وحدة الأمة فهي مقصد أساسي من مقاصد الدين فالاتحاد والاجتماع والاتفاق والتكامل، وعدم التفرق والتنازع هو فريضة شرعية وضرورة اجتماعية.
من أهم الفرائض الواجبة التي يغفل عنها كثير من المسلمين فريضة مغيبة لها أهمية كبرى في حياتهم لا تقل أهميتها عن الشهادتين والصلاة والصيام والحج والزكاة عنيت وحدة الأمة فهي مقصد أساسي من مقاصد الدين فالاتحاد والاجتماع والاتفاق والتكامل، وعدم التفرق والتنازع هو فريضة شرعية وضرورة اجتماعية.
وهذه الفريضة تقوم على وحدة الاعتقاد والإيمان بين جميع المسلمين، فما دام الفكر واحداً والمرجع واحداً فينبغي أن يجتمع عليه أهله ويتوحدوا ويتحابوا.والعبودية لله يجب أن تجمعنا وتجعلَنا أمةً واحدة كما أرادنا الله، قال تعالى: {﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾} (الأنبياء: 92)، وقال سبحانه: {﴿ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾} (المؤمنون: 52).
فأمة إسلامية يجمعها دين الله وشريعته وأحكامه، وهو الحبل الذي نستمسك به ونتوحد عليه، قال تعالى: {﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾} (آل عمران: 103)، أَلَّف بين قلوبنا بالفكر الواحد والإيمان بالحق ، وأنقذنا بذلك من النار أيضاً، فقوله {﴿أصبحتم بنعمته﴾} أي بهذا الدين العظيم وهدايتكم إليه.
ولو تأملنا في كتاب الله لوجدنا النصوص الكثيرة التي تأمرنا بالأخوة والحب في الله، والتعاون والإصلاح بين المؤمنين. وكلها تقتضي وجوب الوحدة بين المسلمين، منها قوله تعالى: {﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾} (الحجرات: 10).
وهذا الواجب الشرعي المضيع واجب الوحدة له أثر عظيم على أحوال المسلمين، تقدمهم وتأخرهم لأن الأمة تتقدم وتقوى بمقدار التزامها بهذه الفريضة وإهمال العناية بها يؤدي إلى فساد حال الأمة وذهاب بأسها وقوتها وتأخرها، قال تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾(الأنفال: 46)، ومن نظر في حال الأمة اليوم يجد عمق هذه الآية، فإن تضييع الإخاء والمحبة والوحدة سببٌ في كل مشكلةٍ وتخلفٍ وظلمٍ وجهلٍ وضياعِ حقوقٍ وتسلطِ عدوٍ.
وإذا كانت الفرائض لها أثرها في تزكية النفس، فإن فريضة الوحدة بين المسلمين لها أثر في تزكية الأمة وقوتها، بأفرادها ومجموعها، وما يترتب على هذه الفريضة من قوة وتناصر؛ له أثره في دعوة الأمم الأخرى إلى الله وهدايتها إلى دين الله وإصلاحها.
ولا تقل أهمية هذه الفريضة عن أهمية إقامة الدين بل هي الركن الركين والأساس المتين في إقامته، لذلك أمرنا الله تعالى بالأمرين معاً، فقال سبحانه: { ﴿شَرَعَ لَكُم مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾} (الشورى: 13)، فكما أن إقامة الدين فرض من الفرائض؛ كذلك عدم التفرق فيه فرض أيضا.
ونجد في زماننا بعض المسلمين يحاولون إقامة الدين ويبذلون جهدهم فيه، لكنهم يجعلون ذلك على حساب الوحدة وعدم نبذ التفرق، ومن المسلمين من يبالغ في عدم التفرق فيتهاون في إقامة الدين ويتقبل الانحراف المرفوض، والمطلوب الموازنة بين إقامة الدين والوحدة، وتحقيقهما معاً، بحيث لا يتعارضان، فلا نُضيِّع شيئاً من الدين، ولا نتفرق عن أهل الحق والدين على أمر نختلف فيه لكنه لا يبرر الفرقة والبغضاء.
