إن القرآن الكريم أنار لنا الطريق، وبرهن على أن الأخلاق والقِيَمَ الفاضلة، والامتناع عن الرذيلة، سبب في كل الخير لتلك الأمة؛ ومن هنا تظهر أهمية الأخلاق، فصلاح المجتمع بصلاح الفرد، وفساده بفساده
إن القرآن الكريم أنار لنا الطريق، وبرهن على أن الأخلاق والقِيَمَ الفاضلة، والامتناع عن الرذيلة، سبب في كل الخير لتلك الأمة؛ ومن هنا تظهر أهمية الأخلاق، فصلاح المجتمع بصلاح الفرد، وفساده بفساده؛ وإلى ذلك يشير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117]، وهذه الآية تقرر سُنَّةً إلهية كونية، فإذا قدَّر الله لقرية أنها هالكة؛ لأنها أخذت بأسباب الهلاك فكثُر فيها المترفون، فعمَّ فيهم الفسق والضلالة، فلم تدافعهم، ولم تأخذ على أيديهم، وهي المسؤولة عما يحل بها، فحقَّت عليها سنة الله، وأصابها الدمار والهلاك.
إن القرآن في الجانب الأخلاقي أسَّس بناء المجتمع، فالأخلاق هي الدماء في الجسد الإسلامي، والعبادات هي القلب الذي يضخ تلك الدماء، وعلى ما سبق يتضح أن الإسلام وضع أُسُسَ ومبادئ منظمة ذات سعة وشمول وتوغُّل للكِيان البشرى، وهي أكثر ثراءً واستيعابًا من أي منظومة أخلاقية وضعية، وأن الالتزام بالأخلاق يرتبط كليًّا بالعبادات محققًا أن الخُلُق والتدين والعبادة جسد واحد، ولا إصلاح للفرد الذي هو أساس إصلاح أي مجتمع بدون أخلاق.
لذلك نجد أن الشريعة الإسلامية ألْغَتْ كل ما كان سيئًا، وأخذت بمنهج الأخلاق، وطريق المنهج تمت إضاءته في المجتمعين المكي والمدني، الذي وصل في صدره الأول قمة الكمال التي لا يمكن أن يصل إليها أي مجتمع، وفي ظله وتحت وطأته سعِدت الأمة بالطمأنينة، والعدل والاستقرار، وفي إطار ما سبق سنقوم بومضات لتنير لنا طريقنا كبشر تحب من يتعامل معها بحسن الأخلاق والألفاظ، ومن يعاملنا بلطف ومن يعطينا مكانة لائقة، ونرفض أن يعاملنا أي أحد – ولو كان أخًا – عكس ما سبق؛ فعن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، وفيه أن المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه؛ (رواه البخاري ومسلم)، وفى كلام المربي نجد قاعدة تربوية في الأخلاق، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم قاعدة وأساس.
إن من يعامل الناس على أساس أن يحب لهم ما يحب لنفسه، فإنه سيعاملهم حتمًا بكل خلق رفيع؛ لأن هذا هو ما يجب أن يعامله الناس به إذ يحبه لنفسه، وعلى نفس المنهج فإن العبادات إذا أُدِّيت على كمال وتمام، فعندئذٍ يتحقق القلب بمعانٍ تكون الأخلاق ملازمة لها، ويكون لذلك آثاره وثمراته على الجوارح كلها كاللسان والعين والأذن وبقية الأعضاء، وأظْهَرُ ثمرات النفس الزكية حسنُ الأدب والمعاملة مع الله والناس؛ مع الله قيامًا بحقوقه بما في ذلك بذل النفس، وجهادًا في سبيله، ومع الناس على حسب الدائرة، وعلى مقتضى المقام، وعلى ضوء التكليف الرباني، فمسلم العبادات محب للأخلاق يتحلى بها، يَدَعُ الرياء، ويكره الكذب، صابر على الأذى، شاكر لكل نعم الله، لا عجب ولا غرور به، وهو نخلة تطرح ثمارها للجميع من حوله؛ قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 24، 25].
لعل من أبرز السمات في المسلم الحقيقي ذلك الارتباط بين العبادة والأخلاق، إن العبادة تنير طريق صاحبها وتوجِّه سلوكه نحو نور طريق الأخلاق والأدب، والبعد عن الحرمات، وتهذِّب أخلاقه وتقوِّمها باستمرار؛ فعلى سبيل المثال الصلاة، تنهى عن الفحشاء والمنكر؛ قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45].
وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 4 – 7].
