أظن أن تكون دعوتك الأولى هي: أريد أن أجِدَ كل شيء حولي ذهبًا ولؤلؤًا وجواهرَ، وأظن أن أغلب الناس سيدعُون بهذا.
كتب : محمد ونيس – مصر
قرأتُ في أحد كتب الشيخ علي الطنطاوي قصةً جميلة، وأودُّ سَرْدَها عليكم، ولا أدري شيئًا عن القصة هل هي حقيقة أم خيال، فكل ما يعنيني هو معناها الجميل، لكن دعني أسألك أولًا هذا السؤال: لو كان لك دعوتان مستجابتان، فبماذا تطلب في هاتين الدعوتين؟
أظن أن تكون دعوتك الأولى هي: أريد أن أجِدَ كل شيء حولي ذهبًا ولؤلؤًا وجواهرَ، وأظن أن أغلب الناس سيدعُون بهذا.
ولم يكن صاحب هذه القصة بعيدًا عما قلنا، فقد قيل: إن رجلًا كان له دعوتان مستجابتان، فدعا في دعوته الأولى قائلًا: اللهم اجعل كل شيء تمسه يدي ذهبًا.
فأُعطيها، فكاد يطير عقله فرحًا، ويتراقص قلبه طربًا، وانطلق يلمس كل ما يجد فيحوِّله ذهبًا، حتى جاع فأخذ الصحن ليأكل، فصار ما فيه من الطعام ذهبًا، وعطش فحمل الكأس ليشرب فصار ما فيها من الماء ذهبًا، فقعد جوعانَ وعطشانَ، فأقبلت ابنته تواسيه، فعانقها، فصارت تمثالًا من الذهب.
أتدري ماذا كانت دعوته الثانية؟
دعا ربه: أن يُعيدَ كل شيء كما كان؛ لأنه أدرك أن الطعام للجائع، والماء للعطشان، والبنت للأب خيرٌ من ملءِ الأرض ذهبًا.
أدْرَكَ الحقيقة التي غابت عن أذهاننا أن الكنوز لا قيمةَ لها في ذاتها، وأن قيمتها في نفعها، فإن لم تنفع فلا قيمة لها، ولا تعدو كونها صفائحَ ومعادنَ، ولا معنى لاكتنازها، (( «وهل لك – يا بن آدم – من مالك إلا ما أكلتَ فأفنيتَ، أو لبِستَ فأبليتَ، أو تصدقت فأمضيت» ))؛ [صحيح مسلم].
أدرك أن المال وسيلة، فإن لم يُتوسَّل به إلى نعيم الدنيا أو سعادة الآخرة، كان ورقًا مصورًا، أو معدنًا براقًا، فعلام يقتتل الناس عليه؟ وعلام يقتل البخلاء أنفسهم من أجل اكتنازه؟ ولماذا يعشق البخلاء المال لذاته؟ وقد ذكر ابن الجوزي في (صيد الخاطر): أن رجلًا كان له ثلاثة أبناء: ذكران وبنت، وله ألف دينار مدفونة، فمرِض مرضًا شديدًا، فاجتمع أهله حوله، فقال الرجل لأحد ولديه الذَّكَرَين: لا تبرح من عندي، فلما انصرف الجميع وخلا به، قال له: إن أخاك مشغول باللعب بالطيور، وإن أختك لها زوج تركي، ومتى وصل من مالي إليهما شيء، أنْفَقوه في اللعب، وأنت على سيرتي وأخلاقي، ولي في الموضع الفلاني ألف دينار، فإذا أنا متُّ، فخُذها وحدك.
اشتد بالرجل المرض، فمضى الولد، فأخذ المال، فعُوفيَ الأب، فجعل يطلب من الولد أن يردَّ المال إليه، فلا يفعل، فمرض الولد وأشرف على الموت، فجعل الأب يتضرع إليه ويقول له: ويحك خَصَصْتُك بالمال دونهم، فتموت، فيذهب المال، ويحك، لا تفعل، فما زال بولده حتى أخبره بمكان المال، فأخذ الأب المال، ثم عُوفيَ الولد، ومضت مدة، فمرِض الأب، فطلب الولد من أبيه أن يدلَّه على مكان المال، وبالغ في ذلك واجتهد، لكن الأب لم يخبره بمكانه، ومات الأب، وضاع المال”.
