبح، أو لاستشعار أنه لا يليق أو لا يُحْسَن في متعارف أمثاله. والاستحياء والحياء واحد، فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل استقدم واستأخر واستجاب.
وفي الآية أن الحياء لا ينبغي أن يمنع من فعل المعروف وقوله والأمر به، وأنه يستحسن ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأذهان.
وفي الآية أيضا إثبات صفة الحياء لله عزّ وجلّ؛ ووجه الدلالة: أن نفي الاستحياء عن الله في هذه الحال دليل على ثبوته فيما يقابلها؛ وقد جاء ذلك صريحاً في السنة، كما في قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «(إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ) » [سنن الترمذي]؛ والحياء الثابت لله تعالى ليس كحياء المخلوق؛ لأن حياء المخلوق انكسار لما يَدْهَمُ الإنسان ويعجز عن مقاومته؛ فتجده ينكسر، ولا يتكلم، أو لا يفعل الشيء الذي يُستحيا منه؛ وهو صفة ضعف ونقص إذا حصل في غير محله.
{{أَن يَضْرِبَ}} يجعل ويصير، من قولهم ضرب خيمة وضرب بيتا، كما قال تعالى {{فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ}} [النحل:74] أي لا تجعلوا له مماثلا من خلقه.
{{مَثَلاً}} تنكير {{مَثَلاً} } للتنويع بقرينة بيانه بقوله: {{بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}} .
والتمثيل يكشف المعنى ويوضح المطلوب، والعاقل إذا سمع التمثيل استبان له به الحق، وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور والأجناس والحشرات والهوام، ولسان العرب ملآن من ذلك، فإنكار ضرب الأمثال جهالة مفرطة أو مكابرة واضحة.
قال بعض السلف: إذا سمعت المثل في القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي؛ لأن الله تعالى يقول: { {وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ}} [العنكبوت:43]
فالله تعالى يضرب الأمثال؛ لأن الأمثال أمور محسوسة يستدل بها على الأمور المعقولة؛ انظر إلى قوله تعالى: {{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً}} ؛ وهذا البيت لا يقيها من حَرّ، ولا برد، ولا مطر، ولا رياح {{وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ}} [العنكبوت:41]؛ وقال تعالى: {{ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} } [الرعد:14] إنسان بسط كفيه إلى غدير مثلاً، أو نهر يريد أن يصل الماء إلى فمه! هذا لا يمكن؛ فهؤلاء الذين يمدون أيديهم إلى الأصنام كالذي يمد يديه إلى النهر ليبلغ فاه؛ فالأمثال لا شك أنها تقرب المعاني إلى الإنسان إما لفهم المعنى؛ وإما لحكمتها وبيان وجه هذا المثل.
{{مَّا}} ما إبهامية تتصل بالنكرة فتؤكد معناها من تنويع أو تفخيم أو تحقير، نحو لأمر ما، وأعطاه شيئا ما. وقيل {ما} هاهنا للتقليل، بمعنى شيء، أيّ: أيّ شيء كأن يجعله {بَعُوضَةً} مثلاً. والبعوضة حشرة صغيرة طائرة ذات خرطوم دقيق ثاقب ماص تحوم على الإنسان لتمتص بخرطومها من دمه غذاء لها، وتسمى أيضا الناموسة.
{{فَمَا فَوْقَهَا}} فما فوقها في الكبر، وهذا قول قتادة وابنِ جُريجٍ. واختيار ابن جرير، ويؤيده ما رواه مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «(مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُشَاكُ شَوْكَةً فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا كُتِبَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ وَمُحِيَتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ)» .
وقيل: فما فوقها في الصغر والحقارة، فيكون المعنى أدنى من البعوضة، لأن الغرض المقصود هو الصغر. كما إذا وصف رجل باللؤم والشح، فيقول السامع: “نعم، وهو فوق ذلك”، يعني فيما وصفت. وهذا قول الكسائي وأبي عبيدة، قال الرازي: وأكثر المحققين، وفي الحديث: «(وَلَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ)» [الترمذي].
