منذ حوالي ساعة
هذه الآية حين تتأملها جيدًا، وتفهم دلالتها، تزداد انبهارًا وإجلالًا لله العظيم الذي يكشف لنا مداخل نفوسنا الخفية، ويحذرنا من اتباع خطوات الشيطان الذي بمجرد أن تفتح له باب الغفلة، يلتقم قلبك من حيث لا تشعر…
في أثناء تناول طعام الغداء وعقب صلاة الجمعة، سأل محمدٌ والده عن صحة ما رواه خطيب الجمعة، أنَّ ((من استغفر للمؤمنين والمؤمنات، كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة))، فقال والده: ولِمَ تسأل؟ قال محمد: أحببت أن أتأكد؛ لأُثبِّته في صدري، وأعمل به، ما دامت الرواية صحيحة.
الوالد: أحسنت يا بني، هكذا ينبغي للمؤمن أن يتحرى صحة ما يسمع؛ ليعمل بما سمع عن يقين، وحتى إذا نقلت ما سمعت، تنقل عن علم ودراية وليس كما يفعل – وللأسف – الكثيرُ من المسلمين؛ من عدم التثبت مما سمع، ويسارع – وإن كان بحسن نية – إلى نقل ما سمع لغيره، وقد ينقُل الغَثَّ مع السَّمين، وهو لا يدري خطورة ما يفعل؛ ولذلك نهى الله تعالى في كتابه العزيز عن التلقِّي للأخبار والعلوم والمعارف، دون تتبُّع مراجع ومصادر هذه الأخبار، وهذه العلوم والمعارف، ونشرها؛ فقال سبحانه: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]؛ قال العلماء: “لا تقل: رأيتُ ولم ترَ، وسمعتُ ولم تسمع، وعلمتُ ولم تعلم، وقالوا: يدخل في هذا الظن الذي هو التوهم والخيال؛ وفي الحديث الصحيح: «إياكم والظنَّ؛ فإن الظن أكذب الحديث»؛ بمعنى: يا بني أن تتوهم كلمة أو إشارة أو حركة صدرت من رجل، فتشهد بها، وأنت على غير يقين منها، فتكون قد كذبتَ وإن لم تُرِدِ الكذب، بل وقُلتَ الزور.
وأصل كلمة القفو في {وَلَا تقفُ} هي الاتباع، فيكون المعنى: لا تتبع ما ليس لك به علم، بدافع سوء الظن، فتطعن في عدالة فلان أو نسبه، والتشكيك في تدينه، وغير ذلك، فتنحدر انحدار التجسس، فتكون قد جمعت بين أكثر من ذنب يكفيك منه اثنان تهوي بهما إلى نار جهنم والعياذ بالله؛ وهما سوء الظن، والتجسس، وهذا ما يقع فيه الكثير من الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
يا بني: هذه الآية حين تتأملها جيدًا، وتفهم دلالتها، تزداد انبهارًا وإجلالًا لله العظيم الذي يكشف لنا مداخل نفوسنا الخفية، ويحذرنا من اتباع خطوات الشيطان الذي بمجرد أن تفتح له باب الغفلة، يلتقم قلبك من حيث لا تشعر، ويقودك وأنت أعمى البصيرة إلى دَرَكات الخطايا والذنوب، نسأل الله العافية والسلامة.
قال محمد: هل كل أولئك كان عنه مسؤولًا؛ يعني: السمع والبصر والفؤاد؟
الوالد: نعم، فالسمع مسؤول عما سمع ومحاسَب عليه، والبصر مسؤول عما رأى ومحاسب عليه، والفؤاد مسؤول عما توهَّم وتخيل، واعتقد وظنَّ، ومحاسب عليه، ونجاة وفلاح المؤمن في سمعه وبصره وفؤاده أن يُحسِنَ اختيار مصادر معلوماته وعلومه ومعارفه بمن يثق في حسن تدينهم وصدقهم، ومراقبتهم لله تعالى، وأن يحسن الاستماع وليس السماع الذي يدل على إعمال عقله وفكره فيما يسمع، وليس في السامع المتلقي دون فحص وتدقيق لِما سمع، وألَّا ينقل إلا ما كان علمًا يقينًا اطمأن لصحته وجودته، وأما البصر فلا ينقل كل ما رأت عيناه حتى يجمع بين ما رآه، وبين ما سمعه، والاحتراز يقتضي ألَّا ينقل ما رآه إلا إن طُلِب منه فاقتضت المصلحة ذلك، دون إضافة تأويل أو تبرير، أو تخيل أو وهم، أو تحليل، وتكون مشاهدة مباشرة عينية واضحة، وأما الفؤاد فيضبطه بضابط العقل الدارس الباحث، الذي يقرر ما رأته العين، وما سمعت الأذن، دون التأثر بالعواطف أو الانفعالات النفسية، من غضب أو حقد أو بُغْضٍ أو أحكام مسبقة، أدلته الحجة القوية الصريحة، ومراده إحقاق الحق، ومجانبة الباطل والهوى.
قال محمد: ما شاء الله، جزاك الله خيرًا، أسهبت في كشف دلالات ومعاني هذه الآية العجيبة، نسأل الله أن يوفقنا لحسن الفهم، وحسن العمل، لكنك – يا والدي – لم تُجِبْني عن سؤالي في صحة حديث: «من استغفر للمؤمنين والمؤمنات، كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة».
الوالد مبتسمًا: يا بني، أنت سمعت هذا الحديث، وتحب التأكد من صحته، وهذه مكتبتي فابحث؛ حتى تخرج واثقًا من صحة الحديث أو ضعفه.
هزَّ محمد رأسه موافقًا مبتسمًا: فهمت ما ترمي إليه يا والدي العزيز؛ فهذه البداية والدرب الطويل، لكن ثمراته يانعة القطاف، عذبة المذاق، نسأل الله العون والتوفيق والسداد.
الوالد: ذكَّرتني بقول الحق سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71]، فما قلته من السداد في القول، وسداد القول يجُرُّ إلى صحة العمل، وصحة القول، وصحة العمل من التقوى الذي هو سلوك الفؤاد، وكل ذلك من طاعة الله وطاعة رسوله، والعاقبة هي الفوز العظيم.
____________________________________________________________
الكاتب: عبدالرحمن محمد أحمد الحطامي
Source link