منذ حوالي ساعة
ولا تكتفي إيران بالأساليب العسكرية والسياسية للسيطرة على سوريا ولكنها استثمرت أيضاً الكثير من موارد القوة الناعمة في محاولة للتلاعب بالدولة السورية
أنقذت إيران نظام بشار الأسد في سوريا من الثورة الشعبية التي اندلعت ضده منذ أكثر من عشر سنوات بإرسالها معدات وقوات وميلشيات وخبراء عسكريين إيرانيين وأفغان وعراقيين فضلا عن حزب الله اللبناني واستخدمت إيران هذا الموقف وهذه الموارد العسكرية والأمنية للهيمنة والسيطرة على سوريا.
ولا تكتفي إيران بالأساليب العسكرية والسياسية للسيطرة على سوريا ولكنها استثمرت أيضاً الكثير من موارد القوة الناعمة في محاولة للتلاعب بالدولة السورية، مثل برامج تطوير قطاع التعليم والرعاية الصحية والبنية التحتية خلال السنوات العشر الماضية، و في حين أن إيران استعانت بالبنية التحتية الدينية الشيعية القائمة في سوريا فإنها بنت مؤسسات أخرى جديدة وتابعة للإدارة الإيرانية المباشرة، إن الرئيس السابق حافظ والد الرئيس الحالي بشار الأسد، كان يتمتع بنفوذ أكبر في العلاقة الثنائية مع الجمهورية الإيرانية، ولكن بشار الرئيس الحالي تنازل عن قسم كبير من سيطرته على الشئون الدينية لصالح “الحرس الثوري الإسلامي” الإيراني، وبعد سنوات من التدهور في النظام والجيش في سوريا، تراهن إيران على الهيمنة الاستراتيجية علي جمهورية سوريا وليس على إقامة تحالف معها فقط.
وتروج إيران ووكلاؤها للإسلام الشيعي الإثنى عشري ليصبح التشيع جزء لا يتجزأ من هوية الجمهورية السورية في مرحلة التدخل الإيراني، و بذلك فايران تغير السياق الاجتماعي للبلاد، وخلال السنوات القليلة الاخيرة اعتنق آلاف السوريين هذا المذهب الشيعي الإثنى عشري، ويعود السبب في أكثر حالات هذا التحول المذهبي إلى أن ذلك يمنح المتحولين معاملة أفضل من قبل الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران في وقت لا يزال فيه الوضع الاقتصادي داخل سوريا متدهورا لدرجة مزرية جدا تدفع الناس لفعل أي شيء كي يعيشوا ولو عبر التحول المذهبي أو الديني.
وبجانب ذلك فإيران تعزز السياحة الدينية التعليمية الشيعية في سوريا، فحتى منتصف السبعينيات، لم يكن في سوريا مدارس شيعية، لكن اليوم تضم البلاد ما لا يقل عن 70 من هذه المدارس، وتستقطب هذه المدارس الأفراد الشيعة من كافة الجنسيات في سياق ما أطلق عليه “سياحة تعليمية”، ثم يحصل الكثير من هؤلاء القادمين تحت مظلة السياحة التعليمية الشيعية على الجنسية السورية ليصبحوا مواطنين سوريين في النهاية، و فضلاً عن ذلك، غالباً ما تتجنب هذه المدارس التسجيل في وزارة الأوقاف السورية، مما يمنح إيران سيطرة كاملة على مناهجها التعليمية.
وفي أكتوبر 2014 أصدر بشار الأسد مرسوماً يقضي بضرورة قيام وزارة التربية والتعليم السورية بتوفير الدراسات الشيعية الإثنى عشرية كجزء من المناهج الدراسية في المدارس والكليات والجامعات على مستوى البلاد.
وبالتزامن مع ذلك تم فُرض قيود على دور علماء الإسلام السني في التعليم العام، وكانت إيران تدير أساساً العديد من المدارس السورية في 2014، لكن عددها ازداد بشكل ملحوظ في السنوات التالية، كما أسفرت المنح الأكاديمية الجذابة إلى استقطاب الكثير من الطلاب الأجانب الشيعة إلى هذه المدارس الشيعية التي يشرف عليها الحرس الثوري الإيراني.
وبالتوازي مع هذا التغلغل التعليمي الرسمي، أطلقت إيران برامج شبابية أكثر حداثةً مثل “كشافة الإمام المهدي” و”كشافة الولاية”، ويقود “الحرس الثوري” هذه الجماعات التي غالباً ما تكون ضالعة بتدريبات عسكرية؛ وقد جعلها ذلك بمثابة قناة لجذب الأطفال إلى الخطوط الأمامية للقتال ضد المعارضة السورية المسلحة حيث غالباً ما يلقون حتفهم وهم يقاتلون لصالح الميليشيات الشيعية ونظام بشار الأسد.
وتستخدم إيران أيضاً المعونات المالية والعينية لتحتل مواقع مهمة ومفصلية في الاقتصاد السوري، ويشمل ذلك مشاريع في مجالات الإسكان والبنية التحتية، وهذه البرامج تتجه أكثر إلى المناطق المكتظة بالسكان من جمهور أنصار الجماعات العلوية الرئيسية المؤيدة لنظام الأسد، وغالباً ما تعود أهدافها الثانوية بالفائدة على المصالح الإيرانية (على سبيل المثال، تغيير المعالم السكانية المحلية لتعزيز ارتقاء الأحياء السكنية الشيعية).
و تنفق إيران حالياً ما لا يقل عن 6 مليارات دولار سنوياً لدعم الأسد، لكن هذا المشروع واسع جداً ولا يقتصر على قطاع واحد أو مسؤول بارز واحد، على سبيل المثال، لم يؤثر مقتل قائد “فيلق القدس” التابع لـ”الحرس الثوري الإيراني” قاسم سليماني، الذي كان يتمتع بالقوة ويحظى بشعبية كبيرة، على أي من مبادرات القوة الناعمة الإيرانية داخل سوريا، وتعمل جمهورية إيران وفقاً لجدول زمني طويل جدا، يمتد ربما لخمسة وعشرين عاماً أو حتى خمسين عاما، وقد ساهمت برامجها التعليمية ذات الصبغة الدينية الشيعية بشكل مطرد في تربية جيل قد ينتهي به الأمر إلى الولاء الشديد للنظام الإيراني([1]).
ويأتي ذلك كله لأن الجهد المبذول من الإيرانيين في أوساط النخبة والقطاعات الشعبية ليس أقل مما يتم القيام به داخل مؤسسات نظام بشار الأسد؛ لأن هذا المسار يمثل السند البديل والمستدام للجمهورية الإيرانية في سوريا فيما إذا زال نظام بشار الأسد وأسرته، وهو أمر يفكر فيه الإيرانيون ويخططون له بجدية وتركيز.
و في فترة ما قبل الثورة السورية كان النشاط الإيراني محدوداً في خريطته الجغرافية وفي قطاعاته ، لكنه بعد الثورة الشعبية السورية صار النشاط الإيراني أشمل وأكثر تنوعاً وهذا النشاط يتواصل بهذه الوتيرة حتى الآن([2]).
وبجانب ذلك فإن إيران لا تطبق خططا واحدة في كل مناطق الدولة السورية بل إنها تتبع استراتيجيات متنوعة تجاه مناطق سوريا المتعددة اذ لكل منطقة خصائصها السياسية والديموغرافية المختلفة فبشأن المنطقة الجنوبية تعرف إيران جيدًا أن هذه المنطقة لها حساسيتها الخاصة، و تتجاوز كل الحساسيات الإقليمية الأخرى، بسبب تعلق وضع هذه المنطقة بعدد من التوازنات الدولية، و ذلك منذ أن بدأت إسرائيل تحصل على “غض الطرف” من روسيا لعمليات قصف دورية وشبه روتينية للمواقع العسكرية للنظام السوري والمليشيات الحليفة والمُرتبطة به، ومنذ ذلك الحين صارت إيران تقبل بترك هذه المنطقة لما يسعى النِظام السوري إليه من التوافق مع إسرائيل بشكل غير معلن عبر الوساطة الروسية لضبط الأوضاع في هذه المنطقة.
وبذلك صارت إيران تتخلى عن طموحها بتحويل هذه المنطقة إلى منصة توزان واحتكاك مضبوط مع إسرائيل، وضمن هذا المشهد، بات الطرف الإيراني يقبل بسحب قواته والمليشيات المرتبطة به من هذه المنطقة، مقابل توافق واضح مع إسرائيل لعودة النظام السوري لحكم هذه المنطقة على حساب المعارضة السورية المسلحة.
أما في منطقة محافظة إدلب فقد ساهمت إيران في تهيئة كافة التفاصيل التي سمحت للقوى العسكرية هناك بإنهاء كافة التجارب والمبادرات المدنية الديمقراطية، ثم في مرحلة أخرى فعلت ذلك من خلال إفساح المجال للفصائل الإسلامية المتطرفة للقضاء على القوى العسكرية “المدنية” المعارضة، وتحاول في هذه المرحلة أن تسمح للتنظيمات الأكثر تطرفا بالتمدد في هذه المنطقة، وتواجه القوى المهيمنة على هذه المنطقة رفضًا مطلقا من القواعد الاجتماعية هناك، بالإضافة إلى أن القوى الإقليمية والدولية لديها تخوفات من هذه الفصائل، وهو ما يفتح الباب أمام توافق إقليمي دولي يسمح باستعادة سيطرة النظام السوري والمليشيات الإيرانية على هذه المنطقة إلا أن مساعي إيران عبر النظام السوري والقوات الموالية لها لاستعادة إدلب مازالت تصطدم بالمعارضة السياسية والعسكرية التركية تحت غطاء من المعارضة السورية المسلحة ممثلة في “الجيش الوطني السوري” الذي تم تشكيله من المعارضة السورية وثيقة الصلة بالدولة التركية وبدعم عسكري واقتصادي وسياسي حكومي تركي.
