اتفق المفسرون القدامى أنَّ هؤلاء المسلَّطين على بني إسرائيل قوم كفار، ولا يُشكِل على هذا أن الله سبحانه وصف الذين بعثهم على بني إسرائيل بأنهم عباد له، فكل الخلق عباد لله مسلمهم وكافرهم…
بنو إسرائيل هم أولاد النبي يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، فيعقوب هو إسرائيل، وكان له اثنا عشر ابنًا، وهم يوسف وإخوته، فجميع نسلهم هم بنو إسرائيل، وكان منهم أنبياء وصالحون، وأكثرهم فاسقون؛ كما قال الله تعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات: 112، 113].
وقد فَضَّل الله بني إسرائيل على العالمين في زمانهم، وكثُر فيهم الأنبياء؛ كموسى وأخيه هارون، وداود وابنه سليمان، وأعطى الله بني إسرائيل ملكًا عظيمًا؛ كما قال الله تعالى: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء: 54]، ولكنَّ بني إسرائيل كفروا وتمردوا، ولم يشكروا الله على ما أعطاهم من نِعَمٍ دينية ودنيوية، وجحدوا الحق وهم يعلمونه، فغضب الله عليهم ولعنهم، واستحقوا عذابه في الدنيا والآخرة، وأول فساد عظيم وقع من بني إسرائيل بعد موت النبي سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، الذي أعطاه الله مُلكًا عظيمًا، فكفر أكثر بني إسرائيل وعصَوا ربهم، وبلغ من طغيانهم أنهم اتهموا النبي سليمان بالكفر، فسلَّط الله عليهم من أهلكهم عقوبة لهم، ثم رحمهم الله بعد ذلك، وأعاد لهم دولة وقوة، فأفسدوا في الأرض مرة أخرى في عهد الأنبياء زكريا ويحيى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، فقتلوا يحيى بن زكريا، وقيل: إنهم قتلوا أيضًا زكريا، وأرادوا قتل عيسى، وقتلوا شبيهه ورفع الله عيسى إليه، وطهَّره الله منهم، وبلغ اليهود في ذلك العهد مبلغًا عظيمًا في الكفر والطغيان، فسلَّط الله عليهم من أهلكهم مرة ثانية، وقد ذكر الله في التوراة التي أنزلها الله على نبيه موسى صلى الله عليه وسلم هاتين الإفسادتين من بني إسرائيل، وما سيكون عليهم بعده من عقوبتين؛ وذكر الله ذلك في القرآن الكريم في أوائل سورة الإسراء فقال تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} .
وقد اتفق المفسرون القدامى على أن هاتين المرتين من الإفساد قد وقعتا من بني إسرائيل، ونقل شيخ المفسرين ابن جرير الطبري الإجماع على أن المرة الثانية هي فسادهم الذي وقع فيه قتل النبي يحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام؛ وقال ابن تيمية: “كانت الأولى بعد سليمان، وكانت الثانية بعد زكريا ويحيى والمسيح لما قتلوا يحيى بن زكريا”.
وقد ذهب بعض المفسرين المعاصرين إلى أن المرة الثانية لم تقع بعدُ، والراجح – والله أعلم – ما ذهب إليه المفسرون الأولون، وهو أن المرتين من إفساد بني إسرائيل قد وقعتا، ويدل عليه ما سيأتي من قوله تعالى: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء: 8]، ففيه إشارة إلى أن اليهود ستعود لهم دولة، ويتكرر منهم الإفساد في الأرض، فيعذبهم الله ويهلكهم في الدنيا بأيدي أعدائهم، وإنما ذكر الله تلك المرتين في الكتاب – والله أعلم – لكونهما إفسادين عظيمين واقعين من بني إسرائيل، وأما الإفساد العظيم الحاصل من اليهود في عصرنا الحاضر، فليس حاصلًا من بني إسرائيل، فأكثر اليهود المعاصرين ليسوا من نسل النبي يعقوب (إسرائيل)، فكثير منهم أصلهم من الخَزَر أو الأرْمَن أو الروس أو الأوربيين وغير ذلك من الأمم، ثم إن كثيرًا من اليهود المعاصرين ملاحدة لا يؤمنون أصلًا بالله ولا باليوم الآخر، ولا بالأنبياء، ولا حتى بموسى عليه الصلاة والسلام، وكثير منهم يُصرِّحون بأنهم علمانيون، وهم في نظر اليهود المتمسكين بدينهم المحرَّف مرتدون.