فالفوقية تكون للأدنى وللأعلى، كما أن الوراء تكون للأمام وللخلف، كما في قوله تعالى: {{وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً}} [الكهف:79] أي كان أمامهم.
وهو في هذه الآية صالح للمعنيين أي ما هو أشد من البعوضة في الحقارة وما هو أكبر حجما منها.
قال أهل العلم: وفي المعنى الذي أسند الله إليه عدم الاستحياء من أجله في ضرب المثل بهذه المصغرات والمستضعفات وجوه:
أحدها: أن البعوضة قد أوجدها على الغاية القصوى من الإحكام وحسن التأليف والنظام، وأظهر فيها -مع صغر حجمها- من بدائع الحكمة كمثل ما أظهره في الفيل الذي هو في غاية الكبر وعظم الخلقة.
وإذا كل واحد منهما قد استوفى نصاب حسن الصنعة وبدائع التأليف والصنعة، فضرب المثل بالصغير والكبير سيان عنده إذا كانا في توفية الحكمة سواء.
الثاني: أن في البعوضة -مع صغر حجمها وضعف بنيانها- من حسن التأليف ودقيق الصنع، من اختصار الخصر ودقة الخرطوم ولطيف تكوين الأعضاء ولين البشرة، ما يعجز أن يحاط بوصفه، وهي مع ذلك تبضع بشوكة خرطومها -مع لينها- جلد الجاموس والفيل، وتهتدي إلى مراق البشرة بغير دليل، فلا يستحيي الله تعالى أن يضرب بها المثل، إذ ليس في وسع أحد من البشر أن يخلق مثلها ولا أقل منها، كما قال تعالى: {{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} } [الحج:73]
الثالث: أن البعوضة لما كانت من أصغر ما خلق الله تعالى خصها بالذكر في القلة، فلا يستحي أن يضرب المثل في الشيء الكبير بالكبير والحقير بالحقير، وله المثل الأعلى في ضرب الأمثال.
فالمثل بالذباب والبعوض والعنكبوت، وما يجري مجراه، أتى به تعالى في غاية ما يكون من التمثيل، وأحسن ما يكون من التشبيه، لأن الذي جعلها مثلاً لهم في غاية ما يكون من الحقارة، وضعف القوة، وخسة الذات والفعل، فلو شبههم بغير ذلك ما حسن موقع التشبيه، ولا عذب مذاق التمثيل، إذ الشيء لا يشبه إلا بما يماثله ويشاكله، ومن أتى بالشيء على وجهه فلا يستحيا منه.
{{فَأَمَّا}} تصدير الجملتين بـ «أما» التي معناها الشرط مشعر بالتوكيد، إذ هي أبلغ من: فالذين آمنوا يعلمون، والذين كفروا يقولون.
{{الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ}} يعلمون أنه كلام الرحمن، وأنه من عند الله.
وفيه فضيلة الإيمان، وأن المؤمن لا يمكن أن يعارض ما أنزل الله عزّ وجلّ بعقله، فلا يعترض، ولا يقول: لِم؟، ولا: كيف؟؛ بل يقول: سمعنا وأطعنا وصدقنا؛ لأنه يؤمن بأن الله عزّ وجلّ له الحكمة البالغة فيما شرع، وفيما قدر.
وفيه إثبات الربوبية الخاصة؛ لقوله تعالى: { {من ربهم}} ؛ واعلم أن ربوبية الله تعالى تنقسم إلى قسمين: عامة؛ وخاصة؛ فالعامة هي الشاملة لجميع الخلق، وتقتضي التصرف المطلق في العباد؛ والخاصة هي التي تختص بمن أضيفت له، وتقتضي عناية خاصة؛ وقد اجتمعتا في قوله تعالى: {{قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} } [الأعراف:121-122] فالأولى ربوبية عامة؛ والثانية خاصة بموسى وهارون؛ كما أن مقابل ذلك “العبودية” التي تنقسم إلى عبودية عامة، كما في قوله تبارك وتعالى: {{إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً}} [مريم:93]؛ وخاصة كما في قوله تعالى: {{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ}} [الفرقان:1]؛ والفرق بينهما أن العامة هي الخضوع للأمر الكوني؛ والخاصة هي الخضوع للأمر الشرعي؛ وعلى هذا فالكافر عبد لله بالعبودية العامة؛ والمؤمن عبد لله بالعبودية العامة والخاصة.
{{وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا}} مفيدة للتحقير بقرينة المقام كقوله تعالى: {{أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} } [الأنبياء:36]
{{أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً}} لأنه لم يتبين لهم الحق لإعراضهم عنه، وقد قال الله تعالى: {{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ}} [المطففين:13-14]
قال ابن عباس والحسن وقتادة ومقاتل والفراء: نزلت في اليهود لما ضرب الله تعالى الأمثال في كتابه بالعنكبوت والذباب والتراب والحجارة، وغير ذلك مما يستحقر ويطرح. قالوا: إن الله أعز وأعظم من أن يضرب الأمثال بمثل هذه المحقرات، فردّ الله عليهم بهذه الآية.
وقال السدي في تفسيره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين، يعني قوله: {{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} } [البقرة:17] وقوله {{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} } [البقرة:19] الآيات الثلاث، قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال، فأنزل الله هذه الآية إلى قوله: {{هُمُ الْخَاسِرُونَ}}
وقيل نزلت في المشركين.
والكل محتمل.. فهذا اختلافهم في سبب النزول، وقد اختار ابن جرير ما حكاه السُّدي بشأن المنافقين؛ لأنه أمس بالسورة، وهو مناسب.
قال ابن عاشور: والوجه أن نجمع بين الروايتين ونبين ما انطوتا عليه بأن المشركين كانوا يفزعون إلى يهود يثرب في التشاور في شأن نبوءة محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وخاصة بعد أن هاجر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى المدينة، فيتلقون منهم صورا من الكيد والتشغيب فيكون قد تظاهر الفريقان على الطعن في بلاغة ضرب المثل بالعنكبوت والذباب، فلما أنزل الله تعالى تمثيل المنافقين بالذي استوقد نارا وكان معظمهم من اليهود هاجت أحناقهم وضاق خناقهم فاختلفوا هذه المطاعن فقال كل فريق ما نسب إليه في إحدى الروايتين ونزلت الآية للرد على الفريقين ووضح الصبح لذي عينين.
وإما أن يكون قائله المشركون من أهل مكة مع علمهم بوقوع مثله في كلام بلغائهم كقولهم أجرأ من ذبابة، وأسمع من قراد، وأطيش من فراشة، وأضعف من بعوضة. وهذا الاحتمال أدل على أنهم ما قالوا ما هذا التمثيل إلا مكابرة ومعاندة فإنهم لما غلبوا بالتحدي وعجزوا عن الإتيان بسورة من مثله تعلقوا في معاذيرهم بهاته السفاسف، والمكابر يقول ما لا يعتقد، والمحجوج المبهوت يستعوج المستقيم ويخفي الواضح، وإلى هذا الثاني ينزع كلام صاحب الكشاف وهو أوفق بالسياق.
والسورة وإن كانت مدنية فإن المشركين لم يزالوا يلقون الشُبه في صحة الرسالة ويشيعون ذلك بعد الهجرة بواسطة المنافقين. وقد دل على هذا المعنى قوله بعده: {{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} إلى قوله: {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً}} .
كما قال في سورة المدثر: {{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ}} [المدثر:31]
وجعل تفصيل الناس في هذه الآية قسمين لأن الناس بالنسبة إلى التشريع والتنزيل قسمان ابتداء مؤمن وكافر، والمقصود من ذكر المؤمنين هنا الثناء عليهم بثبات إيمانهم وتيئيس الذين أرادوا إلقاء الشك عليهم فيعلمون أن قلوبهم لا مدخل فيها لذلك الشك. والمراد بالذين كفروا هنا إما خصوص المشركين كما هو مصطلح القرآن غالبا، وإما ما يشملهم ويشمل اليهود بناء على ما سلف في سبب نزول الآية.