و في منطقة شرق الفرات نلاحظ أن استراتيجية إيران أدركت أن الخصائص الجيوسياسية لمنطقة شرق الفرات هي مختلفة جوهريًّا عن باقي مناطق سوريا التي ما تزال خارج هيمنة إيران، لأن منطقة شرق الفرات لها خصائص بالغة الحساسية تجعل من الواجب المتحتم على إيران أن تراعيها في أي استراتيجية تصكها لهذه المنطقة، وإلا فلن تتمكن من ترسيخ استراتيجية للهيمنة على هذه المنطقة([3]).
لأن منطقة شرق الفرات التي تهيمن عليها القوى الانفصالية الكردية هي المنطقة السورية الوحيدة الداخلة في مظلة الرعاية الدولية، فقوى التحالف الدولي، وبالذات الولايات المُتحدة الأمريكية، حددت قواعد اشتباك واضحة في هذه المنطقة، قائمة على هيمنتها هي وحدها على المجال الجوي العسكري من طرف، وعلى حظر أية قوة إقليمية، بما في ذلك النِظام السوري، من شن حرب واضحة على هذه المنطقة تحت أي ذريعة، ويوفر هذا حماية عسكرية أمريكية لقوات سوريا الديمقراطية (الكردية) في هذه المنطقة، وتوفر هذه الحماية رمزية سياسية دولية تؤكد على تمايز هذه المنطقة والقوة المُسيطرة عليها عن باقي المناطق الخاضعة لسلطة المعارضة السورية، وتعتبر القوى الدولية أن منطقة شرق الفرات من أنجح الأمثلة لمحاربة الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط من وجهة نظر الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد الأوروبي.
وترى القيادة الإيرانية أن هذه الحماية الامريكية لمنطقة شرق الفرات تحول الولايات المُتحدة إلى شريك استراتيجي لطهران في دولة تتطلع إيران لتحوز فيها يدا مُطلقة في مرحلة ما بعد تصفية باقي المناطق التي ما تزال تخضع لسيطرة فصائل المُعارضة السورية حتى الآن، كي تحوّل سوريا إلى نموذج سياسي رُبما يكون شبيهًا بالعراق، من حيث التوازن النسبي للنفوذين الإيراني والأمريكي في هذين البلدين، و من جانب آخر يصعب على إيران السيطرة على هذه المنطقة الكردية (شرق الفرات) بشكل كامل كما فعلت في أغلب المناطق السورية الأخرى، مثل شرق حلب والغوطة ومختلف الأرياف السورية، من خِلال الحِصار التام والقصف الدوري، لدفع السُكان والقوى العسكرية في هذه المناطق للاستسلام، فمساحة هذه المنطقة هي أربعة أضعاف منطقتي إدلب والجنوب مُجتمعتين، وهي تُشكل ثُلث مساحة سوريا كاملة، وهذا كله قد يخلق صعوبة لأية استراتيجية إيرانية ساعية للاستحواذ المُطلق على منطقة شرق الفرات التي تهيمن عليها القوة الكردية السورية المدعومة أمريكيا([4]).
ومن هنا تسعى إيران للسيطرة تدريجيا على هذه المنطقة عبر مجموعة من الأساليب المتعددة منها استمالة العشائر العربية وتحريضها ضد الأكراد من جهة ومن جهة ثانية ضرب القوي الكردية المختلفة والمتنافرة بعضها ببعض وفي نفس الوقت دفع تركيا بشكل غير مباشر لتصعيد تهديدها ضد القوى الكردية مما قد يدفع الأكراد للارتماء في حضن نظام بشار الأسد كي يصبح بمثابة مظلة تحمي الأكراد من وطأة الضغط التركي([5]).
وهكذا نرى أن لإيران استراتيجيات وتكتيكات متعددة لإحكام هيمنتها على دولة سوريا ونرى تصاعدها وتقدمها المستمر على أشلاء ودماء وهموم وأحزان مواطني سوريا من أهل السنة أو من المسيحيين سواء كانوا عربا او تركمانا او اكرادا.
********
هذا المقال مجتزأ من بحث كنت كتبته منذ سنتين ولم انشره حتى اليوم.
([1])في رصد استخدام إيران للقوة الناعمة للسيطرة على الدولة السورية اعتمدنا بشكل أساسي على: الرفاعي، علا. (2021). لعبة إيران الطويلة الأمد في سوريا، معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى. واشنطن. تم الرجوع اليها في 24 أغسطس 2021. على الموقع على الرابط التالي: https://cutt.us/aXB01
([2])سارة، فايز (2021). تدخل إيران العميق في سوريا. جريدة الشرق الأوسط. لندن. تم الرجوع اليها في 24 أغسطس 2021. على الموقع على الرابط التالي:
([3])محمود، رستم (2018). توسع الهيمنة الاستراتيجية الإيرانية لتكريس النفوذ في شرق الفرات بسوريا، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة. القاهرة. تم الرجوع اليها في 24 أغسطس 2021. على الموقع على الرابط التالي:
([4])محمود، رستم. نفس المرجع السابق.
([5])نفس المرجع السابق.
Source link