وقد ذكر الدكتور عبدالوهاب المسيري في كتابه القيم (موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية) أنه يوجد ملايين من اليهود الملاحدة أو غير المكترثين بالدين، الذين يسمون أنفسهم مع هذا يهودًا، وأن اليهود الملاحدة قد يرتدون غطاء الرأس اليهودي، ولكنهم لا يؤمنون بالإله، ولا يقيمون الشعائر اليهودية، وحينما يفعلون بعض الشعائر اليهودية يفعلونها من باب التراث الشعبي.
قال الله سبحانه: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء: 5، 6].
اتفق المفسرون القدامى أنَّ هؤلاء المسلَّطين على بني إسرائيل قوم كفار، ولا يُشكِل على هذا أن الله سبحانه وصف الذين بعثهم على بني إسرائيل بأنهم عباد له، فكل الخلق عباد لله مسلمهم وكافرهم، والبعثُ المذكور بعث تكوينٍ وتسخير، لا بعثٌ بوحي وأمر.
ومعنى الآية كما قال المفسرون: فإذا حان وقت عقوبتكم – يا بني إسرائيل – على أول الإفسادين أرسلنا إليكم جندًا من خلقنا أصحاب قوة شديدة، فطاف الجنود الذين سلَّطهم الله على بني إسرائيل بين بيوتهم يبحثون عنهم ليقتلوهم، وكان تسليط الله على بني إسرائيل الجنود الذين يقتلونهم ويدخلون بيوتهم قضاء كائنًا لا بد من وقوعه، ثم أعدنا لكم – يا بني إسرائيل – الغلبة ونصرناكم على أعدائكم، لـمَّا تبتم وأطعتم الله ورسله، وأعطيناكم الأموال والبنين بزيادة وكثرة، وصيَّرناكم أكثر جندًا من أعدائكم.
فالذين سلَّطهم الله على بني إسرائيل في المرة الأولى هم بختنصر البابلي وجيشه، وفي المرة الثانية هم الرومانيون، وقد قضى الله أن يسلط على اليهود من يعذبهم في الدنيا بسبب كفرهم وعصيانهم؛ كما قال الله تعالى عن بني إسرائيل: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف: 167]، فسلَّط الله عليهم بعد تلك المرتين النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابَه رضي الله عنهم، فنصرهم على يهود بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وأهل خيبر، ثم سلط الله عليهم المسلمين بعد ذلك في عهد الخلفاء الراشدين والدول الإسلامية التالية لهم، فكان المسلمون يأخذون من اليهود الجزية وهم أذلة، وعاش اليهود في ظل حكم المسلمين قرونًا عديدة، إلى أن وقع من اليهود هذا العلو العظيم والإفساد المستطير في عصرنا الحاضر بمعاونة ودعم القوى العالمية النصرانية والعلمانية الملحدة؛ قال الله سبحانه عن اليهود المغضوب عليهم: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [آل عمران: 112]، ولا زال الله سبحانه يسلط على اليهود المسلمين المستضعفين في أرض فلسطين؛ تحقيقًا لوعد الله في قوله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف: 167]، وسيسلط الله عليهم المسلمين في آخر الزمان، فيستأصلونهم؛ كما جاء في الأحاديث الصحاح، منها حديث عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تقاتلكم اليهود فتُسلَّطون عليهم، حتى يقول الحَجَرُ: يا مسلمُ، هذا يهوديٌّ ورائي فاقتله»؛ (رواه البخاري ومسلم).
{إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء: 7].
