مثلث الإنسان: قلبه ونفسه والشيطان

منذ حوالي ساعة

“نفسك” هي ساحة المعركة الحقيقية مع الشيطان وهي المعترك، فمن فاز بصُحْبتِها كانت الغلبة له، والنفس قد جُبِلَتْ على حُبِّ الشهوات والملذَّات والميل إلى الدعة والراحة والدنيا…

لقد قمتُ بنشر التغريدة التالية:

“المسلم في مثلث، أضلاعه الثلاثة: هو (أي قلبه)، ونفسه، والشيطان، ومن قوانين المثلثات الهندسية أنَّه إذا جمعتَ طول أي ضلعين، كانا أطول من الضلع الثالث، وهكذا شأن المسلم في مثلثه، فالغلبة دائمًا للضلعين على حساب الثالث، فأنت (أي قلبك) ضلع، والشيطان ضلع وهو عدوُّكَ، لا تستطيع أن تُجمع معه، فبقيت “النفس” الضلع الثالث التي يتنافس عليها الضلعان الآخران فإيُّهما جمعها معه كان هو الأطول والغلبة له! فاجتهد على نفسك، فإن كانت في صفِّكَ كانت الغلبة لك ضد الشيطان“.

 

فسئلتُ عن معناها وماذا أقصد بها والدليل عليها، فأقول وبالله تعالى التوفيق:

الطبيعة الهندسية للمثلث معروفة ومتفق عليها، وهي: أنَّكَ لو قِسْتَ طول أي ضلعين من أضلاعه الثلاثة وجمعت الناتج، لوجدته أطول من طول الضلع الثالث، وهذه حقيقة ثابتة لا تتغيَّر، ثمَّ إني وجدْتُ أنَّ هذه الطبيعة – بعد استقرائي لآيات القرآن الكريم والسنة النبوية التي سأذكرها إن شاء الله لاحقًا – موجودةٌ في الإنسان الرُّوحي في سيره إلى الله مع عدوِّه الشيطان.

 

فالإنسان عبارة عن رُوح وجسد مادي، وحديثي عن الإنسان الرُّوحي الذي هو متمثِّل أولًا: بقلبه الذي هو اللبُّ، وبه العقل والتدبير، وهو الملك المتحكِّم في الإنسان، ثم ثانيًا نفسه التي تعيش بين جنبيه، وهو سائر في هذه الدنيا إلى أن يلقى ربَّه؛ كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6]، ودخل عليه في سيره إلى الله الشيطان ليقطعه عليه؛ ليكون الشيطان بتدخُّله هذا العنصر الثالث في حياة الإنسان، فجعلتُه الضلع الثالث في مثلث الإنسان.

 

فالمؤمن في سَيْره وكَدْحه في الدنيا إلى أن يلقى ربَّه، يُشبِه المثلث في طبيعته، دائمًا الغلبة للضلعين على حساب الثالث: فأنت بقلبك وعقلك ضلع، ونفسك ضلع، والشيطان ضلع، فبذلك يتكوَّن مثلث الإنسان، فأنت والشيطان ضلعان ضدَّان عدوَّان لا تقبلان الجَمْع مع بعضكما – في العموم – فلم يبق إلا ضلع النفس، فأي منكما استطاع أن يستميل النفس نحوه، فاجتمعت معه، كانت له الغلبة ضد عدوِّه الآخر، وهذه هي طبيعة المثلث، فالغلبة للضلعين على حساب الآخر، وهذا يجده أحدُنا في سيره إلى الله تعالى، فأنت مثلًا في صلاتك أحيانًا تخشع في دُعائك وقد تبكي، بينما لا تخشع فيها عند قراءتك للقرآن؟! وذلك لأن نفسك عند الدعاء كانت في جانبك وفي صفِّكَ، فكانت معك ضد شيطانك، فهي عند الدعاء تريد حاجتها من الله تعالى وحَظَّها؛ فلذا هي معك فتكون الغلبة لكما ضد الشيطان؛ قال ابن تيمية رحمه الله: “قال بعض الشيوخ: إنَّه ليكون لي إلى الله حاجة فأدعوه فيفتَح لي من لذيذ معرفته وحلاوة مناجاته ما لا أحبُّ معه أن يُعجِّل قضاء حاجتي خشية أن تنصرف نفسي عن ذلك؛ لأن النفس لا تريد إلا حَظَّها، فإذا قضي انصرفت، وفي بعض الإسرائيليات: يا بن آدم، البلاء يجمع بيني وبينك، والعافية تجمع بينك وبين نفسك، وهذا المعنى كثيرٌ وهو موجود مذوق محسوس بالحسِّ الباطن للمؤمن”؛ (مجموع الفتاوى 10 /333)، وأما عند قراءتك للقرآن فنفسك ليست معك – إلا إذا كنت من الخاشعين – فتكون الغلبة للشيطان، وكذلك إذا مرَّت بقُرْب أحدنا امرأة فإنَّه يجد صعوبة بصرف بصره عنها بل قد يستعيذ بالله من الشيطان ولا ينصرف بصَرُه عنها؛ وذلك لأن نفسك لا تُطاوعك بصرف بصرك عن المرأة، نفسك تريد النظر إليها، فهي في صف الشيطان وليست في صفِّكَ فكانت الغلبة للشيطان.