إن هؤلاء لو كانوا يعرفون حقيقة الصلاة، ويؤدونها حقًّا لله تعالى، ما منعوا العون عن عباده، وذلك يؤصل الارتباط بين معيار قبول العبادات، وحسن الأخلاق والمعاملات، والصيام جُنَّة يمتنع فيها المسلم عن الطعام والشراب؛ فيه قال صلى الله عليه وسلم: «من لم يَدَعْ قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يَدَعَ طعامه وشرابه»؛ (رواه البخاري)، والزكاة ليست دفعًا للمال فقط، وإنما هي تطهير المال والنفس؛ قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، ومن أجل ذلك وسَّع النبي صلى الله عليه وسلم في دلالة كلمة الصدقة التي ينبغي أن يبذلها المسلم؛ فقال: «تبسُّمُك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وإماطتك الأذى والشوكَ والعَظْمَ عن الطريق لك صدقة»؛ (رواه البخاري)، وما سبق هو القاعدة؛ إذ إن علاقة الأخلاق بالعبادة علاقة طردية، فقد لا تنفع المرء صلاة ولا زكاة أو صيام يوم القيامة، إن كان من المفسدين المعتدين على الناس؛ سأل الرسول صلى الله عليه وسلم يومًا أصحابه فقال: «أتدرون من المفلس» ؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: «المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنِيَت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه، أُخذ من خطاياهم، فطُرحت عليه، ثم طُرِح في النار»؛ (رواه مسلم).
ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هاجر ما حرم الله»، في رواية: «والمهاجر من هاجر ما نهى الله عنه»، فهذه العبادات تلتقي كلها عند الغاية التي رسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: «وإنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، فإذا لم يستفِدِ المرء من عبادته في معاملاته، ويهذب بالله وبالناس صلته، فقد خسر؛ فقد جاء في الحديث النبوي الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن فلانة تُكْثِر من صلاتها وصدقتها وصيامها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال صلى الله عليه وسلم: «هي في النار»، قالوا: يا رسول الله، إن فلانة تذكر من قلة صيامها وصلاتها، وأنها تتصدق بالأثوار من الأقِطِ، ولا تؤذي جيرانها، قال: «هي في الجنة».
إن الأخلاق في الإسلام تكليف ربانيٌّ قبل كل شيء؛ قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام: 162، 163]، فإذا كان الصدق تكليفًا ربانيًّا، والأمانة تكليفًا ربانيًّا، والوفاء بالوعد تكليفًا ربانيًّا، فهل تدخل هذه التكاليف في العبادة، أم تعتبر خارجة عنها زائدة عليها؟ وكيف تكون خارجة عنها أو زائدة عليها، والله سبحانه وتعالى يقرر أنه لم يكلف البشر إلا أن يعبدوه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ويؤكد هذا الحديث النبوي الشريف: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له»؟
ويجب على المسلم أن يعلم أن التقوى ليست مجرد القيام بحق الله فقط دون حق الناس، وتكون صلته بالناس سيئة، فهذا لا يعرف المعنى الحقيقي لحق التقوى؛ فالمسلم والمؤمن الحقيقيُّ ألِفٌ مألوف، ومحب للخير، ومتسامح، ولا يحقِد، ولا يحسُد، ولا يكذب، ودائمًا على لسانه الحق، ليِّنٌ هيِّنٌ، دون تنازل أو قهر، ويمتلئ بالمروءة، ولا يغضب، ويصِل من قَطَعَهُ، وحَسَن الخُلُق، ومحبوب من الجميع، وعزيز في دنيا الناس، ولا يطلب الشهرة أو الرئاسة، وكل أعماله في اتجاه الإخلاص لله، وعلى منهج، أحسن خلق الله خُلُقًا؛ وصدق رسول الله: «ما من شيء يُوضَع في ميزان العبد أثقل من حسن الخلق، إن صاحب حسن الخلق لَيبلغ به درجة الصوم والصلاة»، وأوصى الحبيب صلى الله عليه وسلم فقال: «أفضل الفضائل أن تَصِلَ من قطعك، وتُعطيَ من حرمك، وتصفح عمَّن شتمك»؛ (مسند أحمد عن معاذ بن أنس الجهني).
إن ما بينك وبين ربك وطريقك إلى الله مفتوح دائمًا، ولن تستطيع أن تحدد موقعك في الطريق إلا بقلبك الصافي، ونواياك الصادقة، وأخلاقك الحسنة.
والحمد لله رب العالمين.
_____________________________________________________
المراجع والمصادر:
• القرآن الكريم.
• تفسير ابن كثير.
• الكتب الستة.
• موطأ مالك.
• السلسلة الصحيحة للألباني.
• فتح الباري شرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي.
• الترغيب والترهيب، للمنذري.
• جامع العلوم والحكم.
• روضة العقلاء.
___________________________________________________________
الكاتب: د. عبدالله الزبير بكر
Source link