الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه، وبعد:
لا تجفلْ من ذكر الاستعلاء والعلو؛ فهما مطلَب شرعيٌّ للحق وأهله، وغاية دنيوية يسعى لها الناس وربما غيرهم من المخلوقات، ولا تركنن إلى دعاوى التزهيد وانتقاص الذات، أو التقريع من طلب الرفعة؛ لأنه ارتفاع لأمر الله وشرعه وحكمه، وفي سبيله وابتغاء مرضاته، وليس تشامخاً لفرد أو فئة أو إطار، أو لهاثاً خلف سموٍّ شخصي، ومن ثَمَّ يصبح هذا الهدف بكيفيته هذه غاية شريفة مرادة من كل مسلم ومؤمن ومحسن، على قدر ما أعطاهم الله، وما يوفقهم إليه؛ لتكون كلمة الله هي العليا، وتنحصر العزة فيمن أطاع الله دون أن ينالَ أيُّ كافر أو منافق منها نصيباً مهما قلَّ؛ فليس لهم إلَّا الذلَّة والصَّغار.
فعندما تأرجحت كفة الميزان في معركة أحد لصالح مشركي مكة بسبب ترك الرماة لمواقعهم استبشاراً بطلائع النصر واستعجالاً لنيل الغنائم، تقهقر جيش المسلمين، وانهزموا، وقُتل عدد كبير منهم فيهم حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير رضي الله عن الجميع ورحمهم. وفي ذلكم المشهد المحاط بالألم والفقد والتراجع نزل النص القرآني ليأمر الجنود بوضوح تام غير قابل لتحريف أو تأويل كما في قوله عز وجلَّ: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[آل عمران: 139]، فكان من توابعها استمرار النزال، واستعادة القوة الداخلية قبل استجماع القوى الخارجية.
وقد تواطأت عبارات المفسرين على أن المراد بهذه الآية حثُّ المؤمنين ألَّا يتراجعوا عقب الهزيمة، وأن يواصلوا مقارعة الكفار وقتالهم، مع الاحتفاظ بقوة النفس وثقتها بمولاها ودينها ومنهجها؛ كي لا يتسرب الهوان إلى المشاعر والقلوب والعقول. وأكَّد النص القرآني ذلك بمنح صفة العلو للمؤمنين حتى لو بدا أنهم قد خسروا جولة على أرض الواقع؛ فالجوْلات لها كرَّات متوالية، والأيام مداولة، ومالك الملك بيده كل شيء، والشأن الأهم ألَّا ينفذَ إلى الأرواح مَنْقَصةٌ من أثر الحال وضغط الأحداث مهما كانت ثقيلة قبيحة مستكرَهَة.
لذلك جاء النهي الشرعي عن الضعف والعجز في البدن، مع الزجر المستبين عن الحزن والوهن في النفس، لأن الغيظ في الصدور، والخور في الأجساد، زيادةٌ في المصيبة على أولياء الله وعباده المتقين، وعونٌ للعدو عليهم، والأصل تشجيع القلوب وتصبيرها، ومدافعة السوء، والتصلُّب على قتال الأعداء؛ فلا يليق بأهل الإيمان وَهْنٌ وحُزْنٌ، وهم الأعلون بإيمانهم وما وَقَر في قلوبهم من يقين، وهم الأجدر برجاء نصر الله وثوابه، وهذا من أعظم ما يجلب التسلية والتحفيز، ويبعث الهمة من مراقدها، ويستثير العزة من مكامنها، مهما تباعد الأمر في النظر، وحتى لو عزَّ المطلوب وعسر في مبتدئه، ومَن صبر وصابر ورابط فله العقبى والعاقبة.
كما أن في هذا النصِّ وما تلاه من هبَّة الجيش المسلم، وصدور إجابات فيها أَنَفَة وعزة من بعض الصحابة، تنغيصاً على الكافرين، وقذفاً للغمِّ والكَدَر في قلوب المنافقين المظلمة، ودمائهم الخبيثة؛ فحين لا يرون الانكسار والتضعضع من الصالحين والمصلحين، بل يكون غلوُّ المستكبرين في إفكهم، وغلواؤهم في شرورهم، سبباً من أسباب زيادة الاستعلاء المعنوي للمؤمنين، وأحد العوامل المؤكدة لضرورة العمل ومواصلة الجهد بحيوية، فحينها ترتد الهزائم والخيبات إلى عصبة الفساد والإفساد، وتَحُل القوارع في دارهم، وينزل الرعب والرَّهَب في جذر قلوبهم، ويخالط نفوسهم المريضة بالجبن وحبِّ الدنيا.
ومن الملاحظ أن المسلمين بعد غزوة أحد لم يتوقفوا عن قتال الكافرين، بل استداروا بدمائهم وجراحاتهم من ساحات هزيمة أحد يتتبعون فلول المشركين في حمراء الأسد، فامتدحهم الله تعالى بقوله: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 172] ولم يتضعضعوا فيما بَعْدُ أمام جحافل الكفر والغدر في غزوة الخندق التي اقتربت من المدينة بل قاوموها بحكمة مبتكرة، وثبات وإيمان. ومثل ذلك في الحديبية التي كانت فتحاً سبق الفتح المبين لمكة، حتى انتشر الدين والدعوة في أصقاع الجزيرة العربية وما وراءها؛ وكم من حسرة تركها ذلكم الرعيل العظيم في قلوب مشركي العرب، ومنافقي المدينة، ويهود حيثما كانوا، وإنهم لقدوة لمن بعدهم من الأجيال المؤمنة، وبمثل صنيعهم يُحتذى، وعلى منهجهم يُسار.
فارفع رأسك واحتسب، واتخذ من أبي دجانة رضي الله عنه قدوة حين اختال وتبختر بين الصفين؛ فأصبحت مشيته أجراً له على أنها بغيضة في غير ذلكم الموضع. وكم ترك الأول للآخر! وكم في الواقع الحقيقي والافتراضي من ساحات ومساحات وميادين! وما أُغلق باب إلا انفتح بدلاً عنه أبواب ونوافذ ومداخل، وإذا كان الهدم مستعراً في مكان فالبناء متاح في مواضع وبقاع، ويكفي أن فطرة الناس فيها بقايا تزيد وتنقص من السلامة والخيرية والنقاء، ويكفي أن رَفْع الغطاء عن جمجمة النفاق قد كشف من الحقائق ما كان مستتراً أو مستبعَداً أو غير مصدَّق أو بعيداً في التصور.
وليكن في الاعتبار – مع الاحتساب والمصابرة والاجتهاد – أهمية الالتفات إلى عبودية المراغمة، وتقصُّد فعلها في أحوال وأزمان وأماكن؛ ومختصرها مناكفة المشركين والمنافقين، وفعل ما يغيظهم ويسعر النار في قلوبهم وصدورهم حتى يجد الواحد منهم جمرة الألم، ووَحَرَ الأذى معه حتى في فراشه، وتلك – لعَمْرُ الله – عبودية عظيمة يبتغي بها المؤمنون وجه الله ورضوانه في تنويع سبل مراغمة شياطين الإنس والجن، وإبطال فرحتهم، ومخالفة مطالبهم، وعكس مرغوبهم، وإشعارهم بفشل فِعالهم وخيبة توقعاتهم، ومن أبرز الأمثلة عليه اضطباع الصحابة رضوان الله عليهم في عمرة القضاء بأمر من النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم .
ثمَّ إن التفاؤل لَعِبادةٌ عظيمةٌ تقود إلى استمرار العمل، وإدامة الصبر، والتعبد بكل ما يحيط بالطريق أو يصادف السائرين عليه، وليس من ديننا التشاؤم أو النكوص والقعود، ولا يعني هذا الابتعادَ عن توقع المخاطر، وحساب الافتراضات المستقبلية؛ وإنما غاية ما هنالك أن الدنيا مهما أظلمت سماؤها، وتكاثفت غيومها، وتواترت رياحها وغبارها، واحتجب عنها الضياء لبرهة؛ فثمة نجوم، وشهب، وشمس، وقمر، وإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده المتقين أهل العاقبة والظفر.
فلا تبرحوا – يا عباد الله من الرجال والنساء – أماكنكم في حراسة الثغور، وحياطة الحمى، وتقوية الجبهات، ورصِّ الصفوف؛ فالرماة، وأبطال الإمداد، وفرسان المواجهة كلُّهم في جيش واحد يصارع الباطل حتى يزهقَ ويخنَس. وإن عودة التدين بمظاهره الكثيرة في بلاد شتى عقب عقود من نشر الشرك والشُّبه والعهر والموبقات، وقمع الشعائر وكبت المشاعر، لدليل على أن الزَّبد سيذهب جُفاءً غير مأسوف عليه، وسوف تتسارع الأفواج تترى إلى دين الله توبة وأوبة ودخولاً فيه، بعد أن انتفش السوء، ونفشت غنم القوم في حرث الدنيا والآخرة لتُفسد قدر استطاعتها، وما أخسر الحرب حين يشنها أيُّ مغرور على الدين الحنيف القيم! فمن ذا يصمد أمام قضاء الله وقدره وهو الذي كل يوم في شأن؛ ويقول للشيء الذي يريده كن فيكون؟
ومن يدري عن تقدير الله العزيز العليم الحكيم وتدبيره؛ فهو سبحانه أحكم الحاكمين، ويكيد بمَن كاد، ويمكر بمَن مَكَر، وعاقبة النَّكث والاعتداء والمكر السيئ عائدة على أهلها حتى تحيق بهم وتدور عليهم، ومن أراد المثال فلْيتأمَّل كيف جعل الله في بيت الفرعون زوجاً مؤمنة، وقريباً يكتم إيمانه، وماشطة موحِّدة، وأهمُّ من ذلك كله أن الكليم موسى عليه السلام تربى ودرج بين يدي ذلكم الطاغوت المتجبر حتى آلت قصتهم إلى غرق المتكبر ونجاة الضعفاء.
وليس ببعيد عن ذاكرتنا التاريخية فَرْض معتقدِ المعتزلةِ حتى صارت مخالفته جريمة تقود إلى السجن والعذاب وربما القتل، وغدت أقوالهم ومعتقداتهم الباطلة من البلاء والفتن التي عايَشَها الناس من عامَّة وعلماء واختُبروا فيها لدرجة الزلزلة، ثمَّ لم يلبث شأنهم أن آل إلى خفوت وشيء يشبه الاندثار، وأصبحت أزمان علوهم سُبَّة عليهم وعلى طرائقهم ورموزهم، وهكذا كل باطل يتقوى بمثله، إلى أن يأتيَ أمر الله فيسقط باطل إثر آخر أو بسببه، ويزول من الأرض كثير من الرجس وقول الزور.
Source link