 

لذا كانت “نفسك” هي ساحة المعركة الحقيقية مع الشيطان وهي المعترك، فمن فاز بصُحْبتِها كانت الغلبة له، والنفس قد جُبِلَتْ على حُبِّ الشهوات والملذَّات والميل إلى الدعة والراحة والدنيا، وفُطِرت على الجهل والظُّلْم، وهي بهذه الصفات تكون فريسةً سهلةً للشيطان، يسهُل عليه إغواؤها فتكون في صفِّه ضدَّك، فالمحصِّلة النهائية لمعركتك الحقيقية هي” نفسك”؛ قال الله تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ…} [إبراهيم: 22]، وقال علماؤنا رحمهم الله: “وقد اتَّفق السالكون إلى الله على اختلاف طُرقهم وتبايُن سلوكهم على أنَّ النفس قاطعة بين القلب وبين الوصول إلى الربِّ، وأنه لا يدخل عليه سبحانه ولا يوصل إليه إلا بعد إماتتِها وتركها بمخالفتها والظفر بها، فإنَّ الناس على قسمين: قسم ظفرت به نفسه فملكته وأهلكته، وصار طوعًا لها تحت أوامرها، وقسم ظفروا بنفوسهم فقهروها، فصارت طوعًا لهم، منقادةً لأوامرهم؛ قال بعض العارفين: انتهى سفر الطالبين إلى الظفر بأنفسهم، فمن ظفر بنفسه أفلح وأنجح، ومن ظفرت به نفسُه خسر وهلك؛ قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37 – 41]، فالنفس تدعو إلى الطغيان وإيثار الحياة الدنيا والرب يدعو عبده إلى خوفه ونهي النفس عن الهوى، والقلب بين الداعيين يميل إلى هذا الداعي مرة، وإلى هذا مرة، وهذا موضع المحنة والابتلاء”؛ (إغاثة اللهفان)، و”أنَّ النفس من أشد أعداء الإنسان الداخليين؛ لأنها تدعو إلى الطغيان وإيثار الحياة الدنيا، وسائر أمراض القلب إنما تنشأ من جانبها؛ ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يسأل الله تزكية نفسه؛ كما في حديث زيد بن أرقم عند مسلم، قال: سمِعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْواها وَزَكِّها، أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاها، أَنْتَ وَلِيُّها وَمَوْلاها»، وكان يستعيذ بالله من شرِّها كما في خطبة الحاجة عند أبي داود عَنْ عَبْدِاللَّهِ قَالَ: عَلَّمَنا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خُطْبةَ الْحاجةِ: «إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا»، وكان يُعلِّم خيرَ أصحابه الاستعاذة من شرِّها صباحًا ومساءً؛ كما في سنن الترمذي عَنْ أَبي هُرَيْرةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، مُرْني بِشَيْءٍ أَقُولُهُ إِذا أَصْبَحْتُ وإِذا أَمْسَيْتُ؟ قَالَ: قُلْ: «اللَّهُمَّ عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهادةِ، فَاطِرَ السَّماواتِ وَالأَرْضِ، رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطانِ وشِرْكِهِ، قَالَ: قُلْهُ إِذا أَصْبَحْتَ، وإِذا أَمْسَيْتَ، وإذا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ»؛ (تزكية النفس لسيد محمد بن جدو بتصرف).

 

ومن ثَمَّ أمر الله تعالى بتزكية النفس ورعايتها، ونهى عن تَدْسِيَتِها كما في سورة الشمس بعد الأقسام العظيمة: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 1 – 10].

