منذ حوالي ساعة
“ولست أبالي حين أُقتل مسلمًا”، هكذا ينشد خبيب، يكفيه أن الله أنعم عليه بنعمة الإسلام وأردف له بنعمة الشهادة في سبيله.
بسم الله الرحمن الرحيم، يقول تعالى في محكم كتابه العزيز: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23] إنهم أبطال مجيدون من طينة نادرة، غمرَ الإيمانُ الحقُّ قلوبهم، وعمر الصدق والولاء للإسلام جوانحهم، فوهبوا أرواحهم لربِّ العزة، وكل أملهم أن ينالوا الشهادة في سبيل الله، ويا لها من تضحية ترفع ذكرهم في الدنيا والآخرة. وبطلنا “خُبيْب بن عدي” واحد من هؤلاء الذين يقول الحق سبحانه وتعالى في حقهم: {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 4 – 6].
هو خُبيْب بن عدي بن عامر بن مجدعة الأنصاري، صحابي جليل من قبيلة أوس التي ناصرت الرسول صلى الله عليه وسلم وعاهدته على الوفاء والإخلاص والذود عنه وعن دين الإسلام الحق، لازم خبيب الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة وكان أحد جنده الذين يأتمرون بأمره، أبلى البلاء الحسن في غزوة “بدر” وكان من بين قتلاه من المشركين “الحارث بن عامر بن نوفل”.
ظل خبيب مثال المؤمن الناسك الأوَّاب، ولا غَرْوَ أن يختاره الرسول صلى الله عليه وسلَّم للمهام الجسام؛ إذ كان رفيق عاصم بن ثابت، ومرثد بن أبي مرثد، وبضعة من المجاهدين الذين انتدبهم رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام، لاستطلاع أخبار قريش ورصد تحرُّكاتها، وجاء في كتب الرواة أن هؤلاء المناضلين تم تعقُّبهم من طرف قوم بني لحيَان وهم حيٌّ من “هُذيل” وكانوا في مائة رجل من الرماة فاستطاعوا محاصرتهم عند أحد الجبال، وأعطوهم الأمان على أن ينزلوا ويُسلِّموا أنفسهم، لكن بعضهم آثر ألَّا ينزل في ذمة أولئك المشركين، فتمَّ قتلهم ومن بينهم عاصم ومرثد رضوان الله عليهم، أما خُبيب بن عدي وصاحبه زيد بن الدثنة فنزلا وتم أسْرُهما، في حين استشهد الباقون وتمَّ بعد ذلك اقتياد الأسيرين إلى مكة حيث بيعا إلى المشركين ممن لهم ثأر عندهما.
والآن لننصت لحديث أبي هريرة كما ورد في مسند الإمام أحمد، وهو يسردُ لنا بعضًا من أطوار قصة أسر الصحابي الجليل خبيب، يقول: “فانطلق بخبيب وزيد بن الدثنة حتى باعوهما بعد وقعة بدر، فابتاع بنو الحارث بن عامر بن نوفل خبيبًا، وكان خبيب هو قاتل الحارث بن عامر يوم بدر، فلبث خبيب عندهم أسيرًا حتى أجمعوا على قتله، فاستعار من بعض بناتِ الحارث مُوسًى يستحدُّ بها، فأعارته، فدرج بُنَيٌّ لها وهي غافلة حتى أتاه، فوجدته مُجْلِسَهُ على فَخِذه، والمُوسَى بيده، قالت: ففزعت فزعة عرفها خبيب، فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك.
قالت: والله ما رأيت أسيرًا قطُّ خيرًا من خُبيب، والله لقد وجدته يومًا يأكل من عنب في يده، وإنه لموثق بالحديد، وما بمكة من ثمرة، وكان يقول: إنه لرزق رزقه الله خبيبًا. فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل قال لهم خبيب: دعوني أصلي ركعتين، فتركوه، فصلى ركعتين، فقال: والله لولا أن تحسبوا أن ما بي جزع لزدت، ثم قال: “اللهمَّ أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا ولا تُبق منهم أحدًا، ثم أنشأ يقول:
فلست أبالي حين أُقْتَلُ مسلمًا ** على أيِ جَنْبٍ كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشــأ ** يُبارك على أوصال شِلْوٍ ممـــــــــزّعِ
ثم قام إليه أبو سروعة عقبة بن الحارث فقتله، كان خبيبٌ هو الذي سنَّ لكل مسلم قُتِل صبرًا الصلاةَ، وأخبر -يعني النبي– أصحابه يوم أصيبوا خبرهم؛ (فتح الباري).
لقد انقاد مشركو قريش لأحقادهم وكرههم للإسلام وأذعنوا لنار الثأر التي كانت تأكل قلوبهم وتُعمي أبصارهم، فلم يشفِ ما بهم -بحسبهم- سوى ذلك المصير البشع الذي أعدُّوه لخبيب؛ إذ صلبوه على جذوع النخل ثم قتلوه، لكنَّ خبيبًا لاذ بقوة الإيمان التي تسكن قلبه ووجدانه، فصبر على العذاب الممضِّ، وواجه إرهابهم الدنيء بطاقة الصبر الذي لا ينفد، وبصلابة الجَلَد الذي لا ينهزم، وفي اللحظة التي سبقت رحيله عن هذه الدنيا أحب خبيب أن تكون آخر كلماته مناجاته لربه من خلال أداء الصلاة. وها قد هداه إيمانه الصادق إلى سنِّ سُنَّة محمودة سيكون له أجرها إلى آخر الساعة.
إن خبيبًا يفتح عيوننا على حقيقة أخرى من حقائق الصلاة، فهي ليست مجرد طقس معزول نؤديه كل يوم خمس مرات، بل هي عنوان للسكينة والطمأنينة، وهي كذلك المرهم الشافي للآلام الشديدة والأوصاب المستعصية، إنها المشكاةُ التي يستمدُّ منها المؤمنُ النورَ الذي ينير له دروبه المحلولكة في هذه الدنيا، فيُجابه بها أصعب الابتلاءات، وهل هناك ابتلاء أصعب من ابتلاء الموت، “ولست أبالي حين أُقتل مسلمًا“، هكذا ينشد خبيب، يكفيه أن الله أنعم عليه بنعمة الإسلام وأردف له بنعمة الشهادة في سبيله.
ولا نملك في الأخير إلا أن نقول مع حسان بن ثابت وهو يرثي لفقد خبيب:
ما بالُ عَينِكَ لا تَرقا مَدامِعُهــــــــا ** سَحًّا عَلى الصَّدرِ مِثلَ اللُؤلُؤِ القَلِقِ
عَلى خُبَيبٍ وَفي الرحمَنِ مَصرَعُهُ ** لا فاشِلٍ حينَ تَلقاهُ وَلا نَــــــــــزِقِ
فَاذْهَب خُبَيبُ جَزاكَ اللَهُ طَيِّبَــــةً ** وَجَنَّةَ الخُلدِ عِندَ الحورِ في الرُّفُقِ
رحم الله خبيبًا وسائر الشهداء الأبرار.
____________________________________________________
الكاتب: د. علي كرزازي
Source link