قال أهلُ العلمِ: ” الكفارُ إنما يعوّلون على قوّتِهم وشوكتِهم، والمسلمون يستعينون بالدعاءِ والتضرّعِ؛ فلذا حُقَّ لهمُ النصرُ والظَّفَرُ “
أيها المؤمنون!
النصرُ مطلبٌ للخلْقِ منشودٌ، وغايةٌ كلُّ حرٍّ يبغي إليها سبيلاً. وقد تباينتْ طرائقُ الخلْقِ في الوصولِ لها، وأضاعَ أكثرُهم سبيلَها القويمَ؛ إذ كان مُعتمدُهم على أسبابٍ ماديةٍ لا تصنعُ نصراً، أو تحوطُه حفظاً.
بَيْدَ أنَّ أهلَ الإيمانِ تميَّزوا ببصيرةٍ جَلَّتْ لهم سبيلَ تنزُّلِ النَّصرِ، ومقوماتِ بقائه إنْ هم تمسكوا بها؛ حين استقرَّ في وجدانِهم، وانعقدَ عليه معتقدُهم أنَّ مصدرَ النصرِ الوحيدِ إنما هو اللهُ خيرُ الناصرين؛ فإنِ اسْتُمِدَّ مِن غيرِه فإنما يُطلَبُ النصرُ بالوهْمِ، وما يزيدُه ذلك الطلبُ إلا بُعْداً، ولن يجنيَ صاحبُه إلا الخيبةَ والخذلانَ. هكذا قضى اللهُ سنَّتَه في النصرِ، وأجراها مطردةً بين العبادِ بأوكدِ أساليبِ الحصرِ والتقريرِ، كما قال -تعالى-: {النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126]، ويقول -سبحانه-: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران: 160].
ولما استقرتْ تلك العقيدةُ في قلوبِ المؤمنين؛ طَفِقُوا يبحثون عن السُّبلِ التي بها يُنْزِلُ اللهُ نصرَه مما وردَ به الوحيُ المعصومُ الذي لا يَتسرَّبُ لصدقِ وقوعِه احتمالٌ أو شكٌّ. وكان أعظمُ تلك السبلِ التي يتحققُ بها الجهادُ بالنفسِ، وأرجاها في تنزُّلِ النصرِ الإلهيِّ، وأقربُها في تعجيلِه الاستنصارَ بالدعاءِ مع إعدادِ ما يُستطاعُ من عُدَّةٍ ماديةٍ دون رُكونٍ إليها؛ فقد كان ذا منهجَ الأنبياءِ في طلبِ النصرِ والفتحِ المبينِ وإهلاكِ الظالمين. أُبيدتْ أمةٌ ظالمةٌ غَرَقاً إذ كذَّبتْ نبيَّها؛ وقالت: مجنونٌ وازْدُجِرَ؛ {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر: 10 – 12]، فلم يبقَ منهم على الأرضِ ديّارٌ. ولما لجَّ فرعونُ في طغيانِه، وتاهَ في سلطانِه، وأَمْعَنَ في ظلمِ العبادِ، وكذَّبَ بآياتِ ربِّه؛ دعا موسى -عليه السلام- ربَّه بالنصرِ وإهلاكِ الظالمين، فقال: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 88]؛ فكان دعاءً مسموعاً؛ أنجى اللهُ به المؤمنين، وأغرقَ به الظالمين. والدعاءُ كان قرينَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وسلاحَه الذي يَستنصِرُ به ربَّه، ويُقاتِلُ به أعداءَه.
قال أَنَسُ بْنُ مالِكٍ -رضيَ اللهُ عنه-: كانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذا غَزا قالَ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ عَضُدي، وَنَصِيري؛ بِكَ أَحُولُ، وَبِكَ أَصُولُ، وَبِكَ أُقاتِلُ» (رواه أبو داودَ وصحّحَه الألبانيُّ). وسببُ لَهَجِه بهذا الدعاءِ ما رواه صُهَيْبٌ الروميُّ -رضي اللهُ عنه- إذ يقولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى هَمَسَ شَيْئًا، لَا نَفْهَمُهُ، وَلَا يُحَدِّثُنَا بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «فَطِنْتُمْ لِي» ؟، قَالَ قَائِلٌ: نَعَمْ، قَالَ: «فَإِنِّي قَدْ ذَكَرْتُ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أُعْطِيَ جُنُودًا مِنْ قَوْمِهِ؟ فَقَالَ: مَنْ يُكَافِئُ هَؤُلَاءِ، أَوْ مَنْ يَقُومُ لِهَؤُلَاءِ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: اخْتَرْ لِقَوْمِكَ بَيْنَ إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، أَوِ الْجُوعَ، أَوِ الْمَوْتَ، فَاسْتَشَارَ قَوْمَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالُوا: أَنْتَ نَبِيُّ اللهِ، نَكِلُ ذَلِكَ إِلَيْكَ، فَخِرْ لَنَا، فَقَامَ إِلَى صَلَاتِهِ – وَكَانُوا يَفْزَعُونَ إِذَا فَزِعُوا إِلَى الصَّلَاةِ-، فَصَلَّى، قَالَ: أَمَّا عَدُوٌّ مِنْ غَيْرِهِمْ فَلَا، أَوِ الْجُوعُ فَلَا، وَلَكِنِ الْمَوْتُ، فَسُلِّطَ عَلَيْهِمُ الْمَوْتُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَمَاتَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا، فَهَمْسِي الَّذِي تَرَوْنَ أَنِّي أَقُولُ: اللهُمَّ يَا رَبِّ! بِكَ أُقَاتِلُ، وَبِكَ أُصَاوِلُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ» ؛ (رواه أحمدُ وصحّحَه الألبانيُّ على شرطِ الشيخين).
وقال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ – رضي اللهُ عنه -: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: «اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ»، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9]؛ (رواه مسلمٌ).
وقال عَلِيٍّ – رضيَ اللهُ عنه-: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قَاتَلْتُ شَيْئًا مِنْ قِتَالٍ، ثُمَّ جِئْتُ مُسْرِعًا لِأَنْظُرَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجِئْتُ فَإِذَا هُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ: «يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ» ، لَا يَزِيدُ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى الْقِتَالِ، ثُمَّ جِئْتُ، وَهُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ ذَلِكَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ إِلَى الْقِتَالِ ثُمَّ رَجَعْتُ، وَهُوَ يَقُولُ ذَلِكَ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ (رَوَاهُ الْبَزَّارُ وحسَّنه الهيثميُّ).
وكان ذلك الدعاءُ أعظمَ ما يَنْصُرُ به المستضعفين من أصحابِه؛ روى أبو هريرةَ -رضيَ اللهُ عنه- أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ: «اللَّهُمَّ أَنْجِ عيَّاش ابن أَبِي رَبِيعَةَ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَالْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَابْعَثْ عَلَيْهِمْ سِنِينَ كسنيِّ يوسفَ» (رواه البخاريُّ).
وهكذا ورّث الأنبياءُ أتباعَهم ذلكمُ الاستنصارَ؛ فكان لهم نِعمَ العُدَّةِ كما كان لأنبيائِهم؛ {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 146، 147]، {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 250، 251]، {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 173 – 174].
وكان عمرُ -رضيَ اللهُ عنه- إذا أبطأَ عليه خبرُ الجيوشِ قَنَتَ. قال أهلُ العلمِ: الكفارُ إنما يعوّلون على قوّتِهم وشوكتِهم، والمسلمون يستعينون بالدعاءِ والتضرّعِ؛ فلذا حُقَّ لهمُ النصرُ والظَّفَرُ .
قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ: النصرُ والرزقُ يحصلُ بأسبابٍ، من أوكدِها دعاءُ المسلمين المؤمنين، وصلاتُهم، وإخلاصُهم . والمسلمون في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها قلوبُهم واحدةٌ؛ مواليةٌ للهِ ولرسولِه ولعبادِه المؤمنين، معاديةٌ لأعداءِ اللهِ ورسولِه وأعداءِ عبادِه المؤمنين، وقلوبُهم الصادقةُ وأدعيتُهمُ الصالحةُ هي العسكرُ الذي لا يُغلَبُ، والجُندُ الذي لا يُخْذَلُ؛ فإنهم همُ الطائفةُ المنصورةُ إلى يومِ القيامةِ، كما أخبرَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
أكفٌّ طاهراتٌ ضارعـــــــاتٌ ** تُنيبُ لربِّها ترجو العطــــاءَ
ولم تَبْغِ سوى المولى نصيراً ** وأَعظمتِ الأماني والرجـاءَ
فلم يرددْ لها سُؤلاً وجــــــادَ ** وأنزلَ نصرَه وجَلَا البـــلاءَ
أيها المؤمنون!
إنَّ نصرَ اللهِ قريبٌ؛ قد يُنْزِلُه بدعوةِ خَفِيٍّ صالحٍ، أو عاجزٍ مستضعَفٍ، أو مقهورٍ مظلومٍ لم يجدْ له ناصراً إلا اللهَ؛ فكيف إذا اجتمعتْ في أمةٍ ذاتِ جسدٍ واحدٍ، إنِ اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسدِ بالحُمَّى والسَّهرِ؟! ومِن هنا باتَ نظرُ شُداةِ الفتوحِ والنصرِ مُصَوَّبَ البحثِ عن أولئك الذين يُستنزَلُ بدعائهم النصرُ، كما قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا يَنْصُرُ اللهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِضَعِيفِهَا؛ بِدَعْوَتِهِمْ، وَصَلَاتِهِمْ، وَإِخْلَاصِهِمْ» (رواه النسائيُّ وصحّحَه الألبانيُّ)، وكان يقولُ: ابْغُونِي الضعفاءَ؛ فإنما تُرْزَقُون وتُنْصَرُون بضعفائكم (رواه أبو داودَ وحسَّنه النوويُ).
