علم رسول الله ﷺ البشرية حقيقة التواضع، وحقيقة هذه الدنيا، وعرف الإنسان قدر نفسه كما ستطرب أسماعكم، وتنشرح صدوركم؛ بعرض قمة تواضعه عليه الصلاة والسلام.
لقد جرت سنة الله في كثير من أوامره لعباده أن من فعلها وأقامها؛ فإنه يؤتى يوم القيامة ويجازى بخير منها، وجرت سنته في كثير من نواهيه لعباده أن من ارتكبها، وفعلها؛ فإنه يُجازى يوم القيامة بفقدها، أو بضدها، ولا يظلم ربك أحدًا، ومن جملة المنهيات التي توعد الله من فعلها أنه يقابل بضدها معصية الكبر– عياذ بالله – فقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام «أن المتكبرين في هذه الدنيا الذين كانوا يتكبرون ويترفعون على عباد الله؛ أنهم يُحشرون يوم القيامة كأمثال الذر يطؤهم الناس بأقدامهم، جزاءً وفاقًا، ولا يظلم ربك أحدًا»[1].
نعم – أيها الناس – من سولَت له نفسه أن يتكبر، ويترفع، ويحتقر الناس؛ فإن هذا جزاؤه.
من أُعجب بنفسه، ورأى نفسه أنه فوق الآخرين، وصار ينتقص من هذا، ويحتقر هذا، ويسخر من نسب هذا؛ فإن موعده يوم القيامة أن يصير إنسانًا بصورة ذرة تداس على الأقدام، والجزاء من جنس العمل.
وبمقابل ذلك فقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام «أنه ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله»[2].
وهذا هو موضوع حديثنا في هذا اليوم المبارك، وفي هذه الساعة المباركة.
وهي رسالة إلى كل من يبحث عن السعادة، والكرامة، والألفة، والمحبة، ولكنه أخطأ طريقها، هي رسالة لكل من يظن أن محبة الناس وتوقير الناس ومهابة الناس له، هي بالترفع عليهم، والهنجمة أمامهم، هذا الموضوع هو رسالة لكل من أراد أن يكون إنسانًا ناجحًا في حياته، محبوبًا عند الله، وعند خلقه، وعند أهله، وجيرانه.
هذا الموضوع لكل من أراد أن يعيش أسوة محمد – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – فقد علم البشرية حقيقة التواضع، وحقيقة هذه الدنيا، وعرف الإنسان قدر نفسه كما ستطرب أسماعكم، وتنشرح صدوركم؛ بعرض قمة تواضعه عليه الصلاة والسلام.
فقد كان خير العالمين، وسيد الأولين والآخرين إمام المتواضعين، كان يقضي الحوائج، ويفرج الكروب، ويعلم الجاهل، ويطعم الجائع، ويسلم على الصبي، ويمسح على رأس اليتيم، ويدخل السرور على أصحابه، ويكرم من دخل عليه وربما بسط له ثوبه، وآثره بوسادته، يجيب الدعوة، يقبل الهدية، يجالس الفقراء، والمساكين، ويقول – كما في الحديث الصحيح -: «اللهم أحيني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين![3].
كان أعظم الناس تواضعًا، لا تغلق دونه الأبواب، ولا يقوم معه الحُجَّاب، فاسمع إلى ما رواه ابن حبان في صحيحه رحمه الله عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده، وقد طوق الأرض هربًا، حتى وضع يده في يده، وفي ذهنه وتصوره أنه عليه الصلاة والسلام إما ملِك، وإما نبي، قال فانطلق بي فوالله إنه لعامد بي بيته، إذ استوقفته امرأة، كبيرة ضعيفة، ومعها ابنها، فوقف لها طويلًا وهي تكلمه في حاجتها، قال فقلت في نفسي: والله ما هذا بملك، قال: ثم أخذ بيدي، وانطلق بي إلى بيته وقال: «اجلس»، وألقى عليَّ وسادة محشوة بليف، وقال: «خذها واجلس عليها»، قال: فجلست عليها وهو على الأرض فقلت في نفسي: والله ما هذا بملك!
وفي تواضع النبوة دعاه إلى الإسلام، وقال له: «أسلم يا عدي، أسلم يا عدي، لعله إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من حاجة أهله؟ وايم الله، ليوشكن أن يفيض المال بأيديهم حتى لا يوجد من يأخذه، لعله إنما يمنعك ما ترى من قلة عدد المسلمين، وكثرة عدوهم، وايم الله، لئن طالت بك حياة لترين الظعينة تخرج من الحيرة إلى بيت الله الحرام لا تخشى إلا الله، لعله إنما يمنعك ما ترى من أن الملك لغيرهم؟ وايم الله، لئن طالت بك حياة لترين قصور كسرى قد فُتحت وأنفقت كنوزها في سبيل الله».
فما كان من عدي بعد أن سمع هذه الحياة المتفائلة والمبشرة إلا أن شهد الشهادتين، ورأى بأم عينيه ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام، وأقسم ليرين ما لم ير بعد؛ إيمانًا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ولسان حاله:
أوليتني كرما وخُلقا رائعًا ** أوليتني كرمًا وفضلًا زائدَا
وبررتنــي حتـــى نسيــت الوالــدا
الله أكبر! إنه التواضع.
تواضع تكن كالنجم لاح لناظرٍ *** على صفحات الماء وهو رفيـع
ولا تكُ كالدخان يعلو بنفســه *** على طبقات الجو وهو وضيـع
صلى الله على رسولنا، وقدوتنا وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا، اختار أن يكون عبدًا رسولًا عن أن يكون ملكًا نبيًّا، ولعظم تواضعه نهى عن إطرائه، ورفعه فوق منزلته، فقال – كما في الحديث الصحيح الذي صححه الألباني رحمه الله -: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد؛ فقولوا: عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله إياها، ولما قال له رجل: يا خير البرية! قال: ذاك إبراهيم»![4].
إن بعض الناس إذا لم تناده بكنيته، أو بمشيخته ولقبه، انتفخت أوداجه، واحمرَّ وجهه، لماذا؟ لأنك ما ناديته باللقب الذي قد ألِفه، وتعود عليه.
هكذا كان تواضعه عليه الصلاة والسلام تراه بين أصحابه دون أن يتميز عليهم، حتى إن الداخل لا يعرفه، ولا يميزه من بين أصحابه.
روى البخاري رحمه الله أن أعرابيًّا دخل المسجد والرسول عليه الصلاة والسلام بين أصحابه، فقال: أيكم محمد؟ لم يعرفه، ولم يميزه من بين أصحابه؛ لعظم تواضعه عليه الصلاة والسلام [5]!
وروى مسلم رحمه الله عن أنس رضي الله عنه أن امرأة كان في عقلها شيء؛ فقالت: يا رسول الله، إن لي إليك حاجة. فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام مكرمًا، ومكنِّيًا: «يا أم فلان، انظري أيَّ السكك شئت أقضي لك حاجتك، فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها» [6].
وروى الإمام مسلم رحمه الله عن أنس رضي الله عنه قال: «إن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث شاءت»[7].
سبحان الله! خلق عظيم، زكاه العلي العظيم، وإنك لعلى خلق عظيم!
كان بشرًا من البشر، يُخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويخدم نفسه، ويحلب شاته، ويحلب دابته، ويخدم أهله، نعم كان يخدم أهله عليه الصلاة والسلام ويقوم بخدمة أهله.
فليس عيبًا عليك أيها الزوج أن تقف مع زوجتك في مطبخها تعاونها، ليس نقصًا في حقك أن تكنس بيتك مع زوجتك لتخفف عنها، فها هو النبي صلى الله عليه وسلم كان يخدم أهله، ويخفف عنهم.
وجيء له مرة بتمر – كما في الحديث الذي صححه الألباني رحمه الله – ففتشه، ثم أخرج السوس منه، ثم أكله، سبحان الله! ما أهنأ هذه الحياة! ما أهنأ هذه الحياة، وما أسعدها! وما أجمل أن تهين الدنيا وتعرف قدرها وحقارتها، لتهنأ بها.
يقول الحسن البصري رحمه الله: «أهينوا الدنيا، فو الله لأهنأ ما تكون إذا أهنتها»[8].
لم يكن للنبي عليه الصلاة والسلام فرش وثيرة، أو مجالس زاهية، وربما نام على الحصير فأثر في جنبه صلى الله عليه وسلم؛ دخل عليه عمر يومًا وقد نام على حصير فأثَّر في جنبه، فهملت عيناه رضي الله عنه وجثا على ركبتيه، وقال: صفوة الله من خلقه فيما أرى، وفارس والروم يعبثون بالدنيا، ادعُ الله يا رسول الله، ادع الله يا رسول الله، فاحمرَّ وجهه عليه الصلاة والسلام وقال: «أو في شك أنت يا بن الخطاب؟! أولئك قوم عجِّلت لهم طيباتهم، أما ترضى يا عمر أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة»؟ {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف: 20][9].
وها هو ابن مسعود رضي الله عنه يقول: «كنا يوم بدر كلَّ ثلاثة على بعير لقلة الظهر، وكان أبو لبابة، وعلي زميلي رسول الله صلى الله عليه وسلم على دابته»[10].
وتأمل ثم تأمل لماذا لم يُفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه براحلة مستقلة، بل جعل نفسه كبقية أفراد جيشه؟ لماذا لم يجعل له حراسة مشددة، ومرافقين من أمامه ومن خلفه؟ لماذا؟ ليعلمنا أن الكمال ليس في الترفع، والتعالي على الناس، ليعلمنا:
إن كريم الأصل كالغصن كلما *** تحمَّل من خير تواضع وانحنى
وروى ابن ماجه، وصححه الألباني رحمهما الله عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلًا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابته من هيبته رعدة؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «هوِّن عليك؛ إني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد»! [11].
فهل رأيت مثله يا ذا الحجا *** لزينة الدنيا ومحو للدجى
إنه الخلق العظيم الذي زكاه العلي العظيم، {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، علمنا حبيبنا – عليه الصلاة والسلام – أن العظمة والهيبة، ليست في استغلال الناس وإرعابهم، ولا بالترفع على المساكين واحتقارهم، إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد.
أكرم به من مرسل ومعلمٍ *** وله الشفاعة يوم نحشر في الورى
فتح الإله به قلوبا غلِّقَـت *** وأنار أبصارًا وكانت لا تــــــــــــرى
والله لو عرفت قدر نفسك يا عبد الله ما تكبرت، ولو عرفت يا عبد الله من أنت؟ وممَّ أنت؟ ومن أين خرجت؟ وما الذي تحمله الآن في بطنك؟ ما تكبرت!
قال بعضهم: عجبت لمن يدخل الحمام في اليوم مرتين، كيف يتكبر!
يا مدعي الكبر إعجابًا بصورتــــه *** انظر خلاك فإن النتن تثريــــــب
لو فكر الناس فيما في بطونهـــم *** ما استشعر الكبر شبان ولا شيب
يابن التراب ومأكول التراب غـدًا *** أقصر فإنك مأكول ومشـــــروب
لقد كان صاحب الخلق العظيم حليمًا رفيقًا، متواضعًا حتى مع الأطفال، لم تكن له نظرة دونية أو احتقارية واستصغارية للأطفال، كما يفعله بعض القساة الأجلاف.
روى البخاري في صحيحه أن النبي عليه الصلاة والسلام «وضع صبيًّا في حجره وهو يحنكه، فبال عليه، فدعا بماء فنضحه، وكأن شيئًا لم يكن» [12].
لم يغضب عليه، ولم يتكلم على أمه، وإنما دعا بماء فنضح أثر البول! كان يداعب الحسن – كما صح عنه – فيخرج لسانه إليه، فيرى الحسن حمرة اللسان، فيُعجبه ذلك ويسرع إليه، ويلقي بنفسه عليه عليه الصلاة والسلام.
ويخرج إلى سوق بني قينقاع يومًا – كما صحح ذلك الألباني رحمه الله – فطاف فيها ثم دخل، فاحتبى في المسجد، فجاء الحسن فاشتد حتى وثب في حبوته، فأدخل النبي عليه الصلاة والسلام فمه في فمه، ثم قال: «اللهم إني أحبه فأحبه، وأحب من يحبه، اللهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه» ثلاث مرات، وأبو هريرة ينظر، ويرقب الموقف، فقال: والله ما رأيت الحسن بعدها إلا فاضت عيناي» [13] رضي الله عن الحسن، وعن جميع آل بيت رسول الله عليه الصلاة والسلام!
هكذا كانت محبة أصحاب رسول الله للحسن، والحسين رضي الله عنهما وصحح الألباني رحمه الله أنه عليه الصلاة والسلام خرج مرة يحمل الحسن، والحسين، هذا على عاتق وهذا على العاتق الآخر، حتى انتهى إلى أصحابه، فقال له رجل: كأنك تحبهما؟ فقال: «من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني»![14].
وروى الترمذي وصححه الألباني رحمهما الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب يومًا فدخل الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران، يمشيان ويعثران، فقطع خطبته ونزل إليهما، واحتضنهما، وصعد بهما على المنبر فوضعهما ثم قال: «صدق الله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن: 15]، رأيت ابنيَّ هذين يمشيان، ويعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي، ورفعتهما» [15].
أكرم به من مرسل ومعلم *** وله الشفاعة يوم نحشر في الورى
ومن مواقف رحمته وتواضعه مع الصبيان ما أخرجه النسائي، والحاكم رحمة الله عليهما – عن شداد رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشي وهو حاملٌ حسنًا أو حسينًا؛ فتقدم فوضعه عند قدمه اليمنى، ثم كبر للصلاة، فسجد سجدة أطالها حتى ظننا أن قد حدث شيء، قال شداد: فرفعت رأسي من بين الناس، فإذا الصبي على ظهر رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي، قال فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته، قال الناس: يا رسول الله، إنك سجدت في صلاتك سجدة أطلتها، حتى ظننا أن قد حدث أمر، أو أنه يُوحى إليك، فقال: «كل ذلك لم يكن، ولكن ابني هذا ارتحلني، فكرهت أن أُعجله حتى يقضي حاجته» [16].
والله، وبالله، وتالله لن نجد أرحم، ولا أرفق، ولا أحلم بالأطفال من رسول الله عليه الصلاة والسلام!
نهدي هذه المواقف إلى بعض الآباء، إلى الذين حرموا أولادهم عطفهم، وحنانهم، إلى أولئك الآباء الذين يتعاملون مع أولادهم معاملة شرسة، قاسية، ونقول لهم: تأملوا في حياة نبيكم، وتعامله مع الصبيان، بل مع الناس أجمعين. كم قد سمعنا – للأسف الشديد – عن بعض الآباء له عدد من الأبناء، وما يَذكر أنه قد قبَّل يوما واحدًا منهم! كم هم أولئك الآباء الذين يعبثون بأموالهم، ويحرمون أولادهم وزوجاتهم كثيرًا من ضروريات حياتهم، والله المستعان!
فانتبهوا رحمكم الله أيها الآباء، واقتدوا بسيد الرحماء، والكرماء، فقد كان رحمة للأمة جمعاء عليه صلوات ربي ما دامت الأرض والسماء والسلام.
فمعاشر المسلمين، لقد علمنا نبينا عليه الصلاة والسلام التواضع، وربى لنا أقوامًا مشوا على منواله، وعلى تواضعه، وأخلاقه، وعلى رأس هؤلاء خلفاؤه من بعده رضي الله عنهم، وأرضاهم.
هذ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، خرج يومًا فمر بمكان كان يرعى فيه الغنم في الجاهلية، فقال: لا إله إلا الله! قد كنت أرعى الغنم بهذا الوادي وأتعب، وإذا قصَّرت أُضرب، وقد أمسيت ليس بيني وبين الله من أحد، ويردد: يا بن الخطاب كنت وضيعًا فرفعك الله، وضالًّا فهداك الله، وذليلًا فأعزك الله، فما حملك على رقاب الناس؟! فماذا تقول لربك غدًا إذا أتيته يا عمر؟ ثم يندفع بالبكاء رضي الله عنه وأرضاه، ويقول لابنه وهو يودع الدنيا: «ضع خدي على التراب لا أم لك يا عبد الله»، ويقول: «ويل عمر إن لم يغفر الله له! ويل عمر إن لم يتجاوز الله عنه!.
وعثمان رضي الله عنه يخطب يوم الجمعة وعليه ثوب بأربعة دراهم، وهو أمير المؤمنين.
وهذا سلمان الفارسي رضي الله عنه كان يلبس جبة خشنة، فلامه بعض الناس، فقال: «إنما أنا عبد، ألبس كما يلبس العبد، فإذا عُتقت لبست ثيابًا لا تبلى حواشيها، في جنات وعيون»، نسأل الله الكريم من فضله!
والإمام أحمد رحمه الله كان يقول: «نحن قوم مساكين، نحن قوم مساكين».
ولما قيل له: ما أكثر الذين يدعون لك يا إمام! تغرغرت عيناه وقال: أخاف أن يكون هذا استدراجًا من رب العالمين.
وأخذ الفضيل بيد سفيان بن عيينة رحمه الله وقال: «إن كنت يا سفيان تظن أنه بقي على وجه الأرض شر مني ومنك، فبئس ما تظن!.
ويأتي ابن المبارك على سقاية والناس يشربون، فدنا ليشرب، ولم يعرفه الناس، فدفعوه، فلما خرج قال: ما العيش إلا هكذا حيث لم نُعرف، ولم نُوقَّر.
فيا عباد الله، مقادير العباد لا يعلمها إلا الله، والكبر، والفخر، والخيلاء، أمام الناس ليست دليل الهيبة، ولا القبول، ولا المحبة.
أرفع الناس قدرًا من لا يرى قدره، فاعرف قدر نفسك يا عبد الله، ولا تضعها في غير موضعها، وإذا خرجت من بيتك فلا يقعن بصرُك على مسلم إلا ظننت أنه قد يكون عند الله خيرًا منك.
وتواضع، ولا تحقر من هو أصغر منك سنًّا، أو أقل منك قدرًا، أو نسبًا، وحسبًا، فقد يكون أسلمَ منك قلبًا، وأقلَّ ذنبًا.
قد يكون العبد عزيزًا في أعين الناس، وهو عند الله في أخبث المنازل، قد يكون الإنسان وضيعًا بين الناس وهو عند الله بأعلى المنازل.
انتسب رجلان على عهد موسى عليه السلام كما في السلسلة الصحيحة للعلامة الألباني – رحمه الله – فقال أحدهما: «أنا فلان بن فلان وعد تسعة، فمن أنت لا أم لك؟ فقال الآخر: أنا فلان ابن فلان ابن الإسلام، فأوحى الله إلى موسى أن قل لهذين المتسبَين: أما أنت أيها المنتسب إلى تسعة في النار، فأنت عاشرهم، وأما أنت أيها المنتسب إلى اثنين فأنت في الجنة ثالثهم»[17].
نسأل الله السلامة والعافية! فليست العبرة بالنسب، ولا بالحسب، إن الميزان والمعيار: إن أكرمكم عند الله أتقاكم!
لعمرك ما الإنسان إلا بدينــــــه *** فلا تترك الدين وتركن إلى النسب
لقد رفع الإسلام سلمان فارسٍ *** وقد وضع الشرك الشقي أبا لهـــب
أسأل الله أن ينفعنا بما سمعنا، وأن يرزُقنا معرفة قدر أنفسنا، وأن يرزقنا التواضع ويحببه إلى قلوبنا……………
[1] رواه الترمذي (9092). [2] رواه مسلم (2588). [3] رواه الترمذي (2352). [4] رواه البخاري (3445). [5] رواه البخاري (63). [6] رواه مسلم (2326). [7] رواه مسلم (6072) [8] رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (36454). [9] رواه البخاري (5191). [10] رواه أحمد (4009)، (ن) (8807)، (حب) (4733)، (ك) (2453)، انظر الصحيحة: (2257)، و فقه السيرة (ص218)ن و هداية الرواة (3838). [11] رواه ابن ماجه (3312). [12] رواه البخاري (5468). [13] رواه البخاري (5884)، وراه الترمذي (10891). [14] رواه أحمد (7876). [15] رواه الترمذي (3774). [16] رواه أحمد (16033). [17] رواه أحمد في مسنده (21178)، والصحيحة (1270) للألباني رحمه الله.
__________________________________________________________
الكاتب: يحيى بن حسن حترش
Source link