الإنسانية الإسلامية أخلاق الحرب في الإسلام (نموذجا)

إن ثمة إنسانيةً مزعومة، ادَّعاها أهلها حين ضحِكوا على العالم بقولهم: جمعية الرفق بالحيوان، وهل رفقوا بالإنسان حتى يرفقوا بالحيوان، أم أنهم أرادوا حيوانهم هم، لا حيوان المسلمين، وإنسانهم هم، لا إنسان المسلمين؟!

 

إن المجازر التي يشهدها العالم اليوم، مع عدم قدرة القوانين الدولية على ملاحقة أولئك الذين تخلَّوا عن الإنسانية، يجعلنا مضطرين إلى التذكير بـ”أخلاق الحرب في الإسلام”؛ لنعرف الفرق بين الكفر الذي لا يعرف الإنسانية – إلا حيث وجد مصلحته – وبين الإسلام الذي لطالما دعا إلى الخُلُقِ الكريم والإنسانية الرحيمة، وقام بها أهله حقَّ قيام، حال الأمن والأمان، والحرب والسلام، فالحمد لله على نعمة الإسلام، وكفى بها نعمة.

 

أخلاق الحرب في الإسلام:

1- في ديننا إذا قامت الحرب، لا يُقتل إلا المقاتل:

لا يحِلُّ أبدًا أن يتعرض للمدنيين الذين لم يشاركوا في الحرب؛ قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190].

 

قال الشوكاني: “قال جماعة من السلف: إن المراد بقوله: {الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190] مَن عدا النساء والصبيان والرُّهبان ونحوهم”[1]، فالمقاتل فقط هو الذي يُقتل عند مَن يعرف الإنسانية.

 

وعن نافع أن عبدالله بن عمر رضي الله عنه أخبره: ((أن امرأة وُجدت في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم مقتولة، فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان))[2].

 

وقال صلى الله عليه وسلم: «ألَا لا تقتلوا ذرية؛ كل نَسَمَةٍ تُولَد على الفطرة»[3].

 

جاء في وصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه لقائد جيشه: “‌وإني ‌موصيك ‌بعشرٍ: لا تقتلَنَّ امرأةً، ولا صبيًّا، ولا كبيرًا هَرِمًا، ولا تقطعَنَّ شجرًا مثمرًا، ولا تخرِّبَنَّ عامرًا، ولا تعقِرَنَّ شاةً، ولا بعيرًا، إلا لمأكلة، ولا تقطعن نخلًا ولا تُحرِقَنَّه، ولا تَغْلُل، ولا تجبُن”[4].

 

ولم يَنْهَ رسولنا عن قتل المرأة فحسب، بل نهى صلى الله عليه وسلم أن يفرَّق بين الأم وولدها؛ لأن ذلك ليس من الإنسانية، فكيف يرضى به الإسلام؟

 

((قدِم أبو أسيد الأنصاري بسبيٍ من البحرين، فصفَّهم صلى الله عليه وسلم، فقام فنظر إليهم، فإذا امرأة تبكي، فقال: ما يبكيكِ؟ فقالت: ‌بِيعَ ‌ابني في بني عبس – باعه أسيد في حاجة لهم – فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي أسيد: «لتركبَنَّ فلتجيئنَّ به كما بعته بالثمن»، فركب أبو أسيد فجاء به))[5].

 

هذا هو ديننا، وتلك هي شريعتنا.

 

2- في ديننا إذا قامت الحرب، نُهينا عن الغدر والْمُثْلَة:

والغدر معروف، والمثلة تشويه الجثث، فقد كان من وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لجيوشه: «اغزُوا باسم الله، وفي سبيل الله، ‌وقاتلوا ‌من ‌كَفَرَ ‌بالله، اغزوا ولا تغدروا، ولا تَغُلُّوا، ولا تُمثِّلوا، ولا تقتلوا وليدًا»[6].

 

وعن ‌حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: ((ما منعني أن أشهد بدرًا، إلا أني خرجت[7] أنا وأبي حسيل[8] قال: فأخذَنا كفَّار قريش، قالوا: إنكم تريدون محمدًا، فقلنا: ما نريد إلا المدينة، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر فقال: «انصرفا، ‌نَفِي ‌لهم ‌بعهدهم ونستعين الله عليهم»[9].

 

ورغم ما حدث في غزوة أحد من تمثيل المشركين بحمزةَ عمِّ الرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يغيِّر مبدأه، بل إنه صلى الله عليه وسلم هدَّد المسلمين تهديدًا شديدًا إن مثَّلوا بقتلى العدو، فقال: «أشد الناس عذابًا يوم القيامة: رجلٌ قتله نبيٌّ، أو قتل نبيًّا، وإمامُ ضلالة، وممثِّل من الـممثلين»[10].

 

وقد ترسخت هذه الأخلاق؛ أخلاق الحرب، في نفوس الصحابة رضي الله عنهم، حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلغه في ولايته أن أحد المجاهدين قال لمحارب من الفرس: لا تَخَفْ، ثم قتله، فكتب رضي الله عنه إلى قائد الجيش: “إنه بلغني أن رجالًا منكم يطلبون العِلْـَج (الكافر)، حتى إذا اشتد في الجبل وامتنع، يقول له: لا تخف، فإذا أدركه قتله، وإني والذي نفسي بيده، لا يبلغني أن أحدًا فعل ذلك إلا قطعت عنقه”[11].

 

ولم تَرِدْ في تاريخ رسول الله صلى الله عليه وسلم حادثة واحدة تقول بأن المسلمين مثَّلوا بأحد من أعدائهم، أو غدروا بهم.

 

3- في ديننا إذا قامت الحرب، وحصلنا على أسرى، أُمرنا بإكرامهم:

قال الله تعالى في وصف أهل الإيمان: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8].

 

ورُوِيَ أنه صلى الله عليه وسلم كان يُؤتَى بالأسير، فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول: ((أحْسِنْ إليه))[12]، قال ابن عباس: ((أمر رسول الله أصحابه يوم بدرٍ أن يُكرِموا الأسارى، فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الغداء))، وهكذا قال سعيد بن جبير، وعطاء، والحسن، وقتادة[13].

 

وها هو أبو عزيز شقيق مصعب بن عمير يحكي ما حدث معه، يقول: “كنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصُّوني بالخبز، وأكلوا التمر؛ لوصية رسول الله إياهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كِسرة خبز إلا نفحني بها، فأستحيي فأرُدُّها فيردها عليَّ ما يمسها”[14].

 

4- في ديننا نُهينا عن التدمير والتخريب:

وقد سبق ذكر وصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه لقائد جيشه، وفيها: “ولا تقطعن شجرًا مثمرًا، ولا تخربن عامرًا، ولا تقطعن نخلًا ولا تحرقنه”[15].

 

دين يُفتخَر به، ولا عزاء لليهود، عليهم لعائن الله المتتالية.

 

فلم تكن حروب المسلمين حروبَ تخريبٍ كالحروب المعاصرة التي يحرص فيها اليهود على إبادة مظاهر الحياة لدى خصومهم، بل كان المسلمون يحرصون أشد الحرص على الحفاظ على العمران، وظهر ذلك واضحًا في كلمات أبي بكر الصديق رضي الله عنه، عندما وصى جيوشه المتجهة إلى فتح الشام، وكان مما جاء فيها: “ولا تفسدوا في الأرض”[16]، وهو شمول عظيم لكل أمر حميد.

 

5- وفي ديننا لا نُغِير على العدوِّ ليلًا حتى نصبح:

عن أنس رضي الله عنه، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا قومًا لم يُغِرْ ‌حتى ‌يصبح، فإن سمع أذانًا أمْسَكَ، وإن لم يسمع أذانًا أغار بعدما يصبح…))[17].

 

إنها الإنسانية، والأخلاق الربانية.

 

6- وفي ديننا لا نُحرِق بالنار، ولا نُعذِّب بها:

على الرغم – عباد الله – من أن التحريق بالنار كان سائدًا في الحروب قبل الإسلام؛ فعن ‌أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: ((بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعثٍ، فقال: «إن وجدتم فلانًا وفلانًا، ‌فأحرقوهما بالنار»، ثم قال حين أردنا الخروج: «إني أمرتكم أن تُحْرِقوا فلانًا وفلانًا، وإن النار لا يُعذِّب بها إلا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما»[18].

 

7- وفي ديننا، في الحرب، لا نهب، ولا اختلاس، فكيف والحال سِلْمٌ؟

مهما أصاب المجاهدين من جوعة وخصاصة؛ لأن النهب الخيانة، والاختلاس غدر.