وذكر ابن الجوزي أيضًا، فقال: “وحكى لي صديق لنا: أن رجلًا مات، ودُفن في الدار، ثم نبش بعد مدة ليخرج، فوجد تحت رأسه لبِنة مطليَّة بالقار (الزفت)، فسأل أهله عنها، فقالوا: هو الذي طلاها بالقار، وأوصى أن تُترَك تحت رأسه في قبره، وقال: إن اللبِنَ يبلى سريعًا، وهذه لموضع القار لا تبلى، فأخذوها، فوجدوها ثقيلة، فكسروها، فوجدوا فيها تسعمائة دينار، فتولاها أصحاب التركات”.
وذكر قائلًا: “بلغني أن رجلًا كان يكنُسُ المساجد، ويجمع ترابها، ثم ضربه لبنًا، فقيل له: هذا لأي شيء؟ فقال: هذا تراب مبارك، وأريد أن يجعلوه على لَحْدِي، فلما مات، جُعِل على لحده، ففضل منه لبِنات، فرمَوها في البيت، فجاء المطر، فتفسخت اللبنات، فإذا فيها دنانير، فمضَوا، وكشفوا اللبن عن لحده، وكله مملوء دنانير”.
• دخل الحسن البصري على عبدالله بن الأهتم يَعُوده في مرضه، فرآه الحسن يصوب بصره في صندوق في بيته ويُصعِّده، ثم قال ابن الأهتم للحسن: أبا سعيد، ما تقول في مائة ألف في هذا الصندوق، لم أؤدِّ منها زكاة، ولم أصِلْ منها رحمًا؟ قال الحسن: ثكلتك أمك، ولمن كنت تجمعها؟ قال ابن الأهتم: لروعة الزمان، وجفوة السلطان، ومكاثرة العشيرة، ثم مات، فشهد الحسن جنازته، فلما فرغ من دفنه، قال الحسن: انظروا إلى هذا المسكين، أتاه شيطانه فحذَّره روعة زمانه، وجفوة سلطانه، ومكاثرة عشيرته، عما رزقه الله إياه وغمره فيه، انظروا كيف خرج منها مسلوبًا محروبًا، ثم التفت الحسن إلى الوارث فقال له: أيها الوارث، لا تُخْدَعَنَّ كما خُدع صُويحبك بالأمس، أتاك هذا المال حلالًا، فلا يكوننَّ عليك وبالًا، أتاك عفوًا صفوًا ممن كان له جَموعًا منوعًا، من باطلٍ جمعه، ومن حقٍّ منعه، قطع فيه لُجَجَ البحار، ومفاوز القِفار، لم تكدح فيه بيمين، ولم يعرَق لك فيه جبين، إن يوم القيامة يوم ذو حسرات، وإن من أعظم الحسرات غدًا أن ترى مالَك في ميزان غيرك، فيا لها عثرة لا تُقال، وتوبة لا تُنال”.
فسبحان من أعدم البخلاء العقول والأفهام: {﴿ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾} [الفرقان: 44].
• يقول أحدهم: “كان لي جار كبيرُ السن، كان وحيدًا، لا زوجة، ولا أقارب، يعمل صانعًا للنعال، بخيلًا شديد البخل، يجمع المال ويكنِزه، وذات يوم لم يفتح دكانه وطالت غيبته، فقلت في نفسي: لعله أصابه مكروه، لا بد أن أسأل عنه، صليت العشاء، وذهبت أسأل عنه، طرقت الباب: يا فلان، يا فلان، لم يجبني أحد، دفعت الباب بقدمي ودخلت، وأنا أنادي: يا فلان، فزِع الرجل وصرخ بأعلى صوته قائلًا: ماذا تريد؟ قلت: جئت أسأل عنك، فأنت منذ مدة لم تفتح دكانك، فطردني الرجل شر طردة، فخرجت متعجبًا، أسأل نفسي: لماذا صنع الرجل معي هذا؟ فقلت في نفسي: لعله أصابه مكروه، فلِمَ لا أعود إليه؟ فعدت إليه، ودخلت خِلسة دون أن يشعر بي، وكانت المفاجأة.
كان الرجل يصنع شيئًا غريبًا، لا يخطر على بالٍ، كان قد جمع أمامه دنانير ذهبية، تتلألأ مع ضوء المصابيح، كأنها حبات لؤلؤ، وبجواره إناء فيه زيت، ينظر إلى دنانير الذهب ويقول لها: يا حبيبتي، يا أعز ما عندي، لقد أفنيتُ فيكِ عمري، كيف أتركك؟ يجب أن أدفنكِ معي، ثم يأخذ دينار الذهب ويغمسه في الزيت، ويقذف به إلى جوفه؛ فيصيبه سعال شديد، تكاد تتقطع منه أحشاؤه، ثم يأخذ دينارًا آخر، ويفعل معه ما فعل بالأول، وهكذا استمر الحال.
وقفت أنظر إليه بدهشة واستغراب، أكاد لا أصدق نفسي، فقلت في نفسي: لن يأخذ مالك أيها البخيل إلا أنا.
خرجت وأغلقت الباب حتى لا ينكشف أمري.
جئته بعد ثلاثة أيام، فإذ به قد مات ويبس على فراشه، فأخبرت الناس بموته، فغسَّلوه، وكفَّنوه، وحملوه، كان الناس يتعجبون من ثقل الرجل، رغم نحافته وهزاله، ولا يعلمون أن كنزه في بطنه، دفنَّاه، ثم وضعت على قبره علامة؛ لأستدل عليه، وفي منتصف الليل كنت على قبره أحفره بفأسي متعجلًا؛ خشية أن يراني أحد، وصلت إليه، فبقرت بطنه بسكيني، فإذ بريق الذهب يتلألأ في ضوء القمر، مددت يدي بلهفة آخُذه، فإذ به جمرات من نار، صرخت من شدة الألم، نزعت يدي وعُدتُ مهرولًا إلى بيتي، غمست يدي في الماء البارد؛ كي تخفف حرارتها، وظللت سنوات أشعر بأثر هذه اللسعة، تأتيني بين فترة وفترة”.
أخي الكريم، لا ينبغي أن يقودك العقل إلا إلى النعيم والراحة، ولا ينبغي أن يحملك الفكر إلا إلى الفوز والفلاح.
ليت شعري، أي عقل قاد هذا البخيل؟ وأي فكَّر حمله في رأسه؟
إن عقله لم يقُده إلا إلى الجحيم والشقاء، وإن فكره لم يحمله إلا إلى البوار والخسران.
فأي بوار وأي خسران أعظم من أن تُعذَّب بمالك الذي شقيت في جمعه؛ فيكون سببًا في شقائك في الدنيا والآخرة: {﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾} [التوبة: 34]؟
إن كل مال بلغ نصابًا لم تؤدَّ زكاته فهو كنز، وإن كان على ظهر الأرض، وكل مال أُخرجت زكاته فليس بكنز، وإن كان في سبع أرضين.
كل البخلاء الذين يكنزون المال، ولم يؤدوا زكاة أموالهم، {﴿ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾} [التوبة: 34].
وهل يكون العذاب الأليم بشرى؟ وهل تكون البشرى إلا في الخير؟ فكيف يقول الحق تعالى: {﴿ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾} [التوبة: 34]؟ إنه أسلوب تهكُّم وسخرية منك أيها البخيل؛ لأنك لا عقل لك ولا فكر، فكان العذاب الأليم جزاءك.
لقد كدَّ وكدح البخلاء في اكتناز الأموال لـ {﴿ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ ﴾} [التوبة: 35]، لماذا يُحمى عليها في نار جهنم؟ ﴿ {فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} ﴾ [التوبة: 35]، ثم يُقال لهم تبكيتًا وتوبيخًا: ﴿ {هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ } ﴾ [التوبة: 35].
فاجتاحتهم كل الآلام؛ آلام النفس والجسد.
أيها القارئ العزيز، أدعوك لزيارة حانوت الحداد، وأريدك أن تعمِدَ إلى قطعة من قطع الحديد المحماة، التي توهَّجت من شدة الاحمرار، فهل تستطيع أن تمسكها بيدك؟
وإن خُيِّرْتَ بين أن تمسكها بيدك، أو أن تفقد مالك كله، فأيهما تختار؟ بالطبع ستختار أن تفقد مالك كله، فما قيمة المال مع هذا العذاب؟ إن الله تعالى لم يطلب منا المال كله؛ ﴿ {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} ﴾ [التوبة: 103]؛ أي: خذ جزءًا يسيرًا من المال وليس كله، ومع ذلك منع البخلاء حقَّ الله، فهل يقوى أحدهم على عذاب الله؟
إن قطعة من الحديد المحماة شديدة الاحمرار، لا يستطيع أحدنا أن يمسكها بيده لحظة واحدة، فما بالنا برجل بخيل لم يؤدِّ زكاة ماله، يُحمى على كنزه كله في نار أشدَّ من نار الدنيا بتسعة وستين جزءًا، فيُكوى بها في جسده كله، وليس هذا مرة واحدة، ولكن هذا العذاب يستمر طيلة خمسين ألف سنة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( «ما من صاحبِ ذهبٍ ولا فضة لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة صُفِحت له صفائح من نار، فأُحمي عليها في نار جهنم، فيُكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بَرَدت أُعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يُقضى بين العباد، فيرى سبيله؛ إما إلى الجنة، وإما إلى النار» ))؛ [صحيح مسلم].
أيها البخيل، أتظن أن العذاب هذا فحسب
إن البخيل يوم القيامة يمثُل له ماله الذي لم يؤدِّ زكاته ثعبانًا ذَكَرًا، خبيثًا ضخمًا، لا شعر له؛ لطول عمره، وكثرة سُمِّه يتبعه، فاغرًا فاه فإذا أتاه فرَّ البخيل منه؛ فيناديه ربه عز وجل: ((خُذْ كَنزك الذي خبأته، فأنا أغنى منك، فإذا رأى أنه لا بد له منه، سلك يده في فيه، فيقضَمها قضم الفحل))؛ [صحيح الجامع].
فهل يقضَمُ الشجاع الأقرع يدَ البخيل فحسب
إن الشجاع الأقرع له زبيبتان – نقطتان سوداوان فوق العينين – يطوِّق البخيل يوم القيامة، ثم يأخذ بشِدقيه، فيعَضُّه فيهما ويُفرِغ سُمَّه، ثم يقول له: ((أنا مالك، أنا كنزك)).
ألم تسمع قول الله تعالى: {﴿ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾} [آل عمران: 180].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( «ما من صاحب إبل، ولا بقر، ولا غنم، لا يؤدِّي زكاتها، إلا جاءت يوم القيامة أعظمَ ما كانت وأسمَنَه، تنطَحه بقُرُونها، وتطؤُهُ بأخفافها، كلما نَفَذَتْ أُخَراها، عادت عليه أُولَاها، حتى يُقضى بين الناس» ))؛ [صحيح الجامع].
أخي الكريم، إن كنوز الدنيا تفنى وتبيد، ويصيبها الصدأ والسوس، وتسرقها اللصوص، فإذا أردت كنزًا لا يصيبه الصدأ ولا السوس، ولا تعبث به اللصوص، فاجعل كنزك في السماء، ودَعْكَ من حرص البخلاء، وطهِّر مالك بالزكوات، وأكْثِرْ من الصدقات: ﴿ {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } ﴾ [الحديد: 11].
فهذا كنزك النافع الذي لا يفنى ولا ينقص، بل يزيد ويمكث، ولا تكن كبخيل ظل يلهث ويكنز، حتى إذا عاين العذاب والوبال، والبوار والخسران، نظر إلى ماله متحسرًا حيرانَ؛ ثم قال: ﴿ {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} ﴾ [الحاقة: 28].
بماذا نفعني مالي؟ وهل نالني من بخلي بمالي إلا الكنز الناري؟
Source link