وذَكَرَ الحافظُ ابنُ عبدِالبَرِّ أنَّ أحدَ ولاةِ الجَوْرِ كان يَفتخِرُ بسطْوتِه ويقولُ: قد ضبطتُّ العراقَ بيميني، وشمالي فارغةٌ؛ يريدُ ولايةً أخرى، فأُخبرَ بذلك عبدُالله بنُ عمرَ -رضيَ اللهُ عنهما- فقال: مُرُوا العجائزَ؛ يدعون اللهَ عليه، ففعلنَ، فخرجَ بأصبعِه طاعونٌ؛ فماتَ منه. ولَمَّا صَافَّ قُتَيْبَةُ بنُ مُسْلِمٍ التُّركِ، وَهَالَهُ أَمرُهم، سَألَ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ وَاسِعٍ، فَقِيْلَ: هُوَ ذَاكَ فِي المَيْمَنَةِ، جَامحٌ عَلَى قَوسِهِ، يُبصبصُ بِأُصْبُعِهِ نَحْوَ السَّمَاءِ، قَالَ: تِلْكَ الأُصْبُعُ الفارِدَةُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مائَةِ أَلْفِ سَيْفٍ شَهِيْرٍ، وَشَابٍّ طرِيْرٍ! وكان صلاحُ الدينِ الأيوبيُّ يَقصدُ في معاركِه الجُمعَ، خاصةً أوقاتَ صلاةِ الجُمعةِ؛ تبرُّكاً بدعاءِ الخطباءِ على المنابرِ، الذي هو أقربُ ما يكونُ إلى الإجابةِ.
أيها المسلمون!
إنما كان الاستنصارُ بالدعاءِ أقوى جالبٍ لنصرِ اللهِ؛ لامتلائه بمعاني التوحيدِ التي لا يَستحِقُّ النصرَ إلا مَن حقَّقَها، ﴿ {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}؛ فالاستنصارُ بالدعاءِ تفريدٌ لمَصدرِ النصرِ الربانيِّ، وحُسْنُ ظنٍّ بكرمِ الإلهِ، وانكسارٌ لجلالِ المولى النصيرِ، وافتقارٌ للربِّ القديرِ، وتبرُّؤٌ من الحولِ والقوةِ، وإقرارٌ بالذنوبِ والإسرافِ في الأمرِ واستقالةٌ لها بالتوبةِ، وتعاهدٌ على الاستقامةِ؛ فهل يَخْذُلُ اللهُ الكريمُ مَن هذا حالُه؟! {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}. قال ابنُ القيِّمِ: وَقَدِ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ أَنَّ خِلَعَ النَّصْرِ وَجَوَائِزَهُ إِنَّمَا تَفِيضُ عَلَى أَهْلِ الِانْكِسَارِ.
وإذا أنزلَ اللهُ نصرَه على عبادِه لم تَصْمُدْ أمامَهم أعتى قوةٍ وإنْ تآلَبَ العالَمُ عليهم وفاقَهم عدوُّهم عَدداً وعُدَّةً، وإنْ أُديلَ عليهم، وأَثْخنَ فيهمُ الجراحَ؛ ثَبَتوا، وصبروا صبْرَ الجبالِ الرواسي، ولم يَهِنُوا، ولم يَستكينوا، ولم يَستسلموا؛ إذ قصارى قوةِ الأعداءِ ما تَفَتَّقَتْ به طاقةُ البَشرِ وجُهدُهم، وقوةُ أولئك البررةِ المؤمنين التي يُقاتلون بها قوةٌ ربانيةٌ لا تَنْفُدُ، ولا تُغلبُ، ولا تُقهرُ؛ وهل يَصمدُ أمامَ قوةِ اللهِ أيُّ قوةٍ؟! ومِن هنا كان النصرُ هو العاقبةَ المُحَتَّمَةَ وإنْ طال الزمنُ، وأصابَهمُ القَرْحُ، وتوارتْ عن العيونِ علائمُ الفتحِ المبينِ، ما دام طلّابُ النصرِ الربانيِّ على شرعِه سائرين ثابتين، ولتنزلِه سائلين مُلِحِّين، ولإعدادِ القوةِ حسْبِ طاقتِهم جادِّين؛ إذ لا يَعلمُ حينَ تنزُّلِ النصرِ سوى مَن يُنْزِلُه -سبحانه-، الذي يعلمُ بحكمتِه متى يُنْزِلُه؟ وأين يُنْزِلُه؟ وكيف يُنْزِلُه؟
ومَن تَعَشَّمَ في الرحمَنِ أيَّـــدَهُ *** وفي التَعَلُّقِ بالأشيَاءِ خُــــذْلانُ
فلْيَعلَمِ العَبدُ مَهما أحرَزَت يَـدُهُ *** سَعْيُ المُجِدِّ بِدُونِ اللّهِ خُسْرَانُ
فَالْجَأْ إليهِ ولا تَركَنْ إلى سَبَـبٍ *** لولا المُسَبِّبُ مَا كُنّا ولا كَانــــوا
Source link