 

فتزكيتُك لنفسك وترويضُك لها، وحملُها على الخير، هو ما يجعلها في صفِّكَ وجانبك ضدَّ عدوِّك الشيطان، وهكذا فتحملها على الخير دائمًا حتى تتعوَّد عليه، ويكون من شيمتها فتطلبه، وتُعينك عليه، وإذا تركتها ألفت الراحة واللَّذَّة، ولم تُطاوعك عندما تريد منها الخير كما قال البوصيري في قصيدته:

والنفسُ كالطفلِ إنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ علـى  **  حُبِّ الرَّضاعِ وإنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِـــــــم 

فاصرِفْ هَواها وحاذِرْ أنْ تُوَلِّيَــــــــه  **  إنَّ الهوى ما تولَّى يُصْمِ أوْ يَصـــــــمِ 

وَراعِها وهيَ في الأعمالِ سائِمـــــــةٌ  **  وإنْ هِيَ اسْتَحْلَتِ الْمَرْعَى فلا تُسِــمِ 

كَمْ حَسَّنَتْ لَذَّةً لِلْمَرءِ قاتِلَـــــــــــــــةً  **  من حيثُ لم يَدْرِ أنَّ السُّمَّ في الدَّسَمِ 

وخالفِ النفسَّ والشيطانَ واعْصِهمـا  **  وإنْ هُما مَحَّضاكَ النُّصْحَ فاتَّهـــــــــم 

ولا تُطِعْ منهما خَصْمًا ولا حَكمًــــــــا  **  فأنْتَ تَعْرِفُ كيْدَ الخَصْمِ والحَكَـــــمِ 

 

يقول سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله: “ومعلوم أن الواجب على كل إنسان أن يُبادر بالصلوات الخمس في وقتها في الجماعة، ويُحافظ عليها، ويدَع أشغالَه وقتَ الصلاة، ويدَع النوم وقتَ الصلاة وغير ذلك مما يصدُّه عن الصلاة، ولا شكَّ أن ذلك صعب على بعض النفوس؛ لكن الإنسان إذا روَّض نفسه وجاهدها صارت هذه الأعمال نعيمًا يجده في قلبه، وصارت نفسُه مطيَّةً له في هذا تطاوعه؛ لأنه روَّضها وجاهدها فتكون بعد ذلك مطيةً ذلولًا تُساعِده على طريق الخير؛ لأنه عوَّدَها الخير وروَّضَها عليه، فإذا جاء وقت الصلاة نشط قلبُك، وارتحت لحضورها، وبادرت بكُلِّ سرورٍ وبكل راحة، وهكذا بقية الأعمال، وإذا تساهلت في ذلك وتهاونت بذلك وأطعت النفس الأمَّارة بالسوء في الجلوس على الملاهي، أو في التحدُّث مع الأصحاب، أو في النوم وقت صلاة الفجر أو وقت صلاة العصر إلى غير ذلك، لعب عليك الشيطان وتكاثَف الحجاب عليك وعلى قلبك، واشتدَّ الهوى وعظُم، وضعفت الرغبة فيما عند الله، وصارت الصلاة ثقيلةً وشديدةً؛ لأن القلب قد وهن وضعف بطاعة الهوى والشيطان وما زيَّنَه للعبد من التثاقُل والتعلُّل بما يضُرُّ العبد من الرجاء”؛ ( مجموع فتاوى ابن باز (14/ 26)).

 

فالمؤمن في حياته وسيره إلى الله يجاهد في جبهات متعددة، فهو يجاهد نفسه والشيطان والمنافقين والكفار، ولكن إن هو انتصر في جبهة “نفسه” هانت عليه بقية الجبهات؛ لأنه لن يجاهد وحده بل يجاهد ومعه نفسه تُعينه على جهاده، فهي في صفِّه ضدَّ الشيطان، فتكون الغلبة له، ولن يغلب ضِلْعٌ ضلعين، فاذا أردت أن تكون نفسُكَ معك وفي صفِّكَ ضدَّ شيطانِكَ مثلًا عند غضِّكَ لبصرك، فعليك أن تُلزِمَها بغضِّ البَصَر وتُجاهدها مرة بعد أخرى، وتُذكِّرها بالله تعالى وتُخوِّفها به وتروِّضها حتى تُطاوِعَكَ بعد ذلك، ويكون غضُّ البصر سجيةً لها، وهكذا بقية الأعمال.

 

وأخيرًا أنصح بقراءة مقال “تزكية النفس” لسيد محمد بن جدو؛ لمعرفة خطوات تزكية النفس.

والله تعالى أعلى وأعلم.

____________________________________________
الكاتب: خالد بن صالح الغيص


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

تفسير: (ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم..)

تفسير: (ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا) [الأحزاب (48)] …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *