وذكر المحل الذي أفسدوا ما يحتوي عليه وهو «الأرض» لتفظيع فسادهم بأنه مبثوث في هذه الأرض لأن وقوعه في رقعة منها تشويه لمجموعها.
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى في سورة البقرة
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ (13)}
{{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ}} والقائل لهم: {{لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ}} بعض من وقف على حالهم من المؤمنين الذين لهم اطلاع على شؤونهم لقرابة أو صحبة، فيخلصون لهم النصيحة والموعظة رجاء إيمانهم، ويسترون عليهم خشية عليهم من العقوبة، وعلما بأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يغضي عن زلاتهم.
ولا يصح أن يكون القائل لهم الله والرسول إذ لو نزل الوحي مُعَيَّنِينَ مِنْهُمْ لَعُلِمَ كُفْرُهُمْ، وَلَوْ نَزَلَ مُجْمَلًا كَمَا تَنْزِلُ مواعظ القرآن لم يستقم جوابهم بقولهم {{إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}} .
{{لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ}} الفساد: تصيير الأشياء الصالحة مضرة، كالغش في الأطعمة، وقيل: التغير عن حالة الاعتدال والاستقامة.
وذكر المحل الذي أفسدوا ما يحتوي عليه وهو «الأرض» لتفظيع فسادهم بأنه مبثوث في هذه الأرض لأن وقوعه في رقعة منها تشويه لمجموعها.
والمقصود بالفساد هنا السعي في الأرض بالمعاصي -كما فسره بذلك السلف- ويكون إما بترك امتثال الأمر واجتناب النهي، أو بالكفر، أو بالنفاق الذي ضافوا به الكفار وأطلعوهم على أسرار المؤمنين، أو بتهييج الحروب والفتن.
ووجه الفساد بهذه الأقوال التي قيلت أنها كلها كبائر عظيمة ومعاص جسيمة، وزادها تغليظاً إصرارهم عليها، والأرض متى كثرت معاصي أهلها وتواترت، قلّت خيراتها ونزعت بركاتها ومنع عنها الغيث الذي هو سبب الحياة، كما قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41] فكان فعلهم الموصوف أقوى الأسباب لفساد الأرض وخرابها. كما أن الطاعة والاستغفار سبب لكثرة الخيرات ونزول البركات ونزول الغيث.
ومن المفسرين من فصل فقال:
أما إفساد الأرض نفسها: فإن المعاصي سبب للقحط، ونزع البركات، وحلول الآفات في الثمار، وغيرها، كما قال تعالى عن آل فرعون لما عصوا رسوله موسى عليه السلام: {{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}} [الأعراف:130]، فهذا فساد في الأرض.
وأما الفساد في أهلها: فإن هؤلاء المنافقين يأتوا إلى اليهود، ويقولون لهم: {{لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}} [الحشر:11] فيزدادوا استعداءً للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومحاربة له؛ كذلك أيضاً من فسادهم في أهل الأرض: أنهم يعيشون بين المسلمين، ويأخذون أسرارهم ويفشونها إلى أعدائهم؛ ومن فسادهم في أهل الأرض: أنهم يفتحون للناس باب الخيانة والتَقِيَّة، بحيث لا يكون الإنسان صريحاً واضحاً، وهذا من أخطر ما يكون في المجتمع.
{{قَالُواْ إِنَّمَا}} أداة حصر {{نَحْنُ مُصْلِحُونَ}} فأخرجوا الجواب جملة اسمية لتدل على ثبوت الوصف لهم، وأكدوها بـ «إنما» دلالة على الحصر وقوة اتصافهم بالإصلاح.
وفيه أن من أعظم البلوى أن يُزَيَّن للإنسان الفساد حتى يَرى أنه مصلح؛ لقولهم: {{إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}} كقوله تعالى: {{أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ}} [فاطر:8]
وهذا الجواب الصادر من المفسدين لا ينشأ إلا عن مرض القلب وأفن الرأي، لأن شأن الفساد أن لا يخفي ولئن خفي فالتصميم عليه واعتقاد أنه صلاح بعد الإيقاظ إليه والموعظة إفراط في الغباوة أو المكابرة وجهل فوق جهل.
{{أَلا}} حرف تنبيه وتأكيد، فإن أدوات الاستفتاح مثل «ألا» و «أما» لما كان شأنها أن ينبه بها السامعون دلت على الاهتمام بالخبر وإشاعته وإعلانه، فلا جرم أن تدل على أبلغية ما تضمنه الخبر من مدح أو ذم أو غيرهما. {{إِنَّهُمْ}} توكيد أيضا {{هُمُ}} ضمير فصل للتوكيد كذلك.