وإنما عبر في جانب المؤمنين {{يعلمون}} تعريضا بأن الكافرين إنما قالوا ما قالوا عنادا ومكابرة وأنهم يعلمون أن ذلك تمثيل أصاب المحز، كيف وهم أهل اللسان وفرسان البيان، ولكن شأن المعاند المكابر أن يقول ما لا يعتقد حسدا وعنادا.
وقال الربيع بن أنس: “هذا مثل ضربه الله تعالى للدنيا وأهلها، وأن البعوضة تحيا ما جاعت، فإذا شبعت وامتلأت ماتت.كذلك مثل أهل الدنيا إذا امتلئوا منها كان سبباً لهلاكهم”.
وفيه أن كل من اعترض ولو على جزء من الشريعة ففيه شبه بالكفار؛ فمثلاً لو قال قائل: لماذا ينتقض الوضوء بأكل لحم الإبل؟ فالجواب: أن هذا اعتراض على حكم الله عزّ وجلّ؛ وهو دليل على نقص الإيمان؛ لأن لازم الإيمان التام التسليم التام لحكم الله عزّ وجلّ. إلا أن يقول ذلك على سبيل الاسترشاد، والاطلاع على الحكمة؛ فهذا لا بأس به.
{{يُضِلُّ بِهِ}} أي بضرب المثل {كَثِيراً} من الناس {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} جملتان مستأنفتان جاريتان مجرى البيان والتفسير للجملتين السابقتين المصدرتين بـ «أما»؛ ولهذا ينبغي الوقوف على قوله تعالى: { {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً}}
فيزيد هؤلاء ضلالة إلى ضلالهم لتكذيبهم بما قد علموه حقًا يقينًا، من المثل الذي ضربه الله بما ضربه لهم، فذلك إضلال الله إياهم به {{وَيَهْدِي بِهِ}} يعني بالمثل كثيرًا من أهل الإيمان والتصديق، فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيمانًا إلى إيمانهم، لتصديقهم بما قد علموه حقًا يقينًا أنه موافق ما ضربه الله له مثلا وإقرارهم به، وذلك هداية من الله لهم به.
والتعبير بالكثرة لا ينافي قول الله تعالى: {{وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} } [سبأ:13] {{وَإِنَّ كَثِيراً مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ}} [ص:24] لأن المهتدون في أنفسهم كثير، وإذا وصفوا بالقلة فبالنسبة إلى أهل الضلال.
وإسناد الضلال إلى الله تعالى إسناد حقيقي كما أن إسناد الهداية كذلك، فهو خالق الضلال والهداية.
قال ابن عاشور: إسناد الإضلال إلى الله تعالى مراعي فيه أنه الذي مكن الضالين من الكسب والاختيار بما خلق لهم من العقول وما فصل لهم من أسباب الخير وضده. وفي اختيار إسناده إلى الله تعالى مع صحة إسناده لفعل الضال إشارة إلى أنه ضلال متمكن من نفوسهم حتى صار كالجبلة فيهم فهم ميئوس من اهتدائهم كما قال تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} فإسناد الإضلال إلى الله تعالى منظور فيه إلى خلق أسبابه القريبة والبعيدة وإلا فإن الله أمر الناس كلهم بالهدى وهي مسألة مفروغ منها في علم الكلام.
{{وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ}} أي الخارجين عن طاعة الله؛ وأصل الفسق خروج الثمرة من قشرها، وهو عاهة أو رداءة في الثمر، فهو خروج مذموم يعد من الأدواء، تقول العرب: “فسقت الرطبة”: إذا خرجت من قشرتها؛ ولهذا يقال للفأرة: فويسقة، لخروجها عن جُحْرها للإفساد، وثبت في الصحيحين، عن عائشة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «(خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ الْحَيَّةُ وَالْغُرَابُ الْأَبْقَعُ [هو الذي في ظهره وبطنه بياض] وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ وَالْحُدَيَّا [الحدأة])»
والمعنى: إما مسوق لبيان أن للفسق تأثيرا في زيادة الضلال لأن الفسق يرين على القلوب ويكسب النفوس ظلمة فتتساقط في الضلال المرة بعد الأخرى على التعاقب، حتى يصير لها دربة فكأنه قيل هؤلاء فاسقون وما من فاسق إلا وهو ضال فما ثبت الضلال إلا بثبوت الفسق.
وإما مسوق لبيان أن الضلال والفسق أخوان فحيثما تحقق أحدهما أنبأ بتحقق الآخر على نحو «قياس المساواة».
وفيه أن إضلال من ضل ليس لمجرد المشيئة؛ بل لوجود العلة التي كانت سبباً في إضلال الله العبد؛ لقوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ}؛ وهذا كقوله تعالى: {{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} } [الصف:5]
والمراد بالفسق هنا الخروج المطلق الذي هو الكفر؛ لأن الفسق قد يراد به الكفر؛ وقد يراد به ما دونه؛ ففي قوله تبارك وتعالى: {{وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ}} [السجدة:20] المراد به في هذه الآية الكفر؛ وكذلك هنا.
قال ابن كثير: فالفاسق يشمل الكافر والعاصي، ولكن فسْق الكافر أشد وأفحش، والمراد من الآية الفاسق الكافر، والله أعلم، بدليل أنه وصفهم بقوله: {{الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}} وهذه الصفات صفات الكفار المباينة لصفات المؤمنين، كما قال تعالى في سورة الرعد: {{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} الآيات، إلى أن قال: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}} [الرعد:19-25] .
والذي عليه سلف هذه الأمة: أن من كان مؤمناً وفسق بمعصية دون الكفر، فإنه فاسق بفسقه مؤمن بإيمانه، وأنه لم يخرج بفسقه عن الإيمان، ولا بلغ حد الكفر. وذهبت الخوارج إلى أن من عصى وأذنب ذنباً فقد كفر بعد إيمانه.
قال ابن عاشور: والفسق مراتب كثيرة تبلغ بعضها إلى الكفر، والكتاب والسنة على جميعها، لكن الذي يستخلص من الجمع بين الأدلة هو ما اصطلح عليه أهل السنة من المتكلمين والفقهاء وهو أن الفسق غير الكفر وأن المعاصي وإن كثرت لا تزيل الإيمان وهو الحق.
{{الَّذِينَ يَنقُضُونَ}} النقض الحلّ بعد الإبرام، صفة للفاسقين لتقرير اتصافهم بالفسق {عَهْدَ اللَّهِ} وصية الله إلى خلقه، وأمره لهم بطاعته، ونهيه لهم عن معصيته في كتبه المنزلة وعلى ألسنة أنبيائه المرسلة، ونقضهم له تركهم العمل به.
{ {مِن بَعْدِ}} من بعد إبرامه وتوثيقه بالحلف أو الإِشهاد عليه، و {من} متعلقة بقوله {ينقضون}، وهي لابتداء الغاية، ويدل على أن النقض حصل عقيب توثق العهد من غير فصل بينهما، وفي ذلك دليل على عدم اكتراثهم بالعهد، فإثر ما استوثق الله منهم نقضوه.
{{مِيثَاقِهِ} } من الوثاقة، وهو الشدّ في العقد، وهو العهد المؤكد باليمين، وليس المعنى هنا على ذلك، وإنما كنى به عن الالتزام والقبول.
{{وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ}} من إدامة الإِيمان والتوحيد والطاعة وصلة الأرحام.
قال ابن عاشور: وأقول تكميلا لهذا إن مراد الله تعالى مما شرع للناس منذ النشأة إلى ختم الرسالة واحد وهو: إبلاغ البشر إلى الغاية التي خلقوا لها، وحفظ نظام عالمهم، وضبط تصرفاتهم فيه على وجه لا يعتوره خلل. وإنما اختلفت الشرائع على حسب مبلغ تهيئ البشر لتلقي مراد الله تعالى، ولذلك قلما اختلفت الأصول الأساسية للشرائع الإلهية قال تعالى: {{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} } [الشورى:13].
وإنما اختلفت الشرائع في تفاريع أصولها اختلافا مراعى فيه مبلغ طاقة البشر، لطفا من الله تعالى بالناس، ورحمة منه بهم حتى في حملهم على مصالحهم ليكون تلقيهم لذلك أسهل، وعملهم به أدوم، إلى أن جاءت الشريعة الإسلامية في وقت راهق فيه البشر مبلغ غاية الكمال العقلي وجاءهم دين تناسب أحكامه وأصوله استعدادهم الفكري وإن تخالفت الأعصار وتباعدت الأقطار فكان دينا عاما لجميع البشر، فلا جرم أن كانت الشرائع السابقة تمهيدا له لتهيئ البشر لقبول تعاليمه وتفاريعها التي هي غاية مراد الله تعالى من الناس، ولذا قال تعالى: {{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ}} [آل عمران:19]. فما من شريعة سلفت إلا وهي حلقة من سلسلة جعلت وصلة للعروة الوثقى التي لا انفصام لها وهي «عروة الإسلام» فمتى بلغها الناس فقد فصموا ما قبلها من الحلق وبلغوا المراد، ومتى انقطعوا في أثناء بعض الحلق فقد قطعوا ما أراد الله وصله.
{{وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} } أي يسعون لما به فساد الأرض فساداً معنوياً كالمعاصي؛ وفساداً حسياً كتخريب الديار وقتل الأنفس.
قال ابن عاشور: ومن الفساد في الأرض عكوف قوم على دين قد اضمحل وقت العمل به، وأصبح غير صالح لما أراد الله من البشر، فإن الله ما جعل شريعة من الشرائع خاصة وقابلة للنسخ إلا وقد أراد منها إصلاح طائفة من البشر معينة في مدة معينة في علمه، وما نسخ دينا إلا لتمام وقت صلوحيته للعمل به، فالتصميم على عدم تلقي الناسخ وعلى ملازمة المنسوخ هو عمل بما لم يبق فيه صلاح للبشر، فيصير ذلك فسادا في الأرض لأنه كمداواة المريض بدواء كان وصف له في حالة تبدلت من أحوال مرضه حتى أتى دين الإسلام عاما دائما لأنه صالح للكل.
{{أُولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}} وسبب خسرانهم استبدالهم النقض بالوفاء، والقطع بالوصل، والإفساد بالإصلاح.
وهي جملة اسمية مؤكَّدة بضمير الفصل: { {هم}} كقوله تعالى: { {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ}} [الشعراء:40]
واعلم أن نزول هذه الآيات ونحوها في بعض أهل الكتاب أو المشركين هو وعيد وتوبيخ للمشركين وأهل الكتاب، وهو أيضا موعظة وذكرى للمؤمنين ليعلم سامعوه أن كل من شارك هؤلاء المذمومين فيما أوجب ذمهم وسبب وعيدهم هو آخذ بحظ مما نالهم من ذلك على حسب مقدار المشاركة في الموجب.
وقد تضمنت هذه الآية الكبيرة نوعاً من البديع يسميه أرباب البيان «الطباق»، وهو أن تأتي بالشيء وضدّه، ووقع هنا في قوله تعالى: {{بعوضة فما فوقها}} ، فإنهما دليلان على الحقير والكبير، وفي قوله: {{فأما الذين آمنوا}} ، {{وأما الذين كفروا}} ، وفي قوله تعالى: {{يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً}} ، وفي قوله: {{ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه}} ، وفي قوله: {{ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل}} .
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
Source link