 

عن رجل من الأنصار قال: ((خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فأصاب الناس حاجة شديدة وجهدٌ، وأصابوا غنمًا فانتهبوها، فإن قدورنا لتغلي؛ إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي على قوسه، فأكفأ قدورنا بقوسه، ثم جعل يرمل اللحم بالتراب، ثم قال: ‌ «إن ‌النُّهْبَة ليست بأحلَّ من الميتة، أو:  إن الميتة ليست بأحل من النهبة»[19].

 

وعن أبي لبيد، قال: غزَونا مع عبدالرحمن بن سمرة كابُل، قال: فأصاب الناس غنيمةً، ‌فانتهبوها، فأمر عبدالرحمن بن سمرة مناديًا ينادي، فنادى، فاجتمع الناس، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «من انتهب فليس منا»، رُدُّوها، فردُّوها فقسمها بينهم بالسوية[20].

 

8- وفي ديننا، في الحرب، نُهينا عن تضيق المنازل وقطع الطرق:

عن سهل بن معاذ الجهني عن أبيه قال: نزلنا على حصن سنان بأرض الروم مع عبدالله بن عبدالملك، ‌فضيَّق ‌الناس ‌المنازل، وقطعوا الطريق، فقال معاذ: أيها الناس، إنا غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة كذا وكذا، فضيَّق الناس الطريق[21]، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم مناديًا فنادى: «من ضيَّق منزلًا، أو قطع طريقًا، فلا جهاد له»[22].

 

9- وفي ديننا، نُهينا عن قتل الرسل المرسلة من قِبل العدوِّ، أو أسْرِهم:

وذلك من كرم الإسلام وعدله مع عدوه.

 

((بعث مسيلمة الكذاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا، فلما قرأه، قال للرسولين: فما تقولان أنتما؟ قالا: نقول كما قال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله ‌لولا ‌أن ‌الرسل ‌لا تُقتَل لَضربتُ أعناقكما»[23].

 

10- وفي ديننا، نُهينا عن قتل المعاهَد[24]، بل عن مجرد إيذائه:

وحُذِّرنا من ذلك تحذيرًا شديدًا؛ عن ‌عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ‌قتل ‌معاهِدًا لم يَرِحْ رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عامًا»[25].

 

وقال صلى الله عليه وسلم: «أيما رجل أمَّن رجلًا على دمه ثم قتله، فأنا من القاتل بريء، وإن كان المقتول ‌كافرًا»[26].

 

وفي الحديث: «ألَا ‌مَن ‌ظَلَمَ ‌معاهدًا، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة»[27].

 

هذا هو ديننا، وتلك هي شريعتنا، قارن بينها وبين غيرها، تعرف فضل الإسلام، وشرف الإيمان، والله لو لم يكن من مظاهر العدل في الإسلام إلا قوانينه الحربية، لكان ذلك كافيًا في اعتناقه، والعمل به، والجهاد من أجله.

 

---

[1] فتح القدير.

[2] متفق عليه.

[3] صحيح سنن النسائي.

[4] الموطأ: كتاب الجهاد.

[5] صحيح سنن أبي داود.

[6] صحيح سنن أبي داود.

[7] يعني: من مكة مهاجرًا.

[8] اسم والد حذيفة.

[9] رواه مسلم.

[10] أخرجه أحمد، واللفظ له، وحسنه شعيب الأرنؤوط، والطبراني في الكبير، والبزار، وقال الألباني: صحيح؛ [انظر: السلسلة الصحيحة].

[11] موطأ مالك، ومعرفة السنن والآثار للبيهقي.

[12] تفسير ابن جُزَي.

[13] تفسير ابن كثير.

[14] أخرج ذلك الطبراني في الصغير والكبير كما في المجمع، وقال الهيثمي: إسناده حسن، وأخرجه ابن إسحاق في السيرة.

[15] الموطأ: كتاب الجهاد.

[16] سنن البيهقي.

[17] صحيح البخاري.

[18] صحيح البخاري.

[19] متفق عليه.

[20] مسند أحمد.

[21] أَيْ: عَلَى غَيْرِهِمْ بِأَنْ أَخَذَ كُلٌّ مَنْزِلًا لَا حَاجَةَ لَهُ فِيهِ.

[22] صحيح سنن أبي داود.

[23] صحيح سنن أبي داود.

[24] أي: الذي بيننا وبينه عهد، أو الذي أمَّنَّاه من القتل.

[25] متفق عليه.

[26] صحيح الترغيب والترهيب.

[27] صحيح سنن أبي داود.

______________________________________________________
الكاتب: د. شريف فوزي سلطان