أي: إن آمنتم وأطعتم الله – يا بني إسرائيل – فإنما تنفعون بإحسانكم أنفسكم في الدنيا والآخرة، وإن كفرتم وعصيتم الله، فعلى أنفسكم ضرر إساءتكم، فيسلط الله عليكم في الدنيا أعداءكم، ويعذبكم في الآخرة، فإذا حان وقت عقوبتكم على إفسادكم في المرة الثانية، بعثنا عليكم أعداءكم ليفعلوا بكم ما يُقبِّح وجوهكم بقتلكم وقهركم، وسبي نسائكم وأولادكم، وأخذ أموالكم وتشريدكم، وليدخل الجنود المسجد الأقصى كما دخلوه في المرة الأولى حين عاقبناكم على إفسادكم الأول، فدخلوا المسجد وخرَّبوه، وليدمر الجنود الذين سلطناهم عليكم كل ما غُلبوا عليه من بلادكم تدميرًا.
وقد ذكر المؤرخون والمفسرون والمتخصصون أن بيت المقدس خُرِّب مرتين؛ الخراب الأول على يد بختنصر البابلي، والخراب الثاني على يد الرومانيين، وبعده تفرق اليهود في الأرض وتشتتوا؛ كما قال الله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168]؛ قال ابن تيمية: “بيت المقدس خُرِّب مرتين؛ فالخراب الأول لما جاء بختنصر وسباهم إلى بابل، وبقِيَ خرابًا سبعين سنة، والخراب الثاني بعد المسيح بنحو سبعين سنة… فبعد الخراب الثاني تفرقوا في الأرض ولم يبقَ لهم مُلْكٌ”.
ومن اليهود في عصر الشتات من كان صالحًا متمسكًا بشريعة موسى عليه الصلاة والسلام، منتظرًا بَعثة النبي محمد المبشَّر به في كتابهم ليؤمن به، ومنهم من أدرك بعثته، فآمن به؛ كعبدالله بن سلام سيد اليهود في المدينة النبوية، ولا تزال قلة قليلة جدًّا من اليهود يتوبون إلى الله، ويعلنون الإيمان بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام وبالقرآن الكريم، وغالب علماء اليهود يكتمون الحق وهم يعلمون؛ كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146]، وأكثر اليهود لا يعلمون ما في التوراة، ولا يتأملون ما فيها من تحريفات واضحة، ولا يفهمون ما فيها من البشارات بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام؛ كما قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة: 78]، وأكثر اليهود مُعرِضون عن القرآن الكريم، مع وجود كتب ترجمات معاني القرآن بلغاتهم المختلفة.
{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: 8]؛ أي: لعل الله – يا بني إسرائيل – يرحمكم بعد انتقامه منكم، فيُعزكم بعد ذُلِّكم، ويجعل لكم دولة وقوة، وإن رجعتم إلى الإفساد في الأرض بالكفر والمعاصي بعد رحمتي لكم، انتقمت منكم في الدنيا، فسلَّطت عليكم مرة أخرى من يقتلكم ويذلكم، وجعلنا نارَ جهنم للكافرين فِراشًا يُحبسون فيها، ولا يستطيعون الخروج منها أبدًا.
قال ابن جزي: “وقد عادوا فبعث الله عليهم محمدًا صلى الله عليه وسلم وأُمَّتَه، يقتلونهم ويُذِلُّونهم إلى يوم القيامة“.
قال السعدي: “في هذه الآيات التحذير لهذه الأمة من العمل بالمعاصي؛ لئلا يصيبهم ما أصاب بني إسرائيل، فسُنَّة الله واحدة لا تُبدَّل ولا تُغيَّر، ومن نظر إلى تسليط الكفرة على المسلمين والظلمة، عرف أن ذلك من أجل ذنوبهم عقوبة لهم، وأنهم إذا أقاموا كتاب الله وسنة رسوله مكَّن لهم في الأرض، ونصرهم على أعدائهم”.
وفي هذه الآيات فوائد وهدايات كثيرة، من أحب الاطلاع عليها، فبإمكانه الرجوع إلى رسالتي: (تفسير آيات إفساد بني إسرائيل في الأرض مرتين)، والحمد لله رب العالمين.
____________________________________________________
الكاتب: د. محمد بن علي بن جميل المطري
Source link