{{الْمُفْسِدُونَ}} فأثبت لهم ضد ما ادعوه مقابلاً لهم ذلك في جملة اسمية مؤكدة بأنواع من التأكيد منها: التصدير بـ «ألا» و «إن» وبالمجيء بـ «هم»، وبالمجيء بالألف واللام التي تفيد الحصر عند بعضهم.
والمعنى: هم لا غيرهم المفسدون؛ وهذا كقوله تعالى: {{هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ}} [المنافقون:4] أي هم لا غيرهم؛ فلا عداء أبلغ من عداء المنافقين للمؤمنين؛ ولا فساد أعظم من فساد المنافقين في الأرض.
فإن أفعالهم التي يبتهجون بها وَيَزْعُمُونَهَا منتهى الْحِذْقِ وَالْفِطْنَةِ وخدمة المصلحة الخالصة آيلة إلى فساد عام لا محالة، إلا أنهم لم يهتدوا إلى ذلك لخفائه وللغشاوة التي ألقيت على قلوبهم من أثر النفاق ومخالطة عظماء أهله، فإن حال القرين وسخافة المذهب تطمس على العقول النيرة، وتخف بالأحلام الراجحة حتى ترى حسنا ما ليس بالحسن.
وفيه: أنه ليس كل من ادعى شيئاً يصدق في دعواه؛ لأنهم قالوا: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}؛ فقال الله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ}؛ وليس كل ما زينته النفس يكون حسناً، كما قال تعالى: {{أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ}} [فاطر:8]
{{وَلَـكِن}} حرف استدراك، لا يجوز أن يكون ما قبلها موافقاً لما بعدها {{لاَّ يَشْعُرُونَ}} أي لا يشعرون أنهم مفسدون؛ لأن الفساد أمر حسي يدرك بالشعور والإحساس؛ فلبلادتهم وعدم فهمهم للأمور، لا يشعرون بأنهم هم المفسدون دون غيرهم.
جعل لدعواهم ما هو إفساد إصلاحاً كمن انتفى عنه الشعور وكأنهم من البهائم، لأن من كان متمكناً من إدراك شيء فأهمل الفكر والنظر حتى صار يحكم على الأشياء الفاسدة بأنها صالحة، فقد انتظم في سلك من لا شعور له ولا إدراك، أو من كابر وعاند فجعل الحق باطلا، فهو كذلك أيضاً.
وفيه تسلية عن كونهم لا يدركون الحق، إذ من كان من أهل الجهل فينبغي للعالم أن لا يكترث بمخالفته.
{{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ}} لما نهاهم تعالى عن الإفساد أمرهم بالإيمان لأن الكمال يحصل بترك مالا ينبغي وبفعل ما ينبغي، وبدأ بالمنهي عنه لأنه الأهم، ولأن المنهيات عنها هي من «باب التروك»، والتروك أسهل في الامتثال من امتثال المأمورات بها.
{{كَمَا آمَنَ النَّاسُ}} والمراد بالناس من عدا المخاطبين، كلمة تقولها العرب في الإغراء بالفعل والحث عليه لأن شأن النفوس أن تسرع إلى التقليد والاقتداء بمن يسبقها في الأمر، فلذلك يأتون بهاته الكلمة في مقام الإغراء أو التسلية أو الائتساء.
وفيه إشارة إلى الإخلاص، وإلا فهم ناطقون بكلمتي الشهادة غير معتقديها.
قال في البحر المحيط: ويعني بالناس رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه، قاله ابن عباس، أو عبد الله بن سلام ونحوه ممن حسن إسلامه من اليهود، قاله مقاتل، أو معاذ بن جبل وسعد بن معاذ وأسيد بن الحضير وجماعة من وجوه الأنصار عدهم الكلبي.
{{قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء}} السفه: الخفة، ومنه قيل للثوب الخفيف النسج: سفيه، وفي الناس خفة، والعرب تطلق السفاهة على أفن الرأي وضعفه، وتطلقها على سوء التدبير للمال. قال تعالى: { {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ}} [النساء:5] وقال: {{فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً}} [البقرة:282] لأن ذلك إنما يجيء من ضعف الرأي.. ونظير السفه النزق والطيش، ونقيض السفه: الرشد.
ويحتمل أن يكون قولهم ذلك من باب التعنت والتجلد حذراً من الشماتة، وهم عالمون بأنهم ليسوا بسفهاء.
قال ابن عاشور: ووصفهم المؤمنين بالسفاهة بهتان لزعمهم أن مخالفتهم لا تكون إلا لخفة في عقولهم، وليس ذلك لتحقيرهم، كيف وفي المسلمين سادة العرب من المهاجرين والأنصار. وهذه شنشنة أهل الفساد والسفه أن يرموا المصلحين بالمذمات بهتانا ووقاحة ليلهوهم عن تتبع مفاسدهم، ولذلك قال أبو الطيب:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص … فهي الشهادة لي بأني كامل
وقال في البحر المحيط: ويحتمل أن يكون ذلك من باب الاعتقاد الجزم عندهم، فيكونوا قد نسبوهم للسفه معتقدين أنهم سفهاء، وذلك لما أخلوا به من النظر والفكر الصحيح المؤدّي إلى إدراك الحق، وهم كانوا في رئاسة ويسار، وكان المؤمنون إذ ذاك أكثرهم فقراء وكثير منهم موال، فاعتقدوا أن من كان بهذه المثابة كان من السفهاء لأنهم اشتغلوا ما لا يجدي عندهم وكسلوا عن طلب الرئاسة والغنى وما به السؤدد في الدنيا، وذلك هو غاية السفه عندهم.
وفيه: شدة طغيان المنافقين؛ لأنهم أنكروا على الذين عرضوا عليهم الإيمان: {{قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء}} ؛ وهذا غاية ما يكون من الطغيان؛ ولهذا قال الله تعالى في آخر الآية: {{وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}}
{ {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء}} لما كان قولهم {{أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء}} فيه إثبات منهم في دعواهم بسفه المؤمنين أنهم موصوفون بضد السفه، وهو رزانة الأحلام ورجحان العقول، فرد الله عليهم قولهم وأثبت أنهم هم السفهاء، وصدر الجملة بـ «ألا» التي للتنبيه لينادي عليهم المخاطبين بأنهم السفهاء، وأكد ذلك بـ «إنَّ» وبضمير الفصل «هم».
قال ابن عاشور: أتى بما يقابل جفاء طبعهم انتصارا للمؤمنين، ولولا جفاء قولهم {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} لما تصدى القرآن لسبابهم مع أن عادته الإعراض عن الجاهلين، ولكنهم كانوا مضرب المثل: «قُلْتَ فَأَوْجَبْتَ»، ولأنه مقام بيان الحق من الباطل فتحسن فيه الصراحة والصرامة كما تقرر في آداب الخطابة، وأعلن ذلك بكلمة «ألا» المؤذنة بالتنبيه للخبر، وجاء بصيغة القصر على نحو ما قرر في { {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ}} ليدل على أن السفاهة مقصورة عليهم دون المؤمنين فهو إضافي لا محالة. وإذا ثبتت لهم السفاهة انتفى عنهم الحلم لا محالة لأنهما ضدان في صفات العقول.
{{وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ}} وإنما قال هناك { {لاَّ يَشْعُرُونَ}} وهنا {{لاَّ يَعْلَمُونَ}} لأن المثبت لهم هناك هو الإفساد، وهو مما يدرك بأدنى تأمل، لأنه من المحسوسات التي لا تحتاج إلى فكر كثير، فنفى عنهم ما يُدرك بالمشاعر -وهي الحواس- مبالغة في تجهيلهم، وهو أن الشعور الذي قد يثبت للبهائم منفي عنهم.. لكن المثبت هنا هو «السفه»، والمصدر به هو الأمر بالإيمان، وذلك مما يحتاج إلى إمعان فكر واستدلال ونظر تام يفضي إلى الإيمان والتصديق، ولم يقع منهم المأمور به فناسب ذلك نفي العلم عنهم، ولأن السفه هو خفة العقل والجهل بالمأمور والعلم نقيض الجهل، فقابله بقوله: {{لاَّ يَعْلَمُونَ}} ، لأن عدم العلم بالشيء جهل به.
وقيل: لأن اتصافهم بالسفه ليس مما شأنه الخفاء حتى يكون العلم به شعورا ويكون الجهل به نفي شعور، بل هو وصف ظاهر لا يخفى لأن لقاءهم كل فريق بوجه واضطرابهم في الاعتماد على إحدى الخلتين وعدم ثباتهم على دينهم ثباتا كاملا ولا على الإسلام كذلك كاف في النداء بسفاهة أحلامهم فإن السفاهة صفة لا تكاد تخفي.. فظنهم أن ما هم عليه من الكفر رشد، وأن ما تقلده المسلمون من الإيمان سفه يدل على انتفاء العلم عنهم.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
Source link