والله سبحانه وتعالى نهانا معشر المسلمين عن أن نعمل عمل المشركين الذي يفرقون الناس بأهوائهم وباطلهم، قال تعالى: {﴿وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ؛ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾} (الروم: 31-32)، وقوله تعالى: ﴿فرقوا دينهم﴾ دليل على أن التفرقة فيها تضييع لإقامة الدين.
وحينما يضعف الدين ويكثر الجهل؛ فإن الأرضية التي تصنع الوحدة والمودة تكون قد ضعفت، فتحصل الفرقة، قال تعالى: {﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً، وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ، وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾} (هود: 118- 119)، فالخلاف ناشئ عن فقد رحمة الله، والله ما خلقهم ليختلفوا ويتفرقوا، بل خلقهم ليكونوا أمة واحدة، لكن جعل من حكمته ابتلاءهم بذلك، والواقع أنه سيكون كثير من الناس مسيئين في ذلك فيكونون من أهل النار(والعياذ بالله).
أما الذين رحمهم الله فيجتمعون على الحق ويكونون أمة واحدة، والله يرحم المحسنين أهل الإيمان والتقوى والاستقامة، قال تعالى: { ﴿إِنَّ رَحْمةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ المُحْسِنِينَ﴾} (الأعراف: 56).
ووحدة الأمة الإسلامية، تعني التعاون على الخير والحق، وأن يلين بعضنا لبعض ويتواضع، وأن يكون لنا قيادة واحدة ورأس واحد ومرجع واحد نجتمع عليه ونحافظ عليه، وأن لا نسمح لأحد أن يخرج على الأمة وقيادتها بغير حق، وأن لا يتولى قيادة الأمة إلا من ترضاه وتختاره من أهل العلم والتقوى والخبرة.
ووحدة الأمة الإسلامية تعني أن يكون للمسلمين دولة واحدة ترعى المسلمين في العالم كله. دولة وشعب مسلم، لا يكتفون بحماية القوي للضعيف، بل يسعون إلى أن لا يكون فيهم ضعيف. الغنيُّ يعطي الفقيرَ والمحتاجَ، يكرمه ولا يهينه ويعزه ولا يذله، بل يسعى لإغنائه، حتى لا يكون في المجتمع محتاج.
الأمة بحاجة لتحقيق الوحدة الحقيقية وحدة لا يكتفي فيها بلد غني أن ينفق على بلد فقير، بل جميع المال للأمة كلها، بلادها وشعوبها. وحدة تجعل طاقات الأمة وعقولها في خدمة الأمة كلها، لا لبلد دون بلد من بلدان المسلمين. وحدة تحمي المسلمين في بلاد غير المسلمين، فلا يتجرأ أحد في العالم أن يعتدي على مسلم حيثما كان.
تحريم التفرق والنهي عن أسبابه
نهانا الله تعالى عن التفرق والشقاق والنزاع والاختلاف الذي يسبب التفرق، فقد علَّمنا الحقائق وأرسل إلينا بالعلم والبينات التي يجب أن تجمعنا، قال تعالى: {﴿وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾} (آل عمران: 105).
فالذين يفرقون الأمة ويعملون أعمالاً تفرقها؛ عليهم أن يراجعوا أنفسهم ويصححوا علومهم ويتخلوا عن أهوائهم. فالعلم لا يفرِّق، وإنما البغي والتعدي في التعامل معه هو الذي يفرق، فإما فهم خاطئ، وإما نفوس ذات أهواء، قال تعالى: { ﴿وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ﴾} (الشورى: 14).
وواجبنا أن نحذر من كل من يفرق كلمة الأمة وشأنها، فهم مسيئون باغون بأهوائهم أو جهلهم، أو هم أعداء للإسلام يدَّعون الانتساب إليه.
وإذا كان العالِم في الآخرة قد تسعر به النار(1)؛ فإن العالم إذا لم يكن قد زكى نفسه واتقى الله وتواضع للمسلمين فإنه قد يسعر نار الفرقة والحقد بين الناس في الدنيا، فضر بعلمه ولم ينفع.
كيف تتحقق وحدة الأمة؟
1ـ بالإيمان بالحق والاعتقاد السليم فهو أهم ما يوحد الناس، وذلك يضم المسائل الاعتقادية التي لم يختلف فيها أحد من المسلمين، مما ورد في كتاب الله وصح في هدي رسول الله، ولم يكن عليه خلاف في فهمه وقطعيته، أما ما اختلف المجتهدون في فهمه؛ فتلك مسائل لا يجوز أن تكون سبباً للتفرقة والنزاع، وذلك حينما نصر على الحكم على الناس بالإيمان والكفر من خلالها.
وواقع الحال أن الأمة تجتمع على ما يزيد على خمس وتسعين بالمئة من عقائدها والمسائل المهمة في الفقه، لكن بسبب التعصب وعدم تقدير المهمات وعدم الاهتمام بوحدة الأمة؛ نجد أن كثيراً من الخطباء والعلماء والمدرسين لا يثيرون إلا المسائل الخلافية، فجهل الناس مسائل الاتفاق، وعَلِموا الخلاف، فاختلط عليهم الأمر لأنهم غير قادرين على تمييز الحق من الباطل فيها، وتسببت هذه المسائل في الحقد والغل والفرقة، ولو أن العلماء لم يتكلموا إلا في مسائل الاتفاق؛ لاجتمع الناس، ولصلح حالهم، ولَكَفَتْهم في حياتهم، ولانْتَفَتِ الفرقة والخلاف والغيظ فيما بينهم.
2ـ من أسباب الوحدة: طاعة الله ورسوله، فإن الناس إذا انحرفوا عن منهج الله لا بد أن يختلفوا، لأنه ليس وراء منهج الله إلا الهوى والباطل، والأهواء لا تجتمع، وأهلها لا يتوافقون، قال تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا﴾ (الأنفال: 46)، فجاء النهي عن التنازع بعد الأمر بطاعة الله ورسوله، لينبهنا إلى التنازع نابع من ترك الطاعة لله ولرسوله.
وقد ذكر الله تعالى آثار التفرق وأهم سبب فيه، حيث حدثنا الله تعالى عن حال بعض الأمم السابقة كالنصارى لنحذر أن نصير مثلهم، فقال سبحانه: {﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾} (المائدة: 14)، فبين أن نسيان جزء وحَظٍّ من الدين هو سبب العداوة بينهم.
وهذا ما نجده في حالنا اليوم أن كثيراً من الأفراد أو الاتجاهات أو الجماعات أو الفئات أو الفرق أو الأحزاب أو المؤسسات أخذت جزءاً من الدين اهتمت به ونسيت جزءاً آخر، وكل فئة تدعي أنها أخذت الدين كله وقامت به، وتظن أن ما أخذه غيرها خارج عن الدين، أو معدوم الأهمية، فتعادي من اتجه غير اتجاهها، فتحصل العدواة بذلك والتنافر والتدابر بين الاتجاهات والفئات.
وقد تجد أن الأجزاء التي أخذها الجميع هي كلها من الدين، فمنهم من جعل جانب العقائد والمبادئ والقيم هو المهم، ومنهم من جعل جانب الفقه والتعليم هو المهم، ومنهم من جعل الجانب الدعوي أو السياسي هو المهم، ومنهم من جعل الجانب التزكوي والأخلاقي هو المهم، ومنهم من جعل الجانب الاقتصادي هو المهم.
وكل واحد بذل جهده في الجانب الذي رآه مهماً، وليست المشكلة في أن يبذل جهده في جانب، ولكن المشكلة أن يرى ما اهتم به غيره خطأً فيتهمه بالخروج من الدين أو بالانشغال بما لا ينفع.
وعلاج هذا الأمر أن نحترم بعضنا بعضا رغم اختلافاتنا لأننا في النهاية نشكل بمجموعنا جسداً واحداً، كل عضو منه يقوم بدوره ولا يستغني عن العضو الآخر، وإن تفاوتت أهمية الأعضاء فيما بينها، فليست اليد كالعقل، وليست المعدة كالقلب، وليس الظفر كالعين، لكن الكل مطلوب، كما قال النبي(صلى الله عليه وسلم): “ «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» “.
فإذا فعلنا ذلك حصل التكامل بين الجميع والحديث يشير إلى أن العضوَ المريضَ يجب أن يعالَج ويُعتنى به، لا أن يُقطع، ولا يقطع العضو عادة في الطب إلا عند كون المرض خطيراً يخشى سريانه إلى الجسد مع اليأس من علاجه. والأمر الثاني الذي يحصل به علاج هذا النقص والنسيان لبعض الدين هو التناصح، فيجب على أهل الإيمان أن يتناصحوا، حتى يكونوا سبباً في إصلاح بعضهم وتكميل بعضهم.
3ـ ومن أسباب الوحدة: طاعة أولياء الأمور وأهل العلم الثقات الذين يطيعون الله ورسوله قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾(النساء: 59)، ومن أشد ما يفرق الناس ويفسد اجتماعهم الطاعة في معصية الله، قال: “لا طاعة لمخلوق في معصية الله”(2).
وللعلماء الدور الهام في مخاطبة الناس وإقناعهم وتوحيدهم، قال تعالى: {﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾} (النساء: 83).
4ـ لا ينبغي أن يتعصب المسلم لرأي أو جماعة أو مذهب حتى يصل به الأمر إلى أن يتحامل على أخيه المسلم فيستبيح دمه أو يكفِّره بغير حق، كما فعل أحد ابنَيْ آدم مع أخيه، إذ حقد عليه حتى استباح دمه وقَتَلَه، وكما فعل الخوارج إذ كفروا علياً فقتلوه، وهو إمام المتقين وخليفة المسلمين.
وإنما ينشأ ذلك عن التكبر وإعجاب كل ذي رأي برأيه، وعن حب الرياسة والظهور، أو ينشأ ذلك عن إساءة الظن بالآخرين، أو ينشأ من سلوك الشدة على المخالف المسلم بدل الرفق والنصيحة، وقد يحصل ذلك نتيجة عدم التثبت مما ينقل عن الآخرين من كلام، فيسرع إلى اتهامهم، وتحقيرهم، أو ادعاء خروجهم عن منهج الحق، وقد ينشأ ذلك عن الجهل، فبعض طلاب العلم الذين لم يستوعبوا العلم، أو لم يأخذوه عن أهله؛ يفهمون النصوص على غير وجهها ويُنزِّلونها على الناس وعلى الواقع تنزيلاً غير سليم فيحصل التخبط والخطأ والانحراف والتضليل بغير حق.
ونتيجة لعدم الرسوخ في العلم، عند كثير ممن يحسبون على العلم والعلماء، ونتيجة عدم الرجوع إلى الراسخين؛ صارت الساحة العلمية والدعوية والتربوية في فوضى واضطراب واختلاف وتنازع، تجد مجاله في فضائيات وإذاعات ومواقع الكترونية وصحف، بل ومساجد وجامعات.
فواجب كل عالم أن يراجع علمه ويتبحر فيه ويأخذه عن الثقات الراسخين، ويخلص فيه لله، ويتجرد عن هواه، ويتواضع لإخوانه من أهل العلم.. وواجب كل مسلم أن يأخذ فتواه وعلمه عن العلماء المقبولين الصالحين، ولا يغتر بمن رفعه إعلام فاجر أو سلطة غاشمة.
ولقد وصل الأمر ببعض طلاب العلم إلى أن يقع فيما وقع فيه الخوارج، كما قال فيهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: “يأتون إلى آيات جاءت في الكافرين فيجعلونها في المؤمنين”(3).
ولا تخلو بلاد المسلمين اليوم ممن يصنع السوء والتفريق والتآمر بين المسلمين وإيغار صدورهم على بعض، فيجب على المسلم أن لا يحسن الظن بهؤلاء، ويجب عليه أن يحذر منهم، ويجب أن لا نوليهم علينا، ويجب أن ننكر عليهم، ونحذر أبناءنا وإخواننا وشعوبنا منهم.
5ـ من واجب الأمة الإسلامية وقياداتها وعلمائها وحكامها وشعوبها؛ أن يَسْعَوا لصنع مرجعية للأمة، بحيث تكون هذه المرجعية مكونة من أفضل العلماء المسلمين الصالحين الربانيين الراسخين في العلم، من الذين يتمسكون بالكتاب والسنة الصحيحة، وممن استوعبوا المذاهب الفقهية المعتبرة، وممن يهتمون بالواقع ويقدرون على معرفة أسراره، ويقدرون على الفتوى المبصرة بتنزيل النصوص على الواقع تنزيلاً صحيحاً.
فإذا وجدت هذه المرجعية للأمة الإسلامية فإنها ستكون قادرة على توحيد الأمة، ومحاصرة الخلاف ونفي الفرقة، وستكون قادرةً على إرشاد الأمة إلى علاج مشكلاتها، وصنع وحدتها السياسية، فضلاً عن وحدتها العلمية والدعوية والتربوية والاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية وغيرها، وسينعكس ذلك على ضبط الساحة العلمية والدعوية في الفضائيات والانترنت وأدوات الإعلام المختلفة.
6ـ يجب على المسلمين وخصوصاً على علمائهم أن يفتحوا باب الحوار وحرية الرأي والكلام ويشجعوا على طلب الوصول إلى الحقيقة، في إطار الأدب والاحترام.
فالحق يعلو بمنطقه وحجته، لا يعلو بفرض الأفكار بالقوة ولا يعلو بكتم أنفاس الناس ومنعهم من إظهار ما في أنفسهم أو إبداء أرائهم واستفساراتهم وشبهاتهم وما يشوش على أفكارهم.
والذين يفرضون آراءهم بالقوة في بلاد المسلمين من غير أن يصلوا إلى إقناع الناس بها؛ هؤلاء فاشلون، ولن تدوم دولتهم ولا أفكارهم، بل هم موضع شك وريبة بأنهم يحملون أفكاراً باطلة لا تصمد أمام الحوار والحجة.
والذين يمنعون الناس من إبداء أفكارهم وآرائهم وأدلتهم؛ تحت التهديد بالقتل أو التهديد بالتكفير، هؤلاء يحرمون الناس من الوصول إلى الحقائق، ويحرمون الناس من وسائل الإقناع، وبالتالي يحرمون الأمة من الاعتقاد الحق.
علينا أن نستمع إلى كل قول ورأي، ونحاور الناس ونستمع إلى شبهاتهم، ونبدي لهم الحجج والبراهين، ولا نسارع إلى التكفير والتبديع والتفسيق، فمن أصر على الباطل والفساد والانحراف والضلال بعد إقامة الحجة عليه، وبعد إزالة شبهاته؛ فذلك الذي نحكم عليه بما يستحق.
ولن تقوم وحدة للمسلمين إلا بهذا، فإن الذين يفرضون آراءهم فرضاً، ويخوفون الناس من الحوار ومن إظهار ما في نفوسهم؛ هم ضعفاء يهربون من الحوار، كما أنهم يصنعون في المجتمع نفاقاً سيكون له أثره في هدم المجتمع وحرب الإسلام، وسيكون ضمن المجتمع آراء كثيرة باطلة تخفي نفسها أمام القوة، لكنها تسري في السر بين الناس الذين لم يرسخ الاعتقاد الحق في قلوبهم.
7ـ والذين يفرضون آراءهم على الناس في أمور اجتهادية، هم متكبرون كأنهم يدَّعون العصمة لأنفسهم، وقد ربى النبي أصحابه على أن الواحد منهم لا يجزم بصحة اجتهاده، ولا يجزم بنسبته إلى الله، تأدباً مع الله، وتأدباً مع الغيب، وتواضعاً لمن يقول برأي يخالف ذلك.
ولا يمكن أن تحصل الألفة والوحدة حتى يعذر بعضنا بعضاً في الخلافيات، فإذا كان ينظر الإنسان على أن فهمه للشريعة هو الشريعة، وأن فهم غيره هو ترك للشريعة؛ فلا يمكن الاجتماع مع هذه الحال، وذلك من التكبر، إذ يدعي العصمة لنفسه في فهم النصوص، فينسب فهمه إلى الله تعالى ورسوله ، ويدعي أن فهمَ غيره فهمٌ سقيم يعارض الله عز وجل ورسوله ، وقد حذر النبي صلوات الله عليه وآله من هذا التوجه الباطل، فكان يأمر أمراء الجند والجهاد حينما يوصيهم ويرسلهم إلى الجهاد، فيقول لهم فيما يقوله: “وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله؛ فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا”(4)، فإذا كان قادة الصحابة قد لا يصيبون حكم الله، فمَن هذا العالم الذي يدعي أنه لا يخطئ في أحكام الله؟ وما أشدَّ تكبَّره وغرورَه؟
وقد وجهنا النبي إلى أن نعتني بمدارسة الأمور المتفق عليها، ونبه إلى أن ذلك هو الذي يؤلف القلوب ويوحد الأمة، فقال: “اقرأوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا”(5)، والحديث يتضمن تحذيراً من أن نجعل القرآن وتعلُّمَه سبباً في الافتراق والبغضاء والاختلاف، فأمرنا بترك المجالس التي تتسبب في ذلك، ولو كان مجالس قرآن. ومن باب أولى لا يصح أن نجعل السنة وكلام العلماء والمذاهب سبباً في التفرق. فواجبنا أن نعتني بالمسائل القطعية والمسائل المتفق عليها، ونجمع الناس عليها، ثم لا نجعل من غيرها سبباً في الفرقة والكراهية والعداوة والقطيعة.
ولا يجوز أن ننكر على المسلمين وعلى أهل العلم في المسائل الاجتهادية، كما لا يجوز أن نبني أحكامنا على الناس على أمور ظنية اجتهادية.
8ـ ولا تحصل الألفة والوحدة إلا أن نتعامل مع بعضنا بالإنصاف وحسن الظن، فلا يجوز أن تكون منهجية المسلم أن الخطأ أو المخالفة إذا كانت من نفسه أو مشايخه أو حزبه أو جماعته أو مذهبه فإنه يكون مدافِعاً أو منصفاً أو محسناً الظن وكأنهم معصومون، وأما إذا كانت من غيرهم كان مُهاجَماً ومُتَّهِماً ومبالغاً ومسيئاً الظن ويقدر الأمور بمكيال آخر.
واجبنا أن نحرص على طلب الحق، وقَبولِ الحق، على أي لسان ظهر، وأن نعذر بعضنا في الخلاف، وأن تَتَّسِعَ صدورنا لبعضنا، فلا اتهام ولا تحامُل ولا تعصُّب ولا تخوين في النيات، ولا اتهام بغير دليل. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
هوامش
(1) كما ورد في حديث صحيح.
(2) حديث صحيح.
(3) أخرجه البخاري.
(4) رواه مسلم رقم 1731 عن سليمان بن بريدة عن أبيه(رt.
(5) رواه البخاري رقم 6390 ورواه مسلم رقم 2667 عن جندب بن عبد الله البجلي، وقد حذر الله ونبيه من الذين يخوضون فيما يفرق الفهم ويثير الفتنة والشبهة، فقد روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله ﴿هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب﴾، قالت: قال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) “إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمي الله فاحذروهم”، أي أولئك الذين قال عنهم في الآية بأنهم يبتغون الفتنة.
الشيخ جمال الدين